سيرة هامشية

الخميس 2016/12/01
تخطيط: فادي يازجي

بعد أن استقر الأدرينالين قليلا، مددتُ رأسي لألمح خيط الضوء المتبقي من ليلة أمس، شهقت وجوه عائلتي، الواحد تلو الأخر، عاد لي فضولي برؤية بشري ميت، كنت متأكدا من أنني سأرى واحدا، متأكدا من الأنقاض، من الدماء التي ستُلطّخ أرضية المدينة، كنت متأكدا من أن غرفتنا الوحيدة هي التي لم يسقط عليها صاروخ، نحن فقط من نجا من ليلة أمس.

قبل يوم حين رأيت بعض عناصر الجيش والشرطة وبعض الأفراد يحملون بنادقهم البائسة وهم منتشرون في المدينة، شعرتُ بالارتياح لرؤيتهم، أحدهم كان يحكُّ ظهره بسيخ تنظيف بندقيته، الآخر كان يحملها بدون مخزن الرصاصات، لكن كان منظرهم مريحا لي.

كانت ساعات قليلة تفصلنا عن الليل، عاصفة ترابية بدأت تعطي المدينة لونا أحمر، كنت قد تعودت على أصوات الطائرات وهي تمرّ فوقنا، وأحد الأطفال كان يقول «إنها تترك صوتها هنا، وتذهب لتقتل في مكان آخر»، لاحقا رأيت الطيار بخوذته وجهاز تنفسهُ وهو يعبر فوقنا، بتحليق كاد يلامس وجوهنا.

كان الجو خانقا بصورة مزعجة جدا، لا كهرباء منذ يومين، أصرّ أبي على نومنا بغرفة واحدة إذ عرف كما الجميع بأنّ ساعات قليلة تفصلنا عن وصول الأميركان إلى المدينة، كانت سجائره مثل خَرَز السُّبحَة، الواحدة تلو الأخرى.

أصيبت معدتي بمس كهربائي مع أول أصوات القصف، كان أبي المسترخي الوحيد بيننا، أو هكذا كان يبدو عليه، كانت الليلة تمتد لأربع وعشرين ساعة، إنها ثاني أطول ليلة في حياتي، كان صوت القصف كأنه فتح لأبواب صدئة مفاصلها أو صوت الغريق وهو يتنفس غرقه، نسيت الاختناق والغبار الذي يملأ رئتيّ، كانت نار المصباح النفطي أكثر استقرارا مني.

في الصباح وببساطه كان كل شيء على حاله، لم يتغير شيء سوى الغبار الذي يغطي كل شيء، وهي تُفتح بدأت أصوات الأبواب المقفلة بالسلاسل واضحة جدا، سرنا مبتعدين عن البيت لأول مرة منذ عدة أيام، لم أر أيّ جثة أمام عينيّ إلى اليوم وأتمنى حقا ألاّ أرى.

طرقنا المدينة شارعا شارعا، الشيء الوحيد الذي اختفى هو العناصر الذين كانوا يشعرونني بالاستقرار. أذكر أنني كنتُ أنظر للجندي الأميركي كهندي يلتقي بكولومبس لأول مرة.

***

حاملا قدميّ، أقذفهما أمامي لأصل بسرعة، الكتب والدفاتر المدرسية هي الأثقل دوما، شمس شهر فبراير هي الأجمل دائما بالنسبة إليّ، المدينة تُسحب من بؤبؤ الوقت لتتوسع، هي تتوسع دائما في هكذا حالات، هي تمازحك، لا تقلق ستصل لكن متى؟

ستائر البيت تمنع دخول الضوء والصراخ الذي في الخارج، هي تعطي للغرفة لونا باردا، إخوتي الذين تجمعوا أمام شاشة التلفاز يبدو أنهم يعرفون ما حدث، قررت وقتها أن عادة إغلاق التلفاز في هكذا أمور عادة تافهة جدا، ثم من يقول إنهم يعرفون، لذا تركتهم على حالهم أمام بروس ولس الذي يحاول التصرف كباتمان في فيلمه الخيالي الجديد. كرهت بعض النسوة وهن يبكين، إنهن يستمعن لكلام المخرج حرفيا، وهذا العمل الأول له، العمل الأول الذي اشترك فيه، كن ممثلات تافهات.

في الظهيرة امتلأنا بالانتظار، بدأنا نفيض خارج البيت، فتحتنا كل الأبواب، نتصرف بحذر تجاه تأويلات الحكايا ونظرات الآخرين، نمارس الصمت كفرض، أحدهم قال «سمعت أنه قد قُتل مع ابنته، يردد الأخر متأكدا «لا لا هو لم يمت، ربما أصيب فقط». ماذا تفعل لتصمت، ماذا تفعل لتوقف حركة المضغ التي بدأت بك، لا تفعل شيئا فقط، استمع لهم.

تلك الليلة كان كل شيء مختلفا، حتى الظلمة حين أغلق عينيّ، فكيف بملمس الوسائد الجديدة والأرض التي تغيرت، في الصباح انفجرت مفخخة وقتلت المئات ومنهم أبي، في الصباح عرفنا بموته وفي الليل اقتنعنا بالأمر. في اليوم التالي أصبح الشتاء بكاء يابسا على وجه المدينة، والسماء تشبه زفرة دخان من فم الموت، كل شيء صامت حتى الهواء.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.