سلطة الظل الرقمي في مسرح مايم خيال الظل العربي
الظل ظاهرة كونية بصرية، تشكل جزءا من البنية المعرفية للإنسان، يرتبط بالمفاهيم النفسية والاجتماعية والفلسفية والجمالية. وللظل وجود فني بصري دلالي لا يدركه سوى مَن أرهق النفس طويلا في التأمل، وفي كشف الحقائق الفلسفية للظل، ليتحول إلى وجود جمالي ومعرفي أوسع من الشكل البصري المجرد. الظل مرتبط بهاجس الإنسان الأساسي وهو الموت، فوجوده دليل على وجود الجسد وحيويته. في الحياة والفن لا يعني الظل الشكل الحقيقي للجسد (الظل/ الأصل)، وليس هو بالضرورة الشكل المطابق للظل، فعدمية الشكل تفرض إلغاء مبدأ المطابقة، وهنا تكمن لغة الظل وأهميته في عالم الفن، وبالتالي يصبح أداة للتعبير عن مفهوم الاختلاف والتضاد وفرصة اللعب والتشويه. تشويه الظل يطابق صورة الحقيقة من الداخل.
الظلٌ لا يشبه ظله أبدا، ظلٌ تكمن حقيقته في الاختلاف، ذاك هو مبدأ خيال الظل. يقول غوته “حيث يوجد الكثير من الضوء يكون الظل عميقا” وقويا وجبارا، يتحرر فيه الخيال لحظة التوحد والانصهار مع الظل، تتشكل حوارية إيمائيةٌ ظليةٌ صامتةٌ، توقظ النوازع والمخاوف والأحلام والكوابيس، سلطات تتصارع وتهيمن على الذات وتحدد سيرورتها وتكشف المخفي والمستور. تجربة توقظ ظل الخيال وأسراره، أشباح تكشف حجم الصراع الداخلي والتطلعات، فالظل هو الحقيقة والآخر حتما. وخيال الظل، هو من أقدم وأعرق الفنون التي عرفها الإنسان والأقرب إلى ذاته.
مايم خيال الظل (mime Shadow): فن مسرحي حداثوي إيمائي ظلي متكامل، ذو حدث، أو قصة يقدمها ممثلون حقيقيون يعرضون خيال أجسادهم على شاشة بيضاء كبيرة تفصل ما بينهم وقاعة الجمهور، والظل ناتج عن توسط جسد المؤدي ما بين الشاشة ومصدر ضوء قوي، هو الراوي الوحيد عبر إيماءاته الدالة على الشخصية والحكاية والحدث الدرامي المتنامي، راسما بطريقه ظل بيئة الحكاية ومكانها مع وسيط حسي يرافق أداءهم المؤثر الموسيقي طيلة مدة العرض.
لغة الظل المعاصرة هي لغة الفكر والحركة والإيماءة والجسد والإيقاع والضوء والظلام، ولغة الذهن والتجريد البصري، التي يظهر فيها اهتمام الإنسان بالجمال والتعبير، كونه يستهدف التأمل الصرف، ويكون تأثره من خلالها واضحا، ويؤثر في حواسه وإدراكه الذهني والجمالي. العمل المسرحي مايم خيال الظل (المابعد حداثي) ما هو إلاّ عالم جمالي صوري ظلي تقني رقمي ساحر متفاعل، تدخل عناصره المختلفة في شبكة علاقات دلالية، تنتظم تبعا لسياق الخطاب الموظف فيه، تجمع التقانة الرقمية مع الإبداع الذهني (الآلة والإنسان).
الظل الرقمي هو الظل الناشئ عن استخدام برامجيات الكمبيوتر الخاصة بتقانة الصورة والفيديو ومؤثراتها في إنتاج ظل شبيه أو مخالف للأصل (أصل الظل) لأغراض فنية ودلالية وجمالية، لخلق شخوص ظلية بديلة أو أفعال وحركات ظلية افتراضية تنوب عن عمل الظل الأصلي للمؤدي الإيمائي (مايم ظل)، كما تعين على خلق فضاءات دلالية سينوغرافية ظلية لا يمكن لفنون الظل الكلاسيكية من خلقها، إذ يمكن خلق فضاء ظلي افتراضي بألوانه وأشكاله، كما يمكن من تحديد زمان ومكان بيئة الحدث الظلي الدرامي عبر اللون والشكل الذي لم يكن بالمستطاع من خلقها في الأشكال الدرامية الظلية الإيمائية السابقة (الكلاسيكية والحداثوية) المعتمدة حصرا على اللون الأبيض والأسود، تحقق المتعة الجمالية والبصرية والتواصل الدلالي والصوري مع المتلقي المعاصر، ولأجل إنتاج الظل الرقمي وتصميمه، ضرورة وجود تقني رقمي مختص ببرامجيات مونتاج الكمبيوتر الصورية والسينمائية، يرافق إنجاز وإنتاج العمل ويعدً شريكا أساسيا فيه. الظل الرقمي( Digital Shadow) إذن: مزيج ما بين التكنولوجيا والإبداع يتجسد في تغيير ثقافة التعبير الفني، ويُعطي عصرا بصريا جماليا جديدا. إنه الظل البديل عن الأصل لأغراض جمالية وفكرية عميقة الدلالة.
السندباد
لقطة من عرض مايم خيال الظل "السندباد" (العراق)
كتبت سيناريو العرض الإيمائي الظلي “السندباد”، وأخرجته لورشة دمى للتمثيل الصامت وخيال الظل في بابل، وأنتجته الفرقة الوطنية للتمثيل في دائرة السينما والمسرح العراقية. وقد وظفت فيه التقانة الرقمية، وبرامجيات المونتاج (الصوري والسينمائي) في خلق الفضاء الافتراضي الظلي. حكاية العرض يرويها ظل يعيش الاغتراب، رحلة يمتد عمقها نحو جذور روح تبحث عن مستقر لها، هاربا من المدن الغريبة، ظل لمْ يتعب من السفر، السندباد ليس سندباد ألف ليلة وليلة، بل ظل يمثلنا جميعا ويكشف حجم مأساتنا وحيرتنا، وأحلامنا التي لا تتحقق. في العرض ليس ثمة علي بابا ولا ياسمين الطائرة المسحورة اللطيفة، بل توجد ظلالنا التي ترحل وتتجول باحثة عن وجودها. رحلة افتراضية يحاول كادر العرض تجسيدها لعلنا نصل إلى الحلم المنشود بين طرقات الخوف والموت، يضيع فيها العمر هباء. كل منا سندباد، يحمل حكايته ليرويها، إنها حكايات الظل، حكايات الحقيقة التي نرى أنفسنا فيها.
“السندباد” جدلية الوجود والعدم، شخصية “السندباد” السفير المادي والروحي للإنسانية المعذبة، التي تبحث عن الاستقرار والأمان الروحي، رحلة افتراضية تبدأ من النشأة الأولى لظل الشخصية ورحلتها في عالم المثل، ومن ثم ارتكابها الخطيئة الأولى ونزولها إلى العالم الأرضي، وصراعها مع الشخصية الأرضية التي تمثل الواقع، لتمنعها من تحقيق حلمها في الاستقرار، والأمان، والسلام، حتى في حلم العودة. كما تكشف التجربة الظلية جزءا من الواقع العراقي ليمثل الواقع العالمي.
يتألف العرض من 13 مشهدا ظليا، ومدته 33 دقيقةً استخدمت في تشكيلها وخلفياتها التقنية الرقمية والبرامجيات البصرية الحديثة مثل (3D ماكس، البكسل، افتر افكت… الخ). تسعة برامجيات تراكبت وتعاضدت لتشكيل الصورة الظلية، فكل المشاهد تم تصميم أغلب شخوصها الدرامية (شكل الظل الرقمي الحي/ الشخصية الظلية الدرامية) وحركاتها وإيماءاتها وأفعالها، والخلفيات والأرضيات والبيئات الافتراضية والخيالية المرافقة للظل الرقمي والمؤثرات البصرية عبر التقانة الرقمية، كما أعانت على إضافة المؤثرات البصرية والصوتية لتحقق الأثر الطبيعي للشكل، والحدث الدرامي الظلي، فيكون المنظر الظلي والسينوغرافي وشخوصه الدرامية البديلة رقمية في التصميم والتنفيذ، مسؤولة عن تحقق (السرد الدرامي الرقمي) في المشهد الظلي الإيمائي، الذي انتفت عنه لغة الكلمة المنطوقة لتنوب عنها إيماءات الظل وأفعاله مع الصورة الرقمية المتحركة والفاعلة في المشهد.
عمدت تارة بين التصميم الظلي الكامل في برامجيات المونتاج السينمائي والصوري (مشهد ظلي رقمي كامل) في التصميم والتنفيذ، أو التفاعل الآني للمؤدي الإيمائي مع الظلال الرقمية المنتج سابقا (رقمي جزئي) ليكون التفاعل الآني في لحظة العرض مع الظلال الرقمية، أو وضع ظل المؤدي الآني في لحظة العرض وسط فضاء تقني رقمي. بهذا الوصف يصبح العرض الظلي (مايم خيال الظل) تسود وتتسلط فيه التقانة في السرد والوصف والتشكيل والأداء والتفاعل والخلق (البصري والسمعي)، يسلب من العرض ظله التفاعلي الأصلي الحقيقي ويمنحه درجة الحد الأدنى من الظل (ميناميلية الظل الأصلي)، ينزع من التجربة تجنيسها المسرحي ويقربها إلى فضاء الفرجة السينمائية المعاصرة والفوتوشوب إلى ما يمكن أن نطلق عليه الآن (مايم خيال الظل الرقمي) الما بعد حداثوي.
تنطلق مقولة سلطة النص الظلي وتستند إلى ما كان قد طرحه ميشيل فوكو من تلازم لمفهومي القوة المعرفية والسلطة وما يؤديانه من دور في تفكيك بؤرة البنية الداخلية لأي مادة من الممكن أن تكون موضوعا لتلازمها. فالمتلقي للظل الرقمي لا يقوى على الانفلات من سلطة خطاب الظل الذي يأسر مدركاته الحسية والعقلية فيبني صورة ذهنية ضمن خارطة التقانة الرقمية التي تحيل الظل الرقمي إلى ظل شعري وجمالي يسيطر على وعي المتلقي وبشكل كامل.
وبهذا المعنى يمارس الظل الرقمي سلطة قرآتية معنوية على متلقيه، فضلا عن ذلك يرضخ المتلقي تحت قوة المعرفة التي اختزنتها هويته الثقافية والتي لا يمكن بكل الأحوال الانفلات أو التبرؤ من تبعيتها، وفي تجربة “السندباد” طرحت هاتان السلطتان، تضاف لهما سلطة التقانة الرقمية وأثرها الجمالي على بنية النص والصورة الدلالية للعرض الإيمائي الظلي عبر توسيع ساحة الأثر الشكلي والدلالي والجمالي والتقني على بقية بنية عروض خيال الظل الحداثوية والكلاسيكية النمطية التي تعتاد التمسك بالأعراف والتقاليد الفنية في الحركة العمودية والأفقية للمؤدي (تقاليد الأداء) وجدلية اللون (الأسود/ الأبيض) والصور النمطية، ليشكل “الظل الرقمي” هنا سلطة احتلال تقنية كلونيالية (فكرية، جمالية) تغير من نمطية العرض الظلي، وتطيح بتقاليده الراسخة لصالح سلطة التقانة الرقمية، من حيث التعدد اللوني والشكلي والصوري والإيقاعي والفضاء الجديد الواسع خارج إطار الضوء وحدوده إلى مساحات وفضاءات بعيدة الحدود لمناظر وبيئات صورية طبيعية (فيديوية)، أو مصنعة (رقمية) ليغير من جنس العرض الظلي إلى جنس درامي هجين، يطيح أو يقوض تقاليد الظل الكلاسيكية نهائيا، يصبح “الظل الرقمي” البديل الرقمي للظل المعاصر (ما بعد حداثوية مايم خيال الظل)، وعنوانا يشير إلى سلطته الجمالية والدلالية والفنية داخل بنية العرض من جانب وخبرة المتلقي من جانب آخر.
لقطة من عرض مايم خيال الظل "السندباد" (العراق)
عرض “السندباد” يقدم أشكالا وبنى تتصارع على نحو غريب (تقنية، فكرية)، ويكشف عن حجم القوة المعرفية التي تحملها الهوية الثقافية للذات العراقية (المتلقي) بكل محمولاتها إزاء حجم سلطة الدولة، التي أفضت بدورها إلى مؤسسات سلطوية أصغر (دينية، عرفية، براغماتية، قانونية، قبائلية، مجتمعية…)، إذ عملت على تذويب وتفكيك الذات من الداخل، فآلت إلى ما آلت إليه الأحداث من مآس، فعرض رحلة “السندباد” إلى إعادة دمج الذات مع تاريخها عبر استعراض تلك المحطات التي مرت بها، فالسندباد هو الأنا المرتكزة فينا، والتي تحيل إلينا بوصفها مرجع أو سرد الرحلة من حيث المفهوم والأداء فما هي إلا محاولة لملمة الهوية ولا بد للتشتت القرآتي لدواخلنا أن ينتهي عند حد وجودي يؤسس إلى رؤية مستقبلية آتية لبدء رحلة جديدة.
يتم تصميم وإنتاج الظل الرقمي وفق أساليب ثلاثة يمكن إيجاز آلية العمل التقني وفق التالي:
أولا: “الظل الكامل” خلق صورة الظل (الشكل، اللون، الحركة) داخل منظومة التقانة الرقمية وبرامجياتها تصميما وتنفيذا، من دون الاستعانة بأي مصورات أخرى تدخل من ضمن تصميم الظل الرقمي البديل. وهو من أصعب التصاميم لاعتماده مهارة المصمم وخبرته التقنية في التنفيذ والتصميم، شبيه بعمل التقني الرقمي (الغرافيك والمونيتير) في السينما المعاصرة لصنع الشكل والحركة الإيمائية والفعل الدرامي، والعلاقات ما بين الظلال والفضاء والبيئة الافتراضية، أي صنع شخصية متكاملة في الشكل والحركة والفعل الدرامي داخل المشهد الظلي تقدمه الظلال الرقمية، أو يشارك الظل الرقمي ظل المؤدي الحقيقي المتفاعل مع الظل الرقمي في تشكيل وتقديم الفعل الدرامي .
ثانيا: الظل الجزئي عبر إدخال الصورة أو الفيديو في البرامجيات وتحويل جنس الصورة إلى صورة ظلية افتراضية شبيهة بالأصل ورفع البعد الرابع الذي تمتاز به صورة الأصل ليبقى بعدا الطول والعرض، ويتم ذلك عبر تفريغ الصورة من خلفياتها أو أخذ الصورة أو الفيديو في غرفة خاصة بالتصوير ذات جدران خضراء (كرومه) لتتم إضافة اللون الأسود أو ألوان أخرى على حسب فكرة المخرج، أو إضافة خلفيات لصورة الظل تحقق دلالة المكان والزمان المفترض في المشهد وهو يصعب تحقق دلالته في أسلوب الظل الحداثوي، وإضافة المؤثر الموسيقي على شريط الظل البديل لتحقيق الفعل الدرامي .
ثالثا: عبر تصوير الفعل الظلي الحقيقي رقميا كاملا (المعروض على الشاشة البيضاء) وتحويله في برامجيات الكمبيوتر إلى فيلم رقمي بإضافة الأشكال الظلية والألوان والمؤثر الموسيقي وإضافة الخلفيات التي تمنح مساحة فرجوية بصرية للمشهد وبعدا فضائيا كالممرات والشوارع مثلا. أي يتحول الظل الحقيقي المصور إلى فيديو ظلي رقمي (بديل عن الحقيقي) مضافة عليه التعديلات الشكلية والحركية والإيقاعية واللونية الموسيقية والمؤثراتية تعرض على الشاشة البيضاء جزءا من العرض المسرحي بفضاء افتراضي جديد (سينوغرافيا الظل)، عرضا تقانيا رقميا متكاملا يجمع الظل مع التقانة.
تجربة (السندباد) الظلية تختلف عن باقي التجارب الظلية من حيث اعتمادها على الأفق التقني في تشكيل فضاء العرض بعيدا عن الأسلوب السابق الذي كان يركن إلى استخدام الأسلوب والأداء المعروف في الاعتماد على قدرات الجسد في السرد الإيمائي وتكوين فضائه، والاستغناء عن استخدام الأدوات التي تشكل الظل مثل استخدام الشفافيات. في عرض “السندباد” جرت الاستعانة بقدرة الصورة الرقمية على تشكيل البيئة الظلية الثلاثية الأبعاد (الطول والعرض والعمق)، كما أمكن إضافة البعد الآخر للأشكال وهي اللون والخامة للشكل والفضاء الافتراضي والجمع بين الفضاءات والأزمان المتعددة والتنقل السلس من زمان ومكان إلى آخر لم يكن من السهل إدخالها في العروض المعروفة الظلية أو المسرحية، وهذا ما يحسب لصالح هذه التجربة العراقية المعاصرة.