شاشات الخلاص
نشاهد في الحلقة الأولى من الموسم الثالث من المسلسل البريطاني الشهير “المرايا السوداء”، تخيلا مستقبليا للعالم، الجميع فيه أسرى هواتفهم النقالة، بسبب هيمنة شكل جديد من التواصل الاجتماعي، إذ يقوم كلّ فرد بتقييم الآخرين والإطراء على سلوكهم، أو العكس، ينتقدهم ويقلل من مدى “شعبيتهم”، ليتحول جهده ونشاط الفرد الواقعيّ إلى معيار لـ”تقييمه” على الشاشة، فـ”الحياة الرقميّة” هي التي تحدد مدى القبول الاجتماعيّ للفرد، وترسم طبيعة الدور الذي يمكن له أن يؤديّه أمام الآخرين، هذه الرؤية المستقبليّة، لا تنتمي إلى الخيال العلميّ كليا، بل ويمكن اعتبارها قريبة التحقيق، خصوصا أن الهواتف النقالة أصبحت جزءا من حياتنا، وامتدادا لأجسادنا الماديّة، أشبه بحاسة جديدة، تتيح لنا إدراك أنفسنا والآخر بصورة مغايرة، هذا الآخر ليس فردا فقط، بل فضاء متكامل، إذ امتد تأثير الشاشات حد تأسيس عوالم افتراضيّة متكاملة، ذات تأثير على الظاهرة الثقافيّة والسياسية على أرض الواقع، وكأن تغييرا أنطولوجيا قد حصل مع مطلع الألفية الثانيّة، تحولت فيه الشاشة/الموبايل إلى “عامل-agency” أعاد تقسيم الموجودات، مما غيّر طبيعة تفاعلها وحدودها.
يمكن تلمس دور الهواتف النقالة عبر رصد وجودها ضمن القطاع الفنّي، سواء كانت وسيلة للإنتاج أو عنصرا ضمن عملية تكوين العمل الفنّي، إذ تحول الهاتف المحمول ذو الكاميرا والشاشة ومجموعة التطبيقات التي يحويها إلى مولد لظواهر ثقافية دخلت ضمن النشاط الفنّي التقليدي، وغيرت من خصائصه ومرجعياته، بل وحلّت أحيانا مكان الدلالة الواقعيّة، ليكون الأصل وليد الشاشة لا التجربة الحيّة، في مقاربة لهذه الفكرة، قام المخرج السوري عمر بقبوق بتأليف وإخراج عرض مسرحي باسم FB Syrialism، بالاعتماد على منشورات وسائل التواصل الاجتماعي، والصور التي نتبادلها على الهواتف النقالة، وتلك التي تظهر أمامنا أثناء تصفحنا للشاشات، يقول بقبوق إنه كتب نص العرض مستفيدا من الكم الهائل من الصور والنصوص التي ينتجها مستخدمو الفيسبوك، في محاولة للسخرية من طبيعة بعض النقاشات التي تثيرها بعض منها، وخصوصا أن الفيسبوك لعب دورا كبيرا في الثورة السورية، ويضيف “حاولت أن أجمع منشورات لشخصيات معروفة وأخرى غير معروفة وعرضها أمام الجمهور، والتعليق عليها بصورة ساخرة أو جديّة، في محاولة لإبراز التناقض الذي تحويه عملية التصفح ذاتها، خصوصا أنّ تتالي المنشورات قد ينقل الفرد من حدث مضحك، إلى آخر شديد المأساوية، إلى جانب إمكانية التصفح في أي مكان وزمان، بسبب توافر الهواتف النقالة بأيدينا، وهذا ما استفدت منه أثناء إخراج المسرحيّة، محاولا اكتشاف ردود الأفعال المختلفة حين تتحول المنشورات إلى مادة فنيّة، بغض النظر عن قيمتها”.
تحول الموبايل أيضا بسبب تقنيات التصوير المتطورة التي يحويها، إلى كاميرا صالحة لإنتاج أفلام من نوع جديد، خصوصا أنه متوافر في مختلف الأوقات ويمكن أن يبدأ الشخص التصوير في أقل من ثانيّة، كحالة المخرج السوري الشاب محمد حجازي، الذي يعمل حاليا على مونتاج فيلمه الأول، والذي يوثق رحلته من تركيا نحو أوروبا، إذ عمد باستخدام عدسة الموبايل، إلى تسجيل رحلته وتفاصيل عبوره الحدود البرية والبحرية، إضافة إلى الصعوبات المختلفة التي واجهها، ومن عرفهم من فنانين في بلدان المهجر، ويرى حجازي أن وجود الموبايل جعله في بعض الأحيان يأخذ مسافة مما يحدث، ليصور بعين المخرج الذي يريد أن يروي حكاية بصريّة، لا الهارب أو المشغول بنجاته.
فالموبايل يتجاوز تعقيدات الكاميرا التقليديّة، فحجمه وسهولة التحكم به جعلاه أداة إنتاج فنيّة متاحة في أي لحظة، ويضيف، “كنت أحاول دوما التقاط تفاصيل مختلفة من رحلتي إلى جانب الحفاظ على تسلسل الأحداث ومنطقيتها، إذ لم يكن هناك سيناريو سابق، كنت أسجل ما أراه واختبره جسديا ونفسيا، إلى جانب مراعاة خصائص التصوير السينمائي والصناعة البصريّة، ما جعل رحلتي أٌقرب إلى اكتشاف فنّي، واختبار قدرة هذه الوسيلة على نقل التجربة التي عشتها بصورة مفهومة، بعيدة عن التصوير الهاوي أو التركيز على التوثيق المرتبط بالمجال الإنسانيّ”.
يمتد حضور الموبايل أو الأجهزة اللوحيّة إلى صناعة النشر، إذ أًصبح النشر الرقميّ ضرورة ملحّة، في ظل الحدود الجغرافية وسياسات الرقابة والمنع، وتكاليف الشحن المرتفعة، لذلك عمدت الكثير من دور النشر العربيّة إلى اعتماد هذه التقنيّة، كدار سرد حديثة التأسيس، والتي تتيح للقراء شراء الكتب إلكترونيّا وقراءتها على الشاشة، تعقيبا على ذلك، يقول فايز علام مؤسس ومدير دار سرد “شخصيا مازالت أفضل القراءة من الورق، وأفضل الكتب المتناثرة من حولي، إلا أن المتغيرات الجديدة في الساحة الثقافيّة وارتباطها بالتكنولوجيا، جعلت النشر الرقميّ خيارا ناجحا في بعض الأحيان، خصوصا أن هناك الكثير من الطلبات على كتب وروايات من الصعب شحنها، سواء بكميات كبيرة أو قطع منفردة، بسبب السياسات المختلفة، وتحديدا أثناء معارض الكتاب في المنطقة العربيّة، ما جعل النشر الإلكتروني وسيلة لتجاوزها، إلى جانب تزايد أعداد المهاجرين في أوروبا والذين من الصعب إيصال الكتب لهم في ظل ارتفاع أسعار الشحن، إذ يمكن للقارئ حاليا دفع ثمن الكتاب وقراءته مباشرة دون أي تعقيدات، ومع ذلك مازلت حريصا على نشر الكتاب ورقيا، كون الكتاب الورقي مازال أساس صناعة النشر”.
لعبت الأجهزة المحمولة والموبايلات دورا كبيرا في الربيع العربي، إذ جعلت المتظاهرين مرئيين للعالم ولبعضهم البعض، ما دفع بأجهزة القمع وأنظمة الرقابة إلى أن تحارب بشدة تقنيات “التقاط وتسريب الصور”، سواء تلك التي تبث مباشرة، أو تلك التي تتيح تناقل الصور بين الناشطين، فالأجهزة المحمولة ساهمت بإيصال أصوات الآلاف من المحتجين إلى العالم بأسره، بل إن الأفراد اضطروا إلى تطوير تقنيات بصرية تعتمد على الهاتف المحمول لتوثيق ما تشهده بلدانهم، أشهرها تلك التي شهدتها الثورة السورية، حيث اضطر مصورو المظاهرات إلى وضع ورقة أو صحيفة يومية رسميّة أمام عدسة الموبايل، لتوثيق المكان والزمان اللذين تدور فيهما المظاهرة، وفي حديث مع أحد الناشطين السوريين الذي رفض الكشف عن اسمه، يقول إن النظام في سوريا كان يحارب الأجهزة المحمولة بأيدي الجميع، إذ كان ممنوع التصوير في الشارع خلال الأعوام الخمسة الأولى من الثورة، ويقول إنه كان مضطرا مع منظمي المظاهرات في الأعوام الأولى إلى حمل عدة أجهزة موبايل للتصوير والبث المباشر، ثم الحرص الشديد على عدم لفت النظر أثناء المشي في الأماكن التي يسيطر عليها النظام، وخصوصا على الحواجز التي كانت تخضع فيها الهواتف النقالة للتفتيش إن كانت هوية الفرد تثير الشكّ بسبب المنطقة التي ينتمي إليها، ويضيف “كان امتلاك هاتف نقال متطور يعتبر تهمة في بعض الأحيان، لذلك كان لدي اثنان، واحد بدائيّ لا يثير الشبهات، وآخر استخدمه في المظاهرات لبث وتوثيق ما يحصل، خصوصاً أن بعض الهواتف المتطورة كالثريا وغيرها التي تتيح لنا البث الفضائي، كانت ذات شكل مميز، ما يعني الاعتقال مباشرة في حال شُوهدت بيد شخص ما، ما جعلنا نطور طرقا مختلفة لتهريبها ونقلها بين أشخاص لا يثيرون الريبة، لتجنب خسارتها، إذ كانت الهواتف النقالة سلاحا ذا حدين، لكن لا غنى عنها”.
تحضر الهواتف النقالة وتطبيقاتها ضمن تفاصيل الحياة اليوميّة للمهاجرين واللاجئين، فالصعوبات البيروقراطيّة وحواجز اللغة، جعلت حياة الكثيرين معطلةً، خصوصا أثناء عمليات طلب اللجوء أو تسيير الشؤون الإدارية، وهذا ما دفع مجموعة من المصممين المقيمين في فرنسا إلى إنتاج تطبيق على الهاتف المحمول باسم “يد واحدة”، وعبره يتمكن الواصل إلى فرنسا من الحصول على الكثير من المعلومات التي تفيده في حياته، لا مجرد لحظة وصوله، لأن التطبيق لا يتناول فقط الإجراءات القانونية أو المرتبطة بالدولة ومعاملاتها، بل يحوي أيضا عناوين وأرقام هواتف الأطباء السوريين والمترجمين المقيمين، بالإضافة إلى عناوين السفارات والدوائر الحكومية.
لا يمكن أيضا تجاهل حقيقة أن الهاتف النقال تحول إلى وسيلة للنجاة، فالكثير من الأخبار المتواردة عن الآلاف من المهاجرين من مناطق الحروب تتحدث عن المهاجرين وتاركي أوطانهم الذين استعانوا بالهواتف النقالة لإيجاد طريقهم عبر الحدود غير النظاميّة، ففي حديث مع باسل كرجوسلي، يخبرنا كيف قام بشراء هاتف نقال متطور من تركيا يحوي نظام تحديد المكان العالميّ قبل توجهه نحو ألمانيا، ليكون دليله أثناء عبوره للحدود الأوروبيّة، ويضيف “في بعض الأحيان كان الطريق يبدو غير مأهول أو كأني ضعت مع رفاقي في مكان لا نعرفه، لكن كان نظام تحديد الموقع والهاتف المحمول وسيلتنا الوحيدة للحفاظ على مسارنا، وكان علينا دوما الاحتفاظ ببطاريات إضافية والتواصل مع أصدقاء لنا في تركيا كي يبقى الخط فعالا”.