سلة وجُحر وسرير

الاثنين 2021/03/01
لوحة خالد تكريتي

سلّة

أخذتُ أُلمْلِمُ العصافير التي تناثرتْ في الحاكورة، كادت السلة تمتلئ حين أطلّ أبي صائحاً: كُفَّ… عُدْ أدراجك، نظرتُ في وجه أبي، ثمّ في السماء الملبَّدة، تأملتُ السلة طويلاً، آلمني أن العصافير فيها ميّتة، أمسك أبي بيدي، وشدّني كي أسرع. المطر عاد مع رياح أّشدّ هذه المرّة.

 أقَضَّ مضجعي صوتُ مُواءٍ غريب، تخيّلتُ القطط الليلية السوداء تتلذّذ بعصافيري، ندمتُ على الاستجابة لأبي حين منعني من إدخال السلة، لا تُدخل الموتى، قال. فأجبتهُ: هي عصافير يا أبي. أليستْ ميّتة؟! بلى يا أبي غير أنها تظلّ عصافير.

صوت المطر في الخارج يعلو، وحركة الأشجار يصلُ حفيفُها إلى أذنيَّ كأصوات أشباحٍ راقصة، أذهلنا أنّ موجة مطر وريح تفعل في المحيط ما فعلته، كأنّ حبّاتِ البَرَد حصىً يتساقط، وارتطامَ الأشياء وتطايرَها معركةٌ بالسيوف. أصواتٌ غريبةٌ تظهر وتختفي، والعصافير التي هاجرتْ من مكان ما تتفاجأ بقدرها الغريب في حقلنا، لو لم أطِعْه، لحرستُ الأجسادَ الصغيرةَ وحَمَيْتها من موتٍ مضاعف.

تحوّل غضبي من أبي إلى شعور بالجفاء لازمني طيلة فصل الشتاء؟! صمتٌ ظَلَّ يتلبّسني كلّما جلستُ في حضرته يتحدث إلى ضيوفه، لا تخلخله إلّا نظرةٌ جانبيّةٌ منه، تأمرني بإحضار الشاي، أحضِره.. ثمّ يرمقني لجمع الأكواب الفارغة، أجمَعُها. لا أتململ. كأنما أجنحتي مفرودةٌ دوماً استعداداً لسرعة الاستجابة، كأنني واحد من العصافير التي حلّقتْ وحلّقتْ إلى نهاية لا تعلمها، كنتُ أحدِّث نفسي، هل ستمرّ موجةٌ، فتكسّر أجنحتي، تخلعها، فأسقط؟! وكان سؤالٌ أكثر إلحاحاً، يَفِزُّ في صدري، فيعتريني كحُمّى: هل ستجدني سلةٌ فتحتويني؟

جُحْر

ألهو في حاكورة الدار، تلهو أفعى حولي، ألمحُها، فتختفي في جُحْرٍ في الحائط، وحين أركض باتّجاه الحائط لا أجد جُحْراً، ظللتُ يومياً أترقّب ظهورها، ولمّا اصطحبتُ أبي إلى السّوق، تركتُ هناك يده مسرعاً باتجاه هنديٍّ ظهر منذ بضعة أشهر، وذاع صِيتُه، عمل في البداية مساعداً في بيع الخضار عند تاجر الحيّ، ثم أخذ مجلسه أمام محلّه لمّا غاب، حيث قيل إنه سافر إلى بلاد شرق آسيا؛ لإقامة بعض الصفقات التجارية إثْر وقوعه على كنزٍ في جُحْرٍ قريبٍ من أحد البيوت، وفتّش الناس في بيوتهم وحولها عن جُحْر يؤكّد ذلك، ولم يجدوا، انتظروا عودته لسؤاله طويلاً.

لم أتمالك نفسي من الدهشة فور وصولي إلى حيث الهندي، وأنا أراه ينفخ في نايٍ بين يديه، وأفعى تُطِلُّ بخفّةٍ، وتنسلُّ من بين حبّات الكيوي التي صُفَّت على نحوٍ لافتٍ في سلّة.

سرير

يومها هربتُ من أخي الذي يكبرني بأعوام، وما أنْ أنهى العدّ إلى رقم عشرة، حتى كنتُ قد وجدتُ الخيارَ الأنسب أن أمدَّ جسدي مختبئاً تحت السرير، عتمةُ المكان كانت مغويةً بإضفاء التشويق على اللعبة، سمعته يقول: حامي حامي بارد بارد، بين اقتراب وابتعاد، وسرعان ما غاب صوته، فاشتدتْ رغبتي بالركض إلى الحائط منتشياً: كومّستير.

 ما أن اعتادت عيناي العتمةَ حتى رحتُ أتأمّل الأشياء التي دحَشَتْها أمي تحت السرير؛ لتخفيها عن أعيننا، وددتُ أنْ أنادي: أوووه… كشفتُ مخبأكِ السرّي، هنا إذن تخفين ألعابي حين تعاقبينني! وحضنتُ دُبّي المفضَّل سعد، نظر إليَّ وابتسم بحنان، وأمسك بيدي، وشدّني إلى الزاوية الأخيرة تحت السرير، وقفتُ حينها، فانفتح بابٌ خشبي قديم أمامنا، وَلَجْناه بسرعة، مشينا قليلاً حيث وجدنا باباً آخر انفتح على حديقة واسعة، كانت سماؤها تعجّ بالعصافير، والأفاعي يزحفنَ بغَنَجٍ جوار جدول ماء ضيِّق، ألقى سعد التحية عليها، فردّتْ بحياء، لم أرتعد خوفاً منها، ولم أصرخ رعباً، نظرتُ بألفةٍ حولي، وابتسمتُ كثيراً، وددتُ أنْ أحلِّق حينها، لم أُكمِل أمنيتي، إذ وجدتُني نحلةً كبيرةً، بخفّة طِرتُ، وحَطَطْتُ على كتف سعد، داعبني بمخالبه بلطف، سألته: ألمْ تعهدني عدوّاً لك؛ فالنّحل عدوّ الدّببة؟ اكتفى بصمتٍ ذي مغزى، مشينا بين الأزهار الملوّنة، وكلّما وصلنا زهرةً، مصصتُ رحيقها، وعدتُ إلى كتفه.

 لمحتُ الهنديَّ تحت شجرة بلّوطٍ بعيدة يعزف على نايه بهدوء، طِرْتُ إليه، سألته عن تاجر الحيّ الذي ابتعد ولم يعد، فظنّني ذبابةً، حاول أن يكشّني، ولمّا أبيْتُ، سار بتُؤدة وهدوء، وسرعان ما ابتلعه ظلٌّ بعيد.

خريرُ الماء وزقزقةٌ لذيذةٌ وحفيفُ شجرٍ وارف أشعرتْني جميعُها بالغِبطة، غير أنّ سِلالاً كثيرةً مرتّبةً بشكلٍ دائريٍّ حَولي، نبّهتني إلى دُبِّي الذي اختفى فجأةً، فشعرتُ بالوحشة رغم أُنس المكان، أخذتُ أنادي بصوتٍ عالٍ: يا سعد يا سعد يا سعد…، وكلّما صرختُ، زحفتْ أفعى، وقفزتْ إلى سلّة، ونزل عصفورٌ فوَقَفَ على طرفها، ولمّا وجدتُني محاطاً بسلّاتِ الأفاعي والعصافير، مدّ أبي يده يسحبني من تحت السرير.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.