سينمائيون عرب شباب في فينيسيا

المخرجان السوريان الشابان سعيد البطل وغياث أيّوب نالا خمس جوائز، من بينها جائزة الجمهور وجائزة النقابة الدولية لنُقّاد السينما "فيپريشي".
الاثنين 2018/10/01
المخرجان السوريان الشابان سعيد البطل وغياث أيوب
 

شهدت الدورة الـ75 لمهرجان فينيسيا الدولي للسينما حضورا سينمائيا عربيا شبابيا جيّداً، بعرض أفلام لسبعة مخرجين عرب هم سؤدُد كعدان وسعيد البطل وغياث أيّوب من سوريّا، سامح زعبي وبسّام جرباوي من فلسطين، عبدالحميد بوشناق من تونس وحجوج كوكا من السودان. وحقّقت السينما الناطقة بالألم والمأساة السورية نتائج هامة للغاية، إذ نالت المخرجة الشابّة سؤدُد كعدان جائزة «أسد المستقبل» لأفضل عمل أوّل عن فيلمها «يوم أضعت ظلّي»، الذي عُرض في الدورة الخامسة والسبعين (ضمن مسابقة برنامج «آفاق»).

مُنحت جائزة «أفضل ممثّل» في مسابقة برنامج «آفاق» إلى الممثل الفلسطيني قيس الناشف الذي أدّى بطولة فيلم «تل أبيب تحترق» من إخراج سامح زُعبي. وكان أداء قيس الناشف في هذا الفيلم من أفضل أداءاته حتى الآن.

ونال المخرجان السوريان الشابان سعيد البطل وغياث أيّوب خمس جوائز، من بينها جائزة الجمهور وجائزة النقابة الدولية لنُقّاد السينما «فيپريشي»، عن شريطهما الوثائقي «لسّة بتسجّل» الذي عُرض ضمن برنامج « أسبوع النُقّاد »، والشريط عبارة عن تسجيل لأحداث الحرب في سوريا على مدى أكثر من أربعة أعوام، سجّل فيها سعيد وغياث وزملاء آخرون لهم (استُشهد اثنان منهم خلال التصوير) أحداث الثورة السورية والحرب الدائرة هناك. واستغرقت عملية تركيب الفيلم ما يربو على سنتين، كان خلالهما المدير الفنّي لأسبوع النُقّاد في فينيسيا جونا نازّارو يتابع تفاصيل تطوّر العمل ويسعى إلى عرضه ضمن برنامجه، ولم يُخيّب الشباب السوريون الذين أنجزوا العمل ظنونه.

”جاء عنوان الفيلم من القصة نفسها، في البدء كنّا نرغب في الحديث عن الكاميرا وعن التصوير، وعن الأحداث التي جرت منذ عام 2011 وحتى عام 2015 وعن الشباب في الغوطة وعن آصرتهم  مع كاميراتهم التي يصوّرون بها قصصهم“ يقول سعيد البطل، ”وكلّ شيء في الفيلم مرتبط بالمشهدين الأول والأخير في الشريط، بعدما تسقط الكاميرا على الأرض ونرى زياد وهو يواجه حالة، ومن ثمّ نشاهد أحدنا يعود إلى التقاط الكاميرا عن الأرض ويعلم الآخرين بأنّها «لسّة بتسجّل!».

عمل على إنجاز مادة الفيلم خمسة مصوّرين بمن فيهم سليمان الذي نشاهده وهو يستشهد في المشهد الأول. وهناك شاب آخر استُشهد في التحرير في هذا العام. هؤلاء المصوّرون الخمسة أنجزوا ما يربو على 95 في المئة من المواد، وثمة دقيقتان، إحداهما في البداية والأخرى في النهاية، لم يُنجزهما الشباب الخمسة، وهي أثناء عملية التحرير.

”سليمان استُشهد في تحرير دوما“ يقول غياث، ”ويمان اسُشهد في هذا العام في آخر حملة على دوما، قبل أيام من الضربة الكيمياوية. وقد وضعنا اسميهما تكريماً واستذكارا لهما“.

تعايش هؤلاء الشباب مع بعضهم لفترات التصوير بمجملها. كان ميلاد وغياث يسكنان دمشق، أمّا سعيد ورأفت وغيث وعبدالرحمن فقد كانوا يسكنون الغوطة الشرقيّة، ويقول سعيد البطل ”كنّا أنا وميلاد وغياث نقول للآخرين، بعد تحرير دوما، تعالوا على دوما المُحرّرة. وفي أواخر 2013 اتّخذ ميلاد قرار الانتقال من دمشق إلى دوما“.

ويوضّح غياث أيّوب ظروف إنجاز العمل ”تكوّنت مجموعة التصوير بعد قيام سعيد بإعطاء دروس في التصوير في الغوطة، وكان هناك ثلاثة شباب من أهل المدينة هم رأفت وغيث وأبوكنان، أحبّوا الفكرة والتصوير، فأمّن لهم سعيد كاميرات، وبذا زاد عدد الكاميرات وكانت هناك يوميا أربع كاميرات على الأقل تُصوّر ما يجري من أحداث، تحركّت إحداها صوب خط الجبهة، والأخرى في الأسواق ومع الناس في دوما، أما الكاميرتان الأخريان فقد بقيتا مع الشباب في الغوطة، وفي نفس الوقت، كان سعيد قد ترك كاميرا في بيت الطلبة في دمشق“.

ويُضيف سعيد قوله ”على مدى الوقت كان لدينا إحساس بأنّ ما يحدث أكبر منّا بكثير. لم تكن لدينا قدرة التحليل آنيا بسبب جسامة الحدث، ولأن كلّ ما كان يحدث اليوم يُنسيك ما حدث في اليوم السابق. كان قرارنا هو أن نُسجّل أكبر كم ممّا نستطيع، وفيما لو أُتيحت في يوم من الأيام فرصة البدء بمونتاج العمل، فإنّ بإمكان أي واحد منّا القيام بذلك. كنّا مجموعة ضيّقة، أسمينا أنفسنا «رُسُلْ جروب»، وبدأنا بتجميع ما نصوّر بشكل يومي، في كل الأماكن، وكانت المواد المصوّرة توضع على أقراص مُدمّجة كبيرة وتُحفظ، وتُسرّب إلى بيروت“.

ويضيف غياث ”عندما عاد سعيد ومعه المادة الخام، وكانت مادة كثيرة، فأخذ منّا المونتاج أكثر من سنة ونصف إلى سنتين، أعدنا خلالهما صياغة القصّة بالانطلاق من العصب الذي سيحمل القصة بمجملها“.

السينما متراس دفاع

حين ابتدأت المجموعة بتسجيل الأحداث لم يكن المشروع الحالي في ذهن أفرادها، كانوا يسعون إلى التوثيق، لكنّهم انتهوا في خاتمة المطاف إلى تسجيل لحظة هامّة ومأساوية من تاريخ سوريا المعاصرة، يقول سعيد البطل ”دعني أكن صريحا معك، في عام 2011 كنّا قادرين على تسجيل المظاهرات فحسب، كانت الشوارع لا تزال في قبضة النظام. ولمجرّد انطلاق التظاهرة كان الشارع يتحرّر، وكان بإمكاننا حينها الولوج بين المتظاهرين والتصوير من خلالهم، لكن منذ منتصف 2012 وفي ما بعد، بدأ الجيش الحر يسيطر على المناطق، ما وفّر لنا حريّة أكبر للتحرّك في الشارع. وكان يخامرنا شعور دائم  بأن تحرير المدينة قد يقودنا في المستقبل إلى تحرير دمشق نفسها، أو ربّما يأخذنا ذلك إلى احتمالات أخرى، منها سقوط النظام، أو عودته إلى الهيمنة وتصفيتنا جميعا، وصار إحساسنا بأن خط الدفاع الوحيد لدينا هو تسجيل اللحظة. في البدء كنت أعتقد بأنّنا سننجز فيلما عن تحرير دوما فقط، لذا بدأنا بالتصوير لفيلم توثيقي تسجيلي لعملية التحرير“.
السينما والكاميرا كأداة تسجيليّة ومتراس دفاع، لكن أيضا، السينما كإبداع ورغبة في رواية قصص الشبيبة السوريّة، يقول غياث أيّوب ”حتى في أيام المظاهرات كانت لدينا الرغبة في صناعة سينما، وقد اشتغل سعيد على فيلمين عنوانهما ‘أقليّات’ في جرمانة و’يوم أبيض’ الذي صُوّر في مكان فيه مساحة واسعة للتصوير مغطّاة بالثلج. وعندما تحرّرت الغوطة نزل الشباب وصوّروا على أمل إنجاز الفيلم، لكن الأحداث تتالت، وذهبنا إلى جوبا حيث فُتح خط الجبهة بعد التحرير، لذا رأينا أنّ الفيلم كبُر وتطوّر“.

لا بد من وضع كلمة «النهاية»

كان بإمكان عملية التصوير أن تستمرّ إلى ما لا نهاية، ويأتي عنوان الفيلم ليُدلّل أيضا على استمراية عين الكاميرا في تسجيل الأحداث، طالما أنّ الحرب متواصلة، لكن المخرجين شعرا بضرورة وضع كلمة «النهاية» على هذه المرحلة من العمل على أمل العودة إليه، ربّما، بفصل آخر، أو بقراءة جديدة للأحداث وتطوّرها بالذات بعد دخول روسيا على الأحداث بعد إيران وحزب الله.

وبالإضافة إلى المخاطر في أي حرب ومخاطر ومصاعب العيش في تلك المناطق، واجه الشباب مصاعب أثناء الإنجاز، من بينها عمليات تسريب الأقراص وتوصيلها إلى بيروت.
يقول سعيد البطل ”لقد وضعت أصبعك على الجُرح، واجهنا معاناة كثيرة في مرحلة التصوير، من بينها الخطر على الحياة والخطر على المعدّات، وهو خطر أساسي، بسبب الشح الكبير للمعدات، وقد خسرنا منذ بدء التصوير خمس كاميرات إمّا بسبب القصف والتدمير وإما بسبب الوقوع على الأرض والتلف“. ويضيف غياث أيّوب ”لقد أضعنا الكثير ممّا تمّ تصويره، فعندما جمعنا الأرشيف في أقراص مدمّجة وقرّرنا نقله إلى بيروت، فقدنا جزءا من هذه الأقراص في برزة“، ويوضّح سعيد البطل ذلك ”في المرّة الأولى التي نسخنا فيها المواد على الأقراص هُدم البيت في اليوم التالي في عملية قصف، وفي المرّة الثانية عندما نسخناها قبض الأمن على الشاب الذي حمل الأقراص في برزة، وصودرت. وفي المرّة الثالثة أضاع الشاب الناقل القرص الذي كان يتضمّن مواد جرمانة، ولهذا السبب جاءت لقطات جرمانة ضئيلة في الفيلم، لأن لقطاتها فُقدت. وصلنا إلى ما يربو على 60 في المئة من المواد، وكانت هذه الكمية بمقدار 450 ساعة تصوير“.
”أمّا المعاناة الأخرى فلم تكن ذات صلة بالمواد المصوّرة، بل بنفسيتنا، فقد كنا مضطرين في كل يوم إلى أن نضع جانبا ما حدث بالأمس، لأن ما يحدث اليوم أشدّ هولا“، ويشدّد غياث أيوب على أن ”تركيب الفيلم وإنجازه كانا يتزامنان مع عمل الشباب على الأرض وتصويرهم للأحداث، وهو بالفعل ‘لسّة بتسجّل’“.

يتوقف الفيلم عمليا في نهايات 2014، لكنّ لدى الشباب مادة مصوّرة تصل حتى هذا العام 2018. ”لقد اخترنا أن نتوقّف عند هذه النقطة“ يقول سعيد ”لأنّه، وكما قلت أنت، كان لا بدّ لنا أن نتوقّف عندما بلغنا الفكرة.
نحن لم ننجز فيلما وثائقيا تقليديّا، بأحداث وترتيب وتعليق، بل حاولنا الحديث عن شيء يذهب أبعد من ذلك بدرجة، ولهذا تعذّبنا في المونتاج الذي استغرق منّا، كما قلت، ما يربو على سنتين“.

دمشق حاضرة الشيزوفرينيا

غراف

ثمة في هذا الفيلم أجواء عديدة، فبالإضافة إلى أجواء الحرب الدائرة، ثمة هناك مقاربة ما بين حياة الشباب في دمشق، وحياة أقرانهم في باقي مناطق المواجهة والحرب، بالذات مناطق غوطة دمشق، هنا ثمة «حرب»، وهناك، في دمشق، «حالة لا حرب»، وهو ما يبرز أنّ الآلاف من السوريين، والشباب منهم بالذات، ربّما كانوا يعيشون حياتهم اليومية في دمشق بشكل طبيعي، لكنّ حياتهم مضمّخة بالحزن والقلق والخوف والترقّب. ويقول غياث أيّوب ”نعم صوّرنا دمشق بكاميرا مخفية وغير ظاهرة. التصوير في الغوطة جرى بحريّة لأنّ المنطقة مُحرّرة وبإمكان الكاميرا أن تدور بذات الحريّة، وأن تتجاور مع مناطق تماس أو مع مقاتلين في الشوارع؛ وفي المقابل، في دمشق، التي هي تحت قبضة النظام، فقد كان التصوير فيها بالسر أو في داخل البيوت“، ويضيف ”إنّ من يحمل الكاميرا في قبضة يده خلال الحرب يشبه إنسانا ارتدى درعا واقية، فعندما كان سعيد يصوّر في الغوطة ويُحمّل المادة في اليوتيوب، فإن الكاميرا الواقفة بينه والحرب كانت بمثابة الحماية له. أمّا في دمشق، فأنت تسمتع إلى الأصوات فحسب وتعيش في قلق أكبر، وهذا ما دفع زميلنا بلال، بعد الضربة الكيمياوية والصدى الذي نتج عن تلك الضربة، إلى أن يترك الشام وينتقل إلى الغوطة“، ويوضّح سعيد ذلك ويقول ”فعل بلال ذلك بطريقة شبه انتحاريّة“، ويضيف غياث ”نعم سجّل شهادته الأخيرة وغادر دمشق“. ”ولو أنّك دقّقت في تلك الشهادة“ يقول سعيد “فإنّك ترى فيها إنسانا أدرك بأنّه مقدم على خطوة قد لا تكون منها أي عودة، لكنّه اقتنع بأنّ الخطر المباشر أخف هولا من الخطر غير المباشر”.

”دمشق، وإلى حد عودة استيلاء النظام على الغوطة، كانت (وربّما لا تزال) مدينة تعيش حالة شيزوفرينيا“، يقول سعيد البطل ”لأنّ جوبا تبعد عن العبّاسيّة مئة متر فحسب، والعبّاسيّة هي مركز المدينة. ويبدو سكّان دمشق وكأنّهم في قلب الحرب، لأن الطائرات القاصفة تمرّ من فوق رؤوسهم، وتمرّ القذائف المنطلقة من قاسيون من فوقهم؛ هؤلاء السكان هم في لبّ المعركة صوتيا، رغم أنّهم ليسوا في داخلها فعليّا، وهذا الفصام يدخل إلى جوهر نفسيتك بطريقة لا واعية، وقد حاولنا أن نصل إلى هذه النقطة في الفيل“.
يتحدث عن خيارات جيل في الحرب ”نحن الذين نصوّر وننجز الأفلام، أو الشباب الذين انضووا تحت راية الجيش الحر وصاروا مقاتلين، وهذا هو جيلنا“، يقول غياث أيّوب ”والضغط الحاصل في الشام بسبب عمليات القصف دفع ميلاد إلى العبور إلى الغوطة، وهناك مَنْ من بين الشباب قرّر الرحيل إلى الخارج وذهب إلى لبنان. من خرج من دمشق كان يُدرك أن تذكرته هي للذهاب فقط وليس هناك من إياب، فإمّا الموت في الغوطة، أو العودة إلى دمشق لتحريرها“.
”ما صوّرناه في دوما كان صادما لأهل الشام وما صوّرناه في الشام صدم أهل جوبا، وكلاهما صادم للأجنبي المُغذّى بأفكار مناهضة الإسلام“، يقول سعيد البطل ”وكان ذلك فصاما لنا أيضا، بالذات مع الإعلام، وذلك بسبب ابتعاد هذا الإعلام الشاسع عن الواقع الذي نعيشه كل يوم، فالإعلام يأخذ الأشياء ويبسّطها ليقوم بتسطيحها. وتُشيح الميديا عن ذهنها حقيقة جوهرية في أن ليس كل الذين يعيشون في دمشق مؤيّدون للنظام، وليس كل الذين يحيون في الغوطة هم إسلاميون متطرّفون أو ثوريون مناهضون للنظام، فهنا وهناك أناس عاديون، ونرى ذلك في صورة المرأة العجوز في الغوطة تؤنبنا وتقول ‘أنتم تطلقون النار على أهلنا في الشام’“.
”بحثنا على طريقة للتواصل عبر الصورة، وما إذا بإمكان الطرفين مشاهدة هذا الفيلم وأن يعثرا فيه على شيء ما. وكان مهمّا بالنسبة لنا الاقتراب قدر الإمكان من الحقيقة والابتعاد قدر الإمكان من النمذجة المسبّقة“.

لكن ما الذي سيحث في الوضع؟ بالذات بعد كميّات الدماء التي سالت، ومقدار الجرأة والقناعة التي تولّدت لدى المواطن السوري بإمكان دحر هذا النظام، بالضبط كما حدث مع نظام البعث في العراق بعد انهيار تمثال صدّام حسين في ساحة مركزية في قلب العاصمة العراقيّة.

يقول غياث أيّوب ”أول ما أتوقّع هو استمرار الثورة، وليس نظام الأسد إلاّ نظاما احتلاليا مدعوما من روسيا، ولا أعتقد بأنّ إيران ورسيا ستتفّقان في ما بينهما على ما ستعملانه على الأرض. فلكل منهما هدفها الخاص في المنطقة، أمّا نحن فنواصل التسجيل“.
ويضيف سعيد البطل قوله ”أنا أكرّر دائما ما قلناه منذ بداية الحرب، فهناك خياران، أولّهما هو العدالة التي يمكن لها إقامة السلام الحقيقي؛ وثمة خيار آخر وهو ما له علاقة بالقوّة الغاشمة القادرة على خلق توازن قلق على الأرض، بالضبط كما تمكّن النظام السوري أن يخلق توازنا قلقا في سوريا من خلال تدمير مدينة حماة، وأن تسكت سوريّا بأسرها. كما تسكت الآن، وبرغم مرو ما يربو على عقدين، فإن السوريين لم ينسوا حماة، وحوالي 90 في المئة من المتظاهرين حملوا شعارات تذكّر بحماة، الكل منا كانوا يهتفون باسم حماة، وكان شعار التظاهرات الأساسي ‘يا حماة سامحينا…’ وكنّا مدركين بأنّنا بحاجة إلى الاعتذار من حماة، لأنّنا تركناها وحيدة.
وأعتقد أنّه لا خيار ثالثا أمامنا، فإمّا طريق العدالة الحقيقيّة التي تُقرّ بجميع الأخطاء، بما فيها ما اقتُرف من طرف الثورة نفسها، فأطراف النظام المخطئة ينبغي أن تُحاسب، كما أنّ أطراف الثورة المخطئة ينبغي أن تحاسب أيضا، وهذا ما يمكن أن يأخذنا إلى حل، يكون حقيقيا ودائما يمكّننا من بناء الدولة، لأنّني أعتقد بأن ليس هناك ما يُسمّى بدولة سوريا، لأنّ اسمي على الجواز السوري لا يحمل صفة ‘المواطن السوري’، بل صفة ‘أحد رعايا’ الدولة السوريّة، ما يعني أنّنا لم نكمل بعد بناء الوطن في سوريا، بل تم اغتصاب سوريا منذ الخمسينات من خلال الانقلابات العسكرية؛ بإمكاننا التوقّف هنا والبدء ببناء الدولة الحقيقيّة إذا ما بدأ الشعب السوري بالولوج في مرحلة مصالحة حقيقيّة، وهي مصالحة تحتاج إلى الصدق وإلى المواجهة مع الواقع دون أقنعة ودون مواربة، أي أن يكون هناك شيء ما شبيه بما حدث في جنوب أفريقيا…

إلاّ أن جنوب أفريقيا كانت محظوظة بكون نيلسون مانديلا من أحد أبنائها، ولا يبدو أن الواقع السوري، للأسف الشديد قادر على استنباط شخصية كمانديلا، دون تناسي الجرأة التي امتلكها زعيم البيض دو كليرك بإطلاق مانديلا، وإطلاق العنان لعملية التغيير في جنوب أفريقيا. فلا المعارضة تمتلك شخصية بقامة مانديلا، ولا النظام يرأسه شخص مثل دو كليرك، ناهيك عن تغافل المجتمع الدولي عمّا يجري في سوريا”. يجيب سعيد البطل على هذا الاعتراض ”هذا هو الوضع بالضبط. لكن الخيار الثاني، وهو الأقسى، أي أن تفرض القوّة الغاشمة نفسها على الأرض، فتهدأ الأمور لسنة أو سنتين، لتعود إلى الانفجار مجدّدا، طالما أن الناس يعيشون في ظل غياب العدالة، لذا سيكمل الأبناء والأحفاد ما بدأه الآباء والأجداد“، ويضيف ”ما حدث حتى الآن هو الموجة الأولى في الثورة، وواجهتها الموجة المضادّة التي ستستنفد، وثمة موجات أخرى قادمة من الثورة، وهكذا دواليك. وواهم من يعتقد بأن ترتيق الشرخ سينهي الأمر؛ فعلى سبيل المثال، عاد النظام وفرض هيمنته على دوما، وقرّر تسعون ألف مواطن من أصل سبعمئة ألف، البقاء في دوما والعيش تحت سطوة النظام، وسيفرض النظام مصالحته على الجميع. نحن متواصلون مع الناس هناك، فهم في النهار يهتفون ‘الله وسوريّا وبشّار وبس..’ وفي الليل ‘يلعن الأسد..’؛ ليس بالإمكان أن تتصالح مع قاتل أهلك، فقط لأنّه أقوى منك، ولو كان هذا الأمر ممكنا وجائزا لنجح الإسرائيليون في التصالح مع الفلسطينيين، أو لكان الأمريكان نجحوا في فيتنام، أو، أو…، فالتاريخ مليء بالدروس التي تعلّمنا، أن لا مخرج هناك غير مواجهة الحقيقة، وغير طريق إرجاع الحقوق إلى ناسها. العدالة الانتقالية هي خطوة أساسيّة لبناء دولة حقيقيّة، ودونهما لا أرى أي مخرج آخر“.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.