سينما المستقبل
الهاتف المحمول “الموبايل” إحدى أدوات التكنولوجيا التي غيّرت حياتنا، وأداة فعالة في إعادة تشكيل ثقافة المجتمع بعد ربطه بالشبكة العنكبوتية، حيث أصبح من أساسيات الحياة والأعمال، فمع دخول الهاتف الذكي في عام 2007 وما رافقه من ظهور تطبيقات لا سيما شبكات التواصل الاجتماعي تغيّرت حياة المجتمعات.
ولا يمكن للكثير من الناس تخيّل الحياة دون الهاتف المحمول بسبب التأثير العميق الذي أحدثه في حياتهم، وبدأ يعيد تشكيل ثقافة المجتمعات في إطار التقارب المزاجي لشريحة من المجتمع، وتجلت تداعياتها في اللهجة والأسلوب ومستوى الكلام والتزوّد بالمعارف. فهو الصحيفة والكتاب والصديق والحبيب والفن الجميل والإبداع الراقي.
حاصرت ثقافة “الموبايل” المصريين مثل باقي الشعوب العربية في كافة جوانب الحياة، وأخذت في الاتساع حتى شكل (الموبايل) ثقافة يألفها ويفهمها الجميع تبدأ بالكلام وتنتهي بالصور والفيديوهات، وبات لكل مواطن إذاعته وشاشته الخاصة التي يتواصل بها مع الآخرين ويعبر من خلالها عن آرائه وأيديولوجيته في الشأن العام والخاص سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو السلوكي وحتى الديني.
عشاق السينما
ولدت من رحم ثقافة الموبايل وشبكة المعارف المتاحة عبر التكنولوجيا صناعة الفيديوهات التي اتخذها الشباب وسيلة متطورة لعرض فنونهم وإبداعاتهم عبر موقع يوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي على غرار فيسبوك وتويتر وغيرهما.
وجذبت ثقافة الموبايل جيلا جديدا من عشاق السينما، حيث تأثروا بها، واعتبروها الباب الذهبي لإنتاج أفلام سينمائية تعبّر عنهم بعيدا عن الميزانيات الضخمة ومقص الرقيب، في ظل تربّص الرقابة الحكومية بأعمال الفنانين سواء كانت في مجال السينما أو الدراما أو الغناء والحفلات.
وارتفعت معدلات إنتاج الأفلام السينمائية عبر الموبايل بعد انطلاق النسخة الأولى من مهرجان القاهرة الدولي لسينما الموبايل في نوفمبر عام 2015 رافعا شعار “سينما مناهضة العنف ضد المرأة”. وتميّزت غالبية الأفلام المشاركة بالشجاعة والجرأة في التناول ما يبشر بجيل جديد من السينمائيين، كما جذب المهرجان الكثير من الشباب من مختلف المحافظات الباحثين عن عرض رسمي لأعمالهم، والحالمين بتسليط الضوء على أعمالهم وحصد الجوائز النقدية رغم ضآلتها، إلا أن أكثرهم كان يحلم بالفوز بجوائز المعدات السينمائية ليضمنوا الاستدامة لأعمالهم في ظل تواضع إمكانياتهم.
ويبدو أن النسخة الأولى من مهرجان القاهرة الدولي لسينما الموبايل رغم تواضعها وضعت الحكومة المصرية في مأزق، فلم تعترف به رسميا وترعاه ولكنها لم تنكره، واكتفت بحضور وزير الثقافة وقتها الكاتب الصحافي حلمي النمنم حفل توزيع الجوائز دون الإعلان عن رعايته أو استمراره تحت عباءة الوزارة.
ويصعب على الكثير من الشباب في مصر شراء موبايل بكاميرا عالية الجودة بسبب ارتفاع سعره، خاصة تلك الأنواع التي تمكنهم من صناعة محتوى فيديو بتقنية “4K ” التي تقارب إلى حد كبير كاميرات صناعة شريط السينما، إلا أنهم يمارسون هوايتهم بكاميرات أقل جودة، ويصنعون فيديوهات بتقنية “HD”، حيث يقول محمد عبدالباسط، أحد الشباب المشاركين في مهرجان سينما الموبايل، بعد تسليمه شريط الفيديو لإدارة المهرجان “تكفيني صناعة فيديو عالي الإحساس، وحتما سيأتي اليوم لصناعة فيديو يجمع بين الإحساس والجودة”.
ويكمل عبدالباسط حديثه “تحملت مشقة الحضور من إحدى القرى التابعة لمحافظة الدقهلية للمنافسة بفيديو مدته ثلاث دقائق يعبّر عن العنف ضد المرأة، وأنا أطمع في الفوز بأدوات تصوير، وليس بالجائزة المالية”.
وإيمانا بأهمية الموبايل وشبكة المعارف التكنولوجية، وقوتها في جذب وتطوير وتعزيز المواهب الشابة المحلية والإقليمية والعالمية في فنون السينما، أطلقت مؤسسة مهرجان القاهرة الدولي لسينما الموبايل النسخة الثانية منه في 25 نوفمبر إلى 10 ديسمبر عام 2017 برعاية مركز وسائل الاتصال الملائمة من أجل التنمية، وهيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة “Women UN”، وبصورة أكثر تنظيما ووفق لائحة وقواعد ومنافسة على جائزتين، الأولى: الشباب المبدع (من عمر 10 إلى 17 عاما، والثانية: المهنيين).
وخلقت ثقافة الموبايل من خلال قطاع السينما، كما تؤكد إدارة المهرجان “فرصا للمهنيين العاملين في وسائل الإعلام والفنون وصناعة إنتاج الفيلم في مصر. إضافة إلى الدعم في إحداث تغيير وإعلاء قيمة الفن بشكل إيجابي في المجتمعات اليوم، من خلال إعطاء الشباب الفرصة للتعبير عن آرائهم عبر الوسائل السينمائية المناسبة. وذلك إيمانا بأن السينما هي أداة هامة في المجتمعات، حيث تسمح تلك الأداة بتجاوز الأمية لسهولة استيعابها وتعزيز الإبداع والانفتاح والتغيير الإيجابي”.
وساهمت أفلام الموبايل في تقارب مجموعات كبيرة من العاشقين لفن السينما، حيث وراء كل عرض سينمائي كما تؤكد عزة كامل، المسؤولة عن المهرجان الدولي لسينما الموبايل، مجموعة كبيرة من العاملين شكلوا ورشا تدريبية حتى انتهوا من أفلامهم التي لا يتجاوز الكثير منها مدته الدقائق. والطريف أن هذه المجموعات لم تتفق في ما بينها على تسمية المخرج أو المصور أو الممثل أو المونتير بل تقاسمت الأدوار بأريحية شديدة حتى أخرجت أفلامها.
وتوضح كامل أن فكرة المهرجان تعتمد على إنتاج أفلام بتكلفة زهيدة ومؤثرة رغم مدتها القصيرة، مشيرة إلى أن الأعداد التي تقدّمت بأفلامها للمشاركة في المهرجان فاقت كل التوقعات، وأن الفئة العمرية التي شاركت في الدورة الأولى للمهرجان كانت من 19 إلى 55 سنة، والدورة الثانية كانت من 20 إلى 45 سنة، وأن إدارة المهرجان لا تزال تتلقى أعمالا رغم انتهاء المهرجان.
وحصد فيلم “أحمر” للمخرج مازن لطفي وبطولة رضوى حجازي، وحسام قنديل، الجائزة الذهبية للمهرجان وقيمتها عشرة آلاف جنيه (550 دولارا تقريبا)، والجائزة الفضية وقيمتها ثمانية آلاف جنيه (450 دولارا تقريبا) أسندت لفيلم “نور مطفي” من إخراج خالد خطاب، والجائزة البرونزية وقيمتها خمسة آلاف جنيه (280 دولارا تقريبا) أسندت لفيلم “غريبة عن المدينة” من إخراج عمرو موسى.
تشترط كامل ألا يحمل الفيلم المشارك في المهرجان رسالة عنصرية أو تحقيرا من المرأة أو يقلل من شأنها وألا يواجه العنف بالعنف، والاختيار يتم وفقا لمعايير تقنية وفنية مع وجود رسالة عالية ومضمون مؤثر. كما أنها تفكر جدّيا في توسيع دائرة المشاركين في مهرجان سينما الموبايل في دورته المقبلة لجذب أعداد أكبر من غير المصريين، حيث تأمل بأن يتم نشر فكرة المهرجان على المستوى الإقليمي والدولي وأن يزداد الاهتمام من جانب الشباب بمناهضة العنف ضد المرأة عن طريق استخدام الموبايل كوسيلة.
مفردات لغوية جديدة
بعيدا عن فن السينما، ساهم الموبايل كأداة فعالة في أيدي المصريين في إضافة مفردات جديدة للهجة المصرية من بينها على سبيل المثال وليس الحصر “فصلتني” كناية عن الانفصال عن الحالة التي كان عليها، “اشحن على الطاير”، “اشحن لي” كناية عن إضافة رصيد للموبايل، “الشبكة مشغولة” كناية عن انقطاع الاتصال بشبكة الموبايل، “الموبايل فاصل شحن”، “رن لي شكرا”، “رسايل ورنات بقى”، “اشحن على النوتة”، “شفرتو” كناية عن انقطاع الاتصال مع شخص ما، “مسيدج كول” كناية عن إرسال رسالة لموبايل آخر، وغيرها من المفردات التي باتت معروفة للجميع.
استخدام الرموز التعبيرية
لا يكاد يخلو تطبيق للتواصل الاجتماعي لمستخدمي أندرويد من استخدام للرموز التعبيرية “Emojis” ورموز المشاعر “Emoticon” الثابتة منها والمتحركة، والتي أصبحت لغة عالمية متعارف عليها (ثقافة تعبيرية دون كتابة نصوص) تمكن المستخدمين من التواصل مع بعضهم البعض أو مع أي شخص حول العالم مع اختلاف لغته ودون الحاجة إلى قواميس اللغات أو توحيد للصياغات.
وأبدع المستخدمون في التعبير عبر الرسائل القصيرة “SMS” والتي لها عدد معين من الأحرف سواء العربية (70 حرفا) أو الإنكليزية (160 حرفا) باختصارات عدة لتقليل عدد الأحرف قدر الإمكان وذلك لتقليل تكلفة الإرسال عبر الشبكات، حيث أنه في حالة زيادة العدد عن الحد الأقصى تحسب رسالتين أو أكثر.
لغة الفرانكو أربيك
لغة الفرانكو أربيك هي لغة جديدة للكتابة بين مستخدمي الموبايل، خاصة بين الشباب العرب من خلال أبجدية مستحدثة غير رسمية، وتنطق هذه اللغة مثل العربية تماما إلا أن الأحرف المستخدمة في الكتابة هي الحروف والأرقام اللاتينية بطريقة تشبه الشيفرة. وتعتبر الأوسع انتشارا في الكتابة عبر رسائل الموبايل لأن الأبجدية اللاتينية تتيح حروفا أكثر في الرسالة الواحدة عنها في نظيرتها العربية، مما دفع البعض الذين لا يتقنون الإنكليزية إلى الكتابة بالحروف اللاتينية ولكن بصيغة عربية. وسرعان ما انتشرت لغة الفرانكو أربيك بين المستخدمين لتوفير أكبر كمّ من الأحرف، كما فضلها البعض ممن اعتاد على استخدام الأبجدية اللاتينية. بالإضافة إلى أنها تحل مشكلة عدم دعم بعض أجهزة الموبايل للأبجدية العربية.
وأصبح للغة الفرانكو أربيك قاموسها الخاص، بأبجدياتها التي انتشرت بين المستخدمين وأصبح متعارف عليها من بينها على سبيل المثال لا الحصر 6=ط، 4=ش، 7=ح، 5=خ، 8=ق، 9=ص، أ a=، بb=، تt=، ج j=.. إلخ.
وتكتب عادة باللهجة الدارجة وليس باللغة العربية الفصحى، ويضاف إلى هذه الطريقة الكثير من الكلمات البسيطة والاختصارات المتعارف عليها في اللاتيني الإنكليزي.
ثقافة “أنا أعمل عند الله“
في ظني أن الموبايل ساعد على الدعوة الرقمية إلى الدين والثقافة الدينية في آن واحد، حيث انتشر بين مستخدمي الموبايل من خلال بعض المتطوعين والجماعات الدينية شعار “أنا أعمل عند الله” يتضمن رسائل دينية تحتوي النصوص القرآنية الثابتة والأحاديث النبوية الشريفة، وأخرى تتضمن الثقافة الدينية باختلاف التفسيرات والفهم الخاص لنصوص الدين عبر تطبيقات لقراءة القرآن وأخرى للاستماع إليه، وكذلك الأحاديث النبوية والأذكار، بالإضافة إلى إنتاج فيديوهات للثقافة الدينية بمؤثرات سمعية وبصرية وتتوافق مع التفسير الخاص للنص والتشريع والعبادات من جهة ومع العادات والتقاليد من جهة أخرى.
وتطور الأمر إلى استخدام آيات القرآن الكريم أو الأذن على هيئة نغمات لهواتف المستخدمين جهلا منهم بقدسية هذه الآيات ومكانتها الخاصة رغم صدور فتوى من دار الإفتاء المصرية بتقنين نشر الدين من خلال الموبايل استنادا إلى عظمة وقدسية القرآن وأن للمصحف الشريف عظمته وجلاله، وله آداب عامة لا بد من اتباعها عند قراءته أو حتى وضعه على الهاتف المحمول، كما أنه ليس من اللائق جعل كلمات الله سبحانه وتعالى مكان رهن هاتف لمدى قدسية هذه الكلمات وما ورد في كتاب الله عزّ وجل.
وأكدت دار الإفتاء المصرية أنه لا مانع من استخدام الأناشيد الدينية أو المديح النبوي والتي قد تناسب قصر وقت الرنة (جرس التنبيه بالمكالمة) ولا يجب أن يتم العبث بكلام الله سبحانه وتعالى وقدسية كتابه.
ورغم الإيجابيات الكثيرة التي صنعها الموبايل في حياة المصريين إلا أنه دفع بالكثير منهم إلى الحياة الفوضوية بسبب سوء استخدامه، خاصة أنه المتهم الأول في الحوادث المرورية بسبب استعماله أثناء القيادة، والمزعج دائما في الأماكن العامة التي يتطلب فيها مراعاة الهدوء التام، مثل قاعات المحاضرات، المساجد، المستشفيات والاجتماعات، والمناسبات الخاصة. بالإضافة إلى تأثيره السلبي على العلاقات الأسرية بسبب انشغال كل فرد من أفراد الأسرة بهاتفه وعدم اهتمامه أو اكتراثه بالجو العائلي الحميمي.
وتفاقمت مشكلات المراهقين من الجنسين بسبب غياب الوعي بالاستخدام الأمثل للموبايل، حيث يتبادلون الرسائل الجنسية ومقاطع الفيديو والصور الإباحية، كذلك تنتشر تجارب الحب الفاشلة وغير المستقرة، وخيانة الشريك وغيرها من صور الحياة الفوضوية التي تجاهد لتغيير منظومة القيم والأخلاق لمثيلاتها من القبح والانحطاط.
وكذلك تحميل الألعاب الترفيهية المساعدة على العزلة الاجتماعية والغياب التام عن الأحداث الأسرية كلية، والانغلاق الكامل على الذات وخلق حياة خاصة وأصدقاء افتراضيين قد يسيطرون تماما على الشخص ويعملون على جذبه من محيطه إلى عالمهم، مثلما حدث في تهافت الشباب على لعبة الحوت الأزرق التي سجلت أعلى معدلات بحث من قبل الشباب والمراهقين والأطفال ونتجت عنها حوادث انتحار لعل أشهرها حادثة انتحار الشاب خالد، نجل البرلماني السابق حمدي الفخراني، التي هزّت الرأي العام المحلي وبلغ صداها أبعد مدى، استفاق الكثير من الأهالي بعدها على حالات عديدة لشباب بلغوا عدة مراحل من هذه اللعبة التي تشترط السرّية التامة.