شارع‭ ‬المثقف‭ ‬المستقل

الثلاثاء 2016/03/01
لوحة: حسين جمعان

أثار الباحث‭ ‬الفرنسي‭ ‬“ريشارد‭ ‬جاكمون”‭ ‬بعض‭ ‬اللغط‭ ‬حين‭ ‬صدرت‭ ‬ترجمة‭ ‬لكتابه‭ ‬“بين‭ ‬كتبة‭ ‬وكُتّاب”‭ ‬في‭ ‬طبعته‭ ‬العربية،‭ ‬إذا‭ ‬اعتمد‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أسماه‭ ‬-مصطلحًا-‭ ‬“جيش‭ ‬الآداب”،‭ ‬إذ‭ ‬رصد‭ ‬إبان‭ ‬الفترة‭ ‬الناصرية‭ ‬ذاك‭ ‬الاستقطاب‭ ‬الذي‭ ‬مارسته‭ ‬الدولة‭ ‬وكافة‭ ‬مؤسساتها‭ ‬فيما‭ ‬يُعدّ‭ ‬أوسع‭ ‬عملية‭ ‬تدجين‭ ‬أدبي‭ ‬وثقافي‭ ‬وفني‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬برمّتها،‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬نبالغ‭ ‬إن‭ ‬قلنا‭ ‬في‭ ‬تاريخها‭ ‬المعاصر،‭ ‬ليتكون‭ ‬للدولة‭ ‬رموزها‭ ‬وقادتها‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬ضمهم‭ ‬“جيش‭ ‬الآداب”‭ ‬بقوة،‭ ‬في‭ ‬أكبر‭ ‬عملية‭ ‬تدجين‭ ‬ثقافي‭ ‬وفني‭ ‬مارسته‭ ‬الدولة‭ ‬المصرية‭ ‬بعد‭ ‬الفترة‭ ‬الكولونيالية‭ ‬والملكية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬إلى‭ ‬ظهور‭ ‬مبكر‭ ‬للصدام‭ ‬بين‭ ‬مثقفي‭ ‬وفناني‭ ‬المعارضة‭ ‬وبين‭ ‬السلطة‭ ‬المحتكرة‭ ‬لعملية‭ ‬الإبداع‭ ‬والثقافة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المعروفين‭ ‬بـ”مثقفي‭ ‬السلطة”،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬رسّخ‭ ‬للصراع‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬هامش‭ ‬معارض،‭ ‬وسلطة‭ ‬محتكرة‭ ‬امتد‭ ‬إلى‭ ‬وقتنا‭ ‬الآن‭.‬

الشارع‭ ‬والمواجهة

لجأ‭ ‬هؤلاء،‭ ‬ممن‭ ‬اعتبرهم‭ ‬المؤرخ‭ ‬والباحث‭ ‬فناني‭ ‬ومثقفي‭ ‬الهامش‭ ‬المعارض،‭ ‬إلى‭ ‬الشارع‭ ‬بعد‭ ‬إحكام‭ ‬عملية‭ ‬السيطرة‭ ‬المركزية‭ ‬للدولة‭ ‬على‭ ‬منابع‭ ‬ومخارج‭ ‬الإبداع،‭ ‬وهي‭ ‬آفة‭ ‬طالت‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬حتى‭ ‬يومنا،‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬رحمه‭ ‬خيال‭ ‬وعقل‭ ‬سلطته‭ ‬ممن‭ ‬آمن‭ ‬بجدوى‭ ‬عملية‭ ‬الإبداع‭ ‬برمتها‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬هوية‭ ‬الشعوب‭. ‬ويأتي‭ ‬الثنائي‭ ‬المشهور‭ ‬إبّان‭ ‬الدولة‭ ‬الناصرية‭ ‬المصرية‭ ‬“الفاجومي‭ ‬والشيخ‭ ‬إمام”‭ ‬مثالًا‭ ‬ناصعًا‭ ‬لتلك‭ ‬المحاولات‭ ‬التي‭ ‬رأت‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬خلاصًا‭ ‬لها‭ ‬ولإبداعها‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الهيمنة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬نجحت‭ ‬فيه‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬المحاولات‭ ‬رغم‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المضايقات‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬السجن‭ ‬وتقييد‭ ‬الحريات‭ ‬في‭ ‬بعضها،‭ ‬وإلى‭ ‬التصفية‭ ‬الجسدية‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬متقدمة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تشهد‭ ‬به‭ ‬حال‭ ‬الراحل‭ ‬الشاعر‭ ‬على‭ ‬قنديل‭ ‬والذي‭ ‬تمّ‭ ‬اغتياله‭ ‬بسيارة‭ ‬أمن‭ ‬مركزي‭ ‬جهارًا،‭ ‬دون‭ ‬محاسبة‭.‬

تلك‭ ‬الإرهاصات‭ ‬الأولى‭ ‬وما‭ ‬تبعها،‭ ‬كانت‭ ‬نواة‭ ‬لظاهرة‭ ‬ثقافية‭ ‬وأدبية‭ ‬وفنية‭ ‬أخذت‭ ‬تتمدد‭ ‬على‭ ‬الساحة،‭ ‬وتتواتر‭ ‬بشكل‭ ‬متنام‭ ‬قُبيل‭ ‬ثورات‭ ‬الربيع‭ ‬العربي،‭ ‬فيما‭ ‬يُعرف‭ ‬ضمنيًا‭ ‬بحركة‭ ‬“المستقلين”‭.‬

المثقف‭ ‬والشارع

يطرح‭ ‬السؤال‭ ‬نفسه‭ ‬بقوة‭ ‬عن‭ ‬الهاجس‭ ‬الذي‭ ‬يدفع‭ ‬أجيالا‭ ‬فنية‭ ‬وثقافية‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬التشكل‭ ‬إلى‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬الشارع،‭ ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬دفعها‭ ‬إلى‭ ‬ذلك؟‭ ‬وهل‭ ‬ثمة‭ ‬ضمانات‭ ‬أعطاها‭ ‬الشارع‭ ‬عبر‭ ‬تاريخه‭ ‬مع‭ ‬مثقفيه‭ ‬وفنانيه‭ ‬يدعم‭ ‬هذا‭ ‬اللجوء؟

الإجابة‭ ‬ربما‭ ‬تبدو‭ ‬بسيطة‭ ‬وغير‭ ‬معقدة‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬أعدنا‭ ‬عملية‭ ‬الإبداع‭ ‬برمتها‭ ‬إلى‭ ‬أصولها،‭ ‬لنعرف‭ ‬أن‭ ‬المتلقي‭ ‬‮«‬الشارع‮»‬‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬أطراف‭ ‬المعادلة‭ ‬الإبداعية‭ ‬على‭ ‬مرّ‭ ‬التاريخ‭ ‬الإنساني،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬فطن‭ ‬إليه‭ ‬هؤلاء‭ ‬ممن‭ ‬تربّوا‭ ‬على‭ ‬أدب‭ ‬المعارضة‭ ‬وثقافتها،‭ ‬إذا‭ ‬أعادوا‭ ‬“العيش‭ ‬لخبّازه”،‭ ‬ليصبح‭ ‬الشارع‭ ‬هو‭ ‬خبّاز‭ ‬عجينة‭ ‬إبداعهم،‭ ‬يخمّرها،‭ ‬ويحمّرها‭ ‬ويسوّيها،‭ ‬فكانت‭ ‬أحداث‭ ‬الشارع‭ ‬المباشر‭ ‬والآنية،‭ ‬وأفكار‭ ‬الالتحام‭ ‬المباشر‭ ‬بالشارع‭ ‬خبّازًا‭ ‬أنضج‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬ممن‭ ‬اعتقدوا‭ ‬في‭ ‬أنفسهم‭ ‬أنهم‭ ‬امتدادُ‭ ‬للهامش‭ ‬المقهور‭ ‬باحتكار‭ ‬السلطة‭ ‬وجيش‭ ‬آدابها‭ ‬لكل‭ ‬آليات‭ ‬الإبداع‭ ‬التي‭ ‬يملكها‭ ‬المبدعون‭ ‬بأحكام‭ ‬وقوانين‭ ‬الدستور‭.‬

وربما‭ ‬كانت‭ ‬مخاطرة‭ ‬قدمتها‭ ‬تلك‭ ‬الأجيال‭ ‬التي‭ ‬تشكلت‭ ‬والمسماة‭ ‬“المستقلين”‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬أدباء‭ ‬وفنانين‭ ‬ومثقفين،‭ ‬بل‭ ‬وسياسيين‭ ‬وإعلاميين،‭ ‬حين‭ ‬راهنت‭ ‬على‭ ‬الشارع،‭ ‬فمن‭ ‬أين‭ ‬جاء‭ ‬هذا‭ ‬اليقين‭ ‬لديهم؟

هل‭ ‬طبيعة‭ ‬وإيقاع‭ ‬العصر‭ ‬المنفجر‭ ‬بالمعارف‭ ‬والتواصل‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬سهّل‭ ‬لهم‭ ‬الأمر،‭ ‬بما‭ ‬قدّمه‭ ‬من‭ ‬سهولة‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬المعلومات‭ ‬وتداول‭ ‬المعارف‭ ‬بشكل‭ ‬أوسع‭ ‬وأسرع‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تعتمدها‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬ترسيخ‭ ‬تراتبية‭ ‬ما‭ ‬داخل‭ ‬جيش‭ ‬آدابها،‭ ‬وكأن‭ ‬الأمر‭ ‬يشبه‭ ‬الترقي‭ ‬الوظيفي‭ ‬في‭ ‬كادر‭ ‬حكوميّ‭! ‬أم‭ ‬أن‭ ‬الشارع‭ ‬بكل‭ ‬تحولاته‭ ‬المتلاحقة‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬وفّر‭ ‬لهم‭ ‬فرصة‭ ‬ذهبية‭ ‬سهّلت‭ ‬عملية‭ ‬الإبداع‭ ‬برمتها،‭ ‬إذ‭ ‬قدّم‭ ‬الشارع‭ ‬لهم‭ ‬أفكارًا‭ ‬طازجة‭ ‬وغير‭ ‬راديكالية،‭ ‬وطرح‭ ‬معالجاتها‭ ‬كذلك‭ ‬بشكل‭ ‬عفوي‭ ‬ومباشر‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الإنتاج‭ ‬الإبداعي‭ ‬التي‭ ‬ألصقت‭ ‬ظهرها‭ ‬في‭ ‬ظهر‭ ‬الشارع‭ ‬تسنده‭ ‬ويسندها،‭ ‬تراه‭ ‬وتشعر‭ ‬به،‭ ‬مقدمة‭ ‬بذلك‭ ‬بديلا‭ ‬عن‭ ‬منتوج‭ ‬السلطة‭ ‬الثقافي‭ ‬برمته‭.‬

الشارع‭ ‬والمستقلين

بشكل‭ ‬ما‭ ‬توطّدت‭ ‬علاقة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬المبدع‭ ‬والشارع،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ظهر‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأشكال‭ ‬الفردية؛ كتلك‭ ‬المدونات‭ ‬الإلكترونية‭ ‬التي‭ ‬قدمت‭ ‬بديلا‭ ‬للنشر‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتطور‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الأسرع‭ ‬والأكثر‭ ‬انتشارًا‭ ‬كالفيسبوك‭ ‬وتويتر‭ ‬وإنستغرام،‭ ‬أو‭ ‬فيما‭ ‬يحلو‭ ‬للبعض‭ ‬تسميته‭ ‬عربيًا‭ ‬“فضاء‭ ‬المنتديات”‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬بمثابة‭ ‬تجمعات‭ ‬مختلفة‭ ‬ربما‭ ‬وجد‭ ‬فيها‭ ‬الممارس‭ ‬للإبداع‭ ‬مساحة‭ ‬كافية‭ ‬وأكثر‭ ‬سهولة‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الفضاءات‭ ‬التي‭ ‬تسيطر‭ ‬السلطة‭ ‬عليها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬منتشرًا‭ ‬للغاية‭ ‬قُبيل‭ ‬سنوات‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭. ‬وربما‭ ‬كانت‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬ووسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬المتطورة‭ ‬وتقنياتها‭ ‬الأقل‭ ‬تعقيدًا‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬سهلت‭ ‬الأمر‭ ‬ووطدته،‭ ‬إذ‭ ‬ظهرت‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬-وبعد‭ ‬عصر‭ ‬الفضائيات-‭ ‬موجات‭ ‬من‭ ‬الأفلام‭ ‬المستقلة‭ ‬والمهرجانات‭ ‬المستقلة‭ ‬في‭ ‬شتّى‭ ‬مناحي‭ ‬الإبداع،‭ ‬إذ‭ ‬يكفي‭ ‬الشخص‭ ‬مجرّد‭ ‬كاميرا‭ ‬هاتف‭ ‬ذكي‭ ‬ليبدأ‭ ‬تصوير‭ ‬فيلمه‭ ‬الخاص،‭ ‬بل‭ ‬ويجد‭ ‬له‭ ‬مساحة‭ ‬للعرض‭ ‬بمهرجانات‭ ‬مستقلة‭ ‬لتلك‭ ‬الأفلام،‭ ‬أو‭ ‬قنوات‭ ‬خاصة‭ ‬على‭ ‬مواقع‭ ‬مثل‭ ‬“يوتيوب،‭ ‬وفيمو”‭.‬

إذ‭ ‬لم‭ ‬يكتف‭ ‬الشارع‭ ‬بتقديم‭ ‬المواضيع‭ ‬ولم‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬مجرد‭ ‬مادة‭ ‬للإبداع،‭ ‬بل‭ ‬صار‭ ‬طرفًا‭ ‬فاعلا‭ ‬في‭ ‬عمليات‭ ‬الإبداع‭ ‬نفسه،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬انتشر‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الخمس‭ ‬الأخيرة‭ ‬مما‭ ‬عُرف‭ ‬بعروض‭ ‬الحكي‭ ‬المباشر،‭ ‬أو‭ ‬حكايات‭ ‬الشارع،‭ ‬وبعض‭ ‬عروض‭ ‬الكرنفالات‭ ‬الشعبية‭ ‬والمهرجانات‭ ‬التي‭ ‬حاول‭ ‬بها‭ ‬هؤلاء‭ ‬المستقلون‭ ‬تحويل‭ ‬الشارع‭ ‬إلى‭ ‬طرف‭ ‬رئيسي‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬الإبداع‭ ‬نفسه،‭ ‬وخير‭ ‬شاهد‭ ‬تلك‭ ‬المبادرات‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬قدمتها‭ ‬جماعات‭ ‬مستقلة‭ ‬كثيرة‭ ‬ومتباينة‭ ‬التوجهات‭ ‬والرؤى،‭ ‬لتنتشر‭ ‬مؤسسات‭ ‬داعمة‭ ‬وجمعيات‭ ‬داعمة‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬لتك‭ ‬الكيانات‭ ‬والمبادرات،‭ ‬وبعيدًا‭ ‬عن‭ ‬سيطرة‭ ‬وبيروقراطية‭ ‬السلطة‭ ‬ومؤسساتها‭ ‬المُدجنة‭. ‬فمثلا‭ ‬لاحظ‭ ‬مبادرة‭ ‬مدد‭ ‬التي‭ ‬كونها‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬لدعم‭ ‬وتمويل‭ ‬المشاريع‭ ‬الفنية‭ ‬والثقافية‭ ‬لهؤلاء‭ ‬المستقلين،‭ ‬لتقدم‭ ‬في‭ ‬خلال‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬انطلاقها‭ ‬عشرات‭ ‬المشاريع‭ ‬وتدعمها،‭ ‬وفي‭ ‬عموم‭ ‬القطر‭ ‬المصري‭.‬

إشكاليات‭ ‬وتخوفات

لعل‭ ‬الوضع‭ ‬القائم‭ ‬عليه‭ ‬الشارع‭ ‬العربي،‭ ‬بكل‭ ‬تماهياته‭ ‬السياسية‭ ‬والثقافية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬وتنامي‭ ‬حركة‭ ‬المستقلين‭ ‬تلك‭ ‬غيرت‭ ‬من‭ ‬معطيات‭ ‬المعادلة‭ ‬الثقافية‭ ‬الكبرى‭ ‬برمتها،‭ ‬إذ‭ ‬أبصر‭ ‬الشارع‭ ‬هو‭ ‬الىخر‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬بديلا‭ ‬متاحًا‭ ‬وجادًا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يلبّي‭ ‬حاجاته‭ ‬المختلفة‭ ‬وبشكل‭ ‬أيسر‭ ‬وأسرع،‭ ‬وأكثر‭ ‬تحرّرًا‭ ‬من‭ ‬القيود‭ ‬التي‭ ‬تفرضها‭ ‬طبيعة‭ ‬المركز‭ ‬في‭ ‬الفئة‭ ‬والمؤسسة‭ ‬المُدجنة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬غيّر‭ ‬في‭ ‬خريطة‭ ‬الإبداع‭ ‬ودعا‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬ترسيمها‭ ‬بما‭ ‬أنتجه‭ ‬الشارع‭ ‬المستقل‭ ‬من‭ ‬كيانات‭ ‬ومؤسسات‭ ‬مستقلة،‭ ‬أو‭ ‬محاولات‭ ‬فنية‭ ‬وأدبية‭ ‬مستقلة‭.‬

ولنأخذ‭ ‬مثالا‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬مدينة‭ ‬الإسكندرية‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وبحصر‭ ‬بسيط‭ ‬للمؤسسات‭ ‬الضالعة‭ ‬بشكل‭ ‬رسمي‭ ‬أو‭ ‬مستقل‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬الإبداع،‭ ‬ستصدم‭ ‬من‭ ‬عددها،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الجماهيري‭ ‬تكاد‭ ‬لا‭ ‬تُرى‭ ‬أمام‭ ‬ما‭ ‬تقدّمه‭ ‬الكيانات‭ ‬والمبادرات‭ ‬المستقلة‭ ‬في‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬فمثلا‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬صناعة‭ ‬الفيلم‭ ‬المستقل،‭ ‬لا‭ ‬يتعدّى‭ ‬الأمر‭ ‬رسميًا‭ ‬مكانين‭ ‬وهما‭ ‬غير‭ ‬منتظمين‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬الإسكندرية‭ ‬وقصر‭ ‬الحرية،‭ ‬بينما‭ ‬أوساط‭ ‬المستقلين،‭ ‬فهناك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خمسة‭ ‬أماكن‭ ‬مختلفة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬مدرسة‭ ‬للسينما‭ ‬والسيناريو،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬تقدمه‭ ‬من‭ ‬دورات‭ ‬وورش‭ ‬عمل،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬مبادرات‭ ‬حول‭ ‬تلك‭ ‬الصناعة‭ ‬كمدرسة‭ ‬الجيزويت‭ ‬للسينما،‭ ‬ووكالة‭ ‬بهنا‭ ‬بمؤسسة‭ ‬جدران‭ ‬الفنية‭ ‬المستقلة،‭ ‬وبحارة‭ ‬للفنون‭ ‬المستقلة،‭ ‬وأستوديو‭ ‬المدينة‭ ‬للأداءات‭ ‬الفنية‭ ‬والرقمية،‭ ‬وأستوديو‭ ‬الفنان‭ ‬مارك‭ ‬لطفي،‭ ‬وغيرهم‭ ‬كثير‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬الإشكالية‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬تفرضها‭ ‬ظروف‭ ‬التمويل،‭ ‬ربما‭ ‬تفرض‭ ‬بعض‭ ‬القيود‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬تلك‭ ‬المؤسسات‭ ‬والمبادرات،‭ ‬فتضطرب‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬مراحلها‭.‬‭ ‬وربما‭ ‬تبرز‭ ‬إشكالية‭ ‬فرضها‭ ‬الشارع‭ ‬نفسه،‭ ‬وعكسه‭ ‬على‭ ‬الأداءات‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬حيث‭ ‬تبدأ‭ ‬الصراعات‭ ‬بين‭ ‬تلك‭ ‬الكيانات‭ ‬المستقلة،‭ ‬فينغمس‭ ‬المبدع‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬مهدرًا‭ ‬طاقاته‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬جدالات‭ ‬لا‭ ‬منتوجات،‭ ‬وهو‭ ‬أكبر‭ ‬الأخطار‭ ‬التي‭ ‬تتهدد‭ ‬المستقلين‭ ‬وفنّاني‭ ‬الشارع‭.‬

وفي‭ ‬الإسكندرية‭ ‬التي‭ ‬أخذناها‭ ‬مثالا،‭ ‬كاد‭ ‬يتعطل‭ ‬مهرجان‭ ‬الموسيقي‭ ‬العربية‭ ‬المعروف‭ ‬بين‭ ‬الجمهور‭ ‬وفي‭ ‬الشارع‭ ‬باسم‭ ‬“مهرجان‭ ‬سيد‭ ‬درويش‭ ‬للفرق‭ ‬المستقلة”‭ ‬بسبب‭ ‬صراعات‭ ‬القائمين‭ ‬على‭ ‬إدارة‭ ‬الجهات‭ ‬المستقلة‭ ‬المُدشنة‭ ‬للمهرجان‭.‬

وتبرز‭ ‬خطورة‭ ‬أخرى‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تترهّل‭ ‬تلك‭ ‬المؤسسات‭ ‬المستقلة‭ ‬نتيجة‭ ‬زحام‭ ‬الأفكار‭ ‬المنطلقة‭ ‬في‭ ‬الشارع،‭ ‬ونتيجة‭ ‬لما‭ ‬يقدمه‭ ‬الشارع‭ ‬من‭ ‬موضوعات‭ ‬متلاحقة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تكوين‭ ‬صراعات‭ ‬داخلية‭ ‬داخل‭ ‬جمهور‭ ‬الكيان‭ ‬المستقل‭ ‬ذاته،‭ ‬فتتشكل‭ ‬دوائر‭ ‬شديدة‭ ‬الخصوصية‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬تهميش‭ ‬وتحييد‭ ‬أخرى،‭ ‬لتزيد‭ ‬الوضع‭ ‬صعوبة‭.‬

هدية‭ ‬الشارع‭ ‬ومطالبه

قدّم‭ ‬الشارع‭ ‬نواة‭ ‬لكل‭ ‬الزخم‭ ‬الثقافي‭ ‬والفني‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬العربية‭ ‬بما‭ ‬فرضه‭ ‬من‭ ‬آليات‭ ‬جديدة‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتعامل‭ ‬بها‭ ‬المثقف‭ ‬والمبدع‭ ‬معه،‭ ‬وإلا‭ ‬فإنّ‭ ‬الشارع‭ ‬لن‭ ‬يرحمه،‭ ‬ولن‭ ‬يحنو‭ ‬عليه،‭ ‬ربما‭ ‬يتقبل‭ ‬أو‭ ‬يتنازل‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬الهنات‭ ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يُسوّغ‭ ‬للعامل‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬الإبداع‭ ‬الثقافي‭ ‬والفني‭ ‬أن‭ ‬يستهين‭ ‬بالأمر‭ ‬ويستسهل،‭ ‬إذ‭ ‬بات‭ ‬لدى‭ ‬الشارع‭ ‬بكل‭ ‬أطيافه‭ ‬عقلا‭ ‬جمعيها‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يطبّق‭ ‬قواعده‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬تتناسب‭ ‬ولحظته‭ ‬التاريخية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يفرض‭ ‬على‭ ‬المبدع‭ ‬والمثقف‭ ‬ضرورة‭ ‬التكيف‭ ‬ومجاراة‭ ‬هذه‭ ‬القفزات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يتوقعها‭ ‬من‭ ‬الشارع،‭ ‬إذ‭ ‬بات‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يتعلم‭ ‬بعض‭ ‬الأمور‭ ‬يظنها‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالإبداع‭ ‬قبلا،‭ ‬لكنها‭ ‬باتت‭ ‬ضرورة‭ ‬لتكتمل‭ ‬صورة‭ ‬منتوجه‭ ‬الأدبي‭ ‬كأمور‭ ‬الإدارة‭ ‬والتواصل‭ ‬والتفاعل‭ ‬المباشر،‭ ‬والارتجال‭ ‬الحيّ‭ ‬وغيرها‭ ‬مما‭ ‬يفرضه‭ ‬من‭ ‬ارتضى‭ ‬ما‭ ‬أحبّ‭ ‬تسميته‭ ‬“لعبة‭ ‬الشارع‭ ‬المبدع‭ ‬المستقل”‭.‬

بقى‭ ‬سؤال‭ ‬نؤجله‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬آخر،‭ ‬عمّن‭ ‬يدفع‭ ‬الآخر‭ ‬أمامه،‭ ‬هل‭ ‬يدفع‭ ‬الشارع‭ ‬مبدعيه‭ ‬ومؤسساته‭ ‬الرسمية‭ ‬أم‭ ‬يدفع‭ ‬المبدع‭ ‬المستقل‭ ‬الشارع‭ ‬أم‭ ‬تسيطر‭ ‬المؤسسة‭ ‬الرسمية‭ ‬وتدفع‭ ‬الشارع‭ ‬أمام‭ ‬حظيرة‭ ‬تدجينها‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.