سيد العزلة
جعل زمن الأوبئة البشر يركضون بهلع نحو ذواتهم دون أن يدركوا ذلك أو على الأقل دون وعي منهم إلا فيما ندر، في الحقيقة فإن العزلة مهنة العقلاء.
يمارس البشر غريزة الخوف من الفناء بشراسة، بعنف، فحجروا على أنفسهم، وحجر عليهم لكي تشل عقولهم في منطقة غامضة، وقلقة، منطقة بين العزلة الإجبارية التي لا يعرفونها عادة، ومنطقة خصوصية الأخر المصاحب لهم في عزلتهم المضطربة.
لكنهم لو عرفوا فقط بأن لا أحد منا سيخرج حيّا من الحياة، لا أحدا منا سيفلت من الفناء حتى لو بعد حين! سيصبح للعزلة معنى آخر، معنى الزهد والاكتفاء.
“كورونا” هذا الفايروس الذي قلب موازين القوى، وشل حركة العالم، أتى ليكشف ضعف البشر رغم كل تلك القوة العنيفة التي استخدموها ضد بعضهم البعض، على شكل حروب وغزوات واستعمار وإبادة، وضد الطبيعة، وضد الحيوانات.
فتك البشر بجميع الكائنات الحية الأقل قوة، ومقاومة منهم حتى ظهر هذا الفايروس الذي سيفتك بهم وينتقم لهذه الكائنات الضعيفة، ويعيد للحياة أصلها الأول، حقيقتها الأولى، حقيقة الكائن المتوحد مع نفسه، المحاكي للطبيعة العظيمة، المضطرب أمام معجزات السماء.
فايروس كورونا “سيد العزلة” ضغط بمحض الصدفة ربما على زر الحقيقة معلنا نهاية عصر “الهمجية المتحضرة” وبداية عصر الكائن البشري الضعيف الذي عليه أن يحترم باقي الكائنات الحية دونه، بشريّ جديد يحمل بداخله مفاهيم أخلاقية مرسخة، يتعامل مع الحياة بمنطق القلب وبلغة الإنسانية، بشريّ خال من الخطايا، مشبع بالبراءة وباحترام الحياة.
أمام كل ما يحدث في العالم، أعيش عزلتي بهدوء وسلام، سلام داخلي نحتته الوحدة الاختيارية التي أعيشها منذ السنوات الأخيرة، تلك العزلة التي تحررك من أيّ ارتباط، من أيّ اصطدام، من أيّ خذلان، عزلة تعزز مكانة نفسك في قلبك، وتنشر البهجة حولك وبداخلك، هي تلك العزلة التي علمتني كيف أعد الأيام على أنها جواهر ثمينة على أن أستمتع ببريقها.
لعزلتي مكانان، مكان في الروح والثاني في بيتي، عالمي الذي يحرص على تشذيب ذوقي، أين تنتشر تفاصيل حياتي بين كتبي وبين النباتات التي لازلت أدللها فقط لكي تبقى على قيد الحياة، بين تفاصيل الطبخ الممتعة وسماع الموسيقى، بين الرقص لوحدي، بحذاء الفلامينكو الذي اشتريته ذات زمن من ممر الأحزان بغرناطة، وبين الأفلام السينمائية التي تتعبني حتى تمنحني فليما أقع في عشقه لمجرد ألوانه وحجم إضاءته البديعة التي تبهرني.
أراقب الوقت يمرّ على وقع شراسة فايروس ليس لديه شفيع سوى التعقيم والعزلة والخوف، استيقظت ذات صباح على أخبار تنزع بطانة القلب من شدة هولها، اجتاح فايروس كورونا العالم بعد ما كان مجرد مزحة صينية من المفروض أن يطويها النسيان دون خسائر تذكر، لينقلب الوضع إلى مشاهد بشر يتساقطون في الشوارع مثل الذباب، إلى أروقة مستشفيات العالم المكتظة بالمرضي، بالمشرفين على الموت، لم يعد هناك مجال للاستخفاف وعلى العالم أن يستنفر، أن يشذب، أن يخاف، أن ينعزل!
وعليّ أنا أيضا أن أعيد النظر في التعامل مع الأكياس البلاستيكية، مع محلول الكحول، إعادة النظر في نوعية الهواء الذي ينفثه المكيف، ومع نظافة مقبض الباب وكعب حذائي، بعدما كان كل ما يهمني في السابق هو البحث عن سبب الحب، والتأمل في لون الورد، ومجادلة فلسفة الأديان، وتاريخ الحروب والفن، وصناعة السينما، والكتابة الروائية، وخطط السفر، ورائحة سكك الحديد، تحولت يومياتي إلى الإسراع في تعقيم البيت وإلى جرد المؤون وإلى الاطمئنان بأن الحياة ستستمر كما كانت من قبل لا غير!
تشعرني يوميات الحجر المفروض بأن الرزنامة لم تعد ذات قيمة، وبأن الحقيقة المطلقة التي لا بد من التشبث بها هي البقاء على قيد الحياة بأقل أضرار ممكنة وبأن رفيقي في البيت هو المرآة التي أرى فيها نفسي، وهكذا ندخل في لعبة السلطة والتسلط، فالأكثر خوفا هو الأكثر حذرا وبالتالي هو الأكثر تطلبا للحماية من أيّ احتمال للعدوى، هو الأكثر تسلطا لمراقبة إجراءات التعقيم، ومتابعة التنظيف، ومسح آثار لكل حذاء أو كيس، أو علبة تأتي من الخارج!
يوم بأكمله يبدد في الدفاع عن النفس ضد الفايروس غير المرئي، ضد شبح صامت، لكن مع استمرار الحجر، و حراسة زوجي على التعقيم التام والمستمر للبيت، مع برودة أعصابي التي تخجلني أمام هذه المأساة التي تهدد البشرية، لحظت فجأة بأنني لست معنية بخوف البشر من هذا الفايروس الفتاك، لأنني من قبل أعتبر نفسي سيدة العزلة، والمحبة للخلوة، وصاحبة فلسفة الترك والاستغناء، لهذا تساءلت ماذا يوجد في الخارج لكي يشعر البشر بكل هذا الغبن بسبب الحجر المفروض عليهم؟ لماذا لا يستطيعون البقاء في بيوتهم التي من المفروض أن تكون جنانهم الخلابة؟ لماذا يخاف هؤلاء من العزلة؟ وحاولت أن أفهم لماذا مبدأ القطيع هو الأصح لديهم؟
يكمن الرعب من العزلة في الخوف من مواجهة الذات، في التعرف عليها، في مساءلتها، في الحفر في الذاكرة، في تأنيب الضمير، في الاعترافات القاسية لو تحلّى الواحد منا بالشجاعة الكافية لذلك، لهذا أسمي ” كورونا” بفايروس الحقيقة، ومطهّرها الذي يجعلك مرغما على مواجهة نفسك واكتشاف من حولك ومعرفة مدى تشبثهم بالحياة ومدى حقيقة غرائزهم ومدى أنانيتهم.
في هذا الجو الموبوء، أغلقت حجر القلب، وعقمت الذاكرة من أي ألم، تركت الفصل الثاني من الرواية التي أكتب منذ أشهر على حافة الوقت لأن بطلها غير معنيّ بما يحدث الآن، غير معني بالفايروس ولا بغرائز البشر ولا بالحجر الصحي، تركته عمدا معلقا بين اليقين وبين كل الاحتمالات إلى “حين ميسرة”.
لكن ثمة شيء بداخلي أغرقني في العزلة الملونة، في الأصباغ البهية، واللوحات التي تجرأت على تلطيخ بياضها كما اتفق باللون الأسود الذي يشبه ذاك الشخص الذي يشعرك بالهيبة لكن دواخله هشة، وباللون الذهبي الذي يشبه نصف غمزة لامرأة لعوب تخاف من عقوبة السماء، رسمت دوائر على أنها أفكار ترحل عبر المجرات، ومدن غارقة في ضوئها، رسمت بعشوائية طعم الخوخ والمشمش كما أتخيله خارج المواسم، وبسذاجة الأطفال صورت ورودا باهتة تقاوم الظلام لتهرب نحو الضوء.
اعتمدت خطة أعتقد فيها ولو قليل من الذكاء، تعتمد على الترك والاكتساب:
الرسم مقابل عصيان شخصيات الرواية قيد الإنجاز، التعقيم مقابل الخوف من المرض، مديح الصمت مقابل ثرثرة القلب، الهدوء مقابل أنانية الآخر، الاستغناء مقابل الرغبة الملحة بأن تخلع الماسك الواقي من على وجهك لكي لا تشبه أحدا في خوفه، أن تشرع أبواب قلبك مقابل غلق أبواب بيتك أمام عابري السبيل، أن تراقب الوقت يمر برضا مقابل أن تفكر في الفناء، أن تتأمل كل التفاصيل حولك آمرا أناك بالاسترخاء، لتنصت لنبضات قلبك وسط هذا الفراغ الهائل، لتشعر بسرعة جريان دمك في عروقك.
على أن أستمر في البقاء كما أشتهي رغم هذه العزلة التي لم تعد اختيار الحكماء لأكتب أكثر وأتكلم أقل، من أجل أن أرسم بسذاجة لتزيّن اللوحات الملونة جدران الروح، لكي أحلم أكثر رغم فزع كورونا الذي اغتال في لحظة فارقة وهم قوة المتجبر، ووهم ثراء الأغنياء، فايروس الحكمة الذي أنصف الفقراء في الموت وليس في الحياة، علّم الأطفال كيف يرقصون رغم الحمى التي تلهب أجسادهم الصغيرة، هذا الفايروس الذي أفرغ أيّ سلطة من محتواها، وأعاد التبجيل لأيادي القدر، فايروس أعطي للبشرية الدرس الأول والأخير فلا أحد منا أقوى من الحياة!