سلعة بائرة أتفاءل بمستقبلها
ينتابني خلال السنوات الأخيرة الإحساس بأنني أكتب الشعر في زمن غير شعري، وهذا الشعور لا أعرف إن كان ينقص من قيمة “العمل الشعري” لديّ أم يضفي عليه جمالية خاصة، ذلك أني أتصور أن كتابة الشعر هي عمل مهم، وفي الآن ذاته أحس أنه عملُ من لا عمل له. كيف يترك المرء فرصة تطوير وضعه الاجتماعي والاقتصادي كما يفعل معظم الخلق، ويجلس وحيدا في مكان ما بعيدا عن الناس ليكتب الشعر؟ هذا الشعر الذي يشكو الناس من عدم فهمه، ويشكو الناشرون من مشكلة تسويقه. لماذا يُتعب المرء نفسه ويتعب مَن حوله من أجل صناعة سلعة بائرة؟
هذا الشعور اليائس يوازيه على الدوام شعور مناقض تماما، ويتعلق الأمر بالإحساس بلذة غريبة حال الانتهاء من كتابة نص شعري جديد. الشاعر رجل يمرح في الرمزيات، كما لو أنه مقيم على الدوام في حقل من الأوهام اللذيذة. لا يمكنك أن تقنع شاعرا بالابتعاد عن الشعر، ولا يمكن أيضا لشاعر أن يقنعك بجدوى الشعر. كنّا نقرأ قصصا عن الحب الذي يعذب الناس، لكنهم يتبعونه إلى نهايته، يحملون العبء ولا يرغبون في التخفف منه. كتابة الشعر شبيهة بهذه الحالة. الشاعر رجل يسهر ليعذب الكلمات وتعذبه.
لذلك فهو معنيّ، على الدوام، بكلماته، لا بمصيرها. أعتقد أن الشاعر لا يرى الناشر إلا في مرحلة لاحقة. حين يكتب لا يظهر له، وإذا ظهر له أثناء الكتابة فسد الشعر وضاعت التجربة. أما الناقد فإن جاء إلى كتابتك مجردا من الشعر نفسه سيخرب كل شيء. على ناقد الشعر أن يكون شاعرا دون أن يكتبه بالضرورة، أن يملك، مع المناهج والأفكار، روحَ الشعر، أن يملك القدرة على الإحساس به. لكن ما سيغيب على الناقد، على الدوام، هو أسباب الكتابة. وأعتقد أن سبب كتابة الشعر مدخل أساسي لفهم كلّ شعر. لفهم شاعر بشكل معمق يحتاج المرء لتعقب حياته ومساراته، انعطافاته وأمكنته وأذواقه. الناقد لا ينبغي أن يركّز على النص فحسب، إن تصريحات الشاعر وسرده لحياته ومكاشفاته وأفكاره وتدويناته على مواقع التواصل كلها تقود إلى مطابخه السرية.
هناك شعراء لا أعرف كيف كان تاريخ الشعر سيكون دونهم. لكني في الحقيقة لم أتأثر بالشعراء أو الكتّاب الكبار. فأول الشعراء والكتّاب الذين قرأنا لهم في المدرسة لم يكونوا بالضرورة هم الذين سأقدّر تجاربهم لاحقا. لكن ذلك لا ينفي تأثيرهم. إن ما فعلته بي القصص التي كان ينقلها إلينا محمد عطية الأبراشي في زمن الطفولة يفوق كل تأثير وكل مقارنة مع أيّ كاتب آخر مهما كانت قيمته في العالم. لذلك فالتأثر والتأثير لهما علاقة بالبدايات، بالنصوص الأولى التي قادتنا إلى أرض الأدب وأرض كتابته.
لا يجدر بالمعني بحقل الأدب في عصرنا أن يبحث عما إذا كان الشاعر مهما أو غير مهم. المهم هو كتابة الشعر. أعتقد أن الكثير من شعراء اليوم يكتبون أفضل بكثير من رواد الشعر الحديث. إنه حظ الزمن. الكثير من النصوص الرائدة زمنيا بسيطة، بل أحيانا ضعيفة. وعليه ثمة دائما كتابة مهمة، وسيأتي الأهم منها. إن تاريخ تطور الكتابة الشعرية هو تاريخ تراكمها. وينبغي التخلص من عقدة النوستالجيا التي ترى في كل ماض عملة نادرة لن تتكرر. العالم يتقدم في مجالات عديدة: العلم، الصناعة، العمارة، الأزياء، الموسيقى، السينما. فلماذا سيتخلف بالضرورة في الشعر؟