شاكر عبدالحميد: ثقافة القوقعة
تتمتع مسيرة الناقد شاكر عبدالحميد العلمية والنقدية والفكرية بثراء في العطاء والتأثير والحضور الفاعل في الثقافتين المصرية والعربية، فقد قدم على مدار ما يزيد عن أربعة عقود العشرات من المؤلفات والترجمات، التي شكلت إضافة مهمة في علم نفس الإبداع ودراسات الإبداع الفني والتذوق الفني والنقد الأدبي والتشكيلي أيضا، ودرّس في العديد من الجامعات سواء في مصر أو في الوطن العربي، فضلا عن الدراسات والبحوث التي نشرت في المجلات الأكاديمية والثقافية المتخصصة. تولى العديد من المناصب فعمل عميدا للمعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون، وأميناً عاماً للمجلس الأعلى للثقافة ثم تولى منصب وزير الثقافة بوزارة كمال الجنزوري في ديسمبر 2011. وحصد العديد من الجوائز منها جائزة شومان للعلماء العرب الشبان في العلوم الإنسانية عام 1990، وجائزة الدولة للتفوق في العلوم الاجتماعية – مصر – 2003، وجائزة الشيخ زايد للكتاب في مجال الفنون -2012. هنا في هذا الحوار معه جولة واسعة على العديد من الموضوعات والقضايا الثقافية الشاغلة.
الجديد: تحضر في حركة النقد والإبداع منذ نهاية السبعينات حتى اليوم، أي أنك عايشت مختلف الأجيال النقدية منها والإبداعية انطلاقا من جيلي الخمسينات والستينات وانتهاء بالأجيال الجديدة، هل لك أن تضعنا في الفروق الجوهرية المؤسسة بين الأجيال السابقة والأجيال الحالية علنا نرى المدى الذي تمضي فيه مسيرة النقد والإبداع في مصر؟
شاكر عبدالحميد: هذا السؤال شديد الصعوبة لأنه يحتاج إلى دراسة واستقصاء وإحاطة بما جرى في ميدان النقد منذ نهاية السبعينات حتى الآن، كل ما أستطيع أن أقوله هنا هو ما يلي: في السبعينات كانت هناك علاقات ثقافية عربية أقوى مما هي عليه الحال الآن، كان يمكن لمن يعيش في مصر أن ينشر في لبنان والعراق وسوريا والسعودية والكويت وغيرها، وكان الفضاء الثقافي أرحب، ثم ظهرت مجالات مهمة ومنها تمثيلًا لا حصرًا مجلة “فصول” التي أتاحت المزيد من الحراك النقدي العربي النظري والتطبيقي، وسطعت أسماء كثيرة كنا نتعلم منها ولم نزل: عزالدين إسماعيل، وجابر عصفور، وصلاح فضل، وكمال أبوديب، وعبدالملك مرتاض ويمنى العيد، وغيرهم. الوضع الآن تراجع بدرجة واضحة، وأرجو أن أكون على خطأ. بشكل عام أعتقد أن النقد في معناه العام -أي النشاط الخاص بالعقل النقدي- تراجع بسبب غياب الحريات بشكل عام في معظم بقاع الوطن العربي، إن لم يكن كلها. لم تعد هناك مجالات نقدية مرموقة ولا مؤتمرات نقدية شاملة ولا ترجمات جديرة بالسعي اللاهث من أجل الحصول عليها. إلى أين تمضي مسيرة النقد والإبداع في مصر والعالم العربي؟ إنها تمضي نحو المجهول. هناك إسهامات مهمة في الرواية وفي الشعر، لكنها أشبه بحالات فردية لا بالظواهر الجماعية التي نتوقع منها أن تغير النمط الثقافي السائد، وهو نمط عبثي بشكل عام موجود على صفحات التواصل الاجتماعي الافتراضي، أكثر من وجوده في الواقع الحي المباشر.
روح القوقعة
الجديد: اشتغلت على علم النفس الإبداعي نظريا وتطبيقيا وترجمت أكثر من كتاب في هذا المجال، الأمر الذي يجعلنا نسأل عن رؤيتك للملامح الرئيسية للشخصية الإبداعية العربية، وإلى أي مدى تختلف مع نظيرتها الغربية على سبيل المثال؟
شاكر عبدالحميد: سأجيب من خلال ما توصلت إليه من دراسة انتهيت منها منذ فترة عن الفنان المصري الراحل عبدالهادي الجزار 1925 – 1966، فقد مر خلال تطوره الفني بمراحل ثلاث هي: مرحلة الاهتمام برسوم الأشكال الحلزونية والقواقع، ثم مرحلة الاهتمام بالحياة الشعبية والنزعة الكرنفالية في الموالد الدينية والاحتفالات الخاصة، وأخيرًا مرحلة عالم العلم وغزو الفضاء والتكنولوجيا. وتجسد هذه المراحل المتداخلة عوالم رمزية شديدة الكثافة حاول الجزار أن يستكشفها. خلال مرحلة القواقع أراد أن يعبر عن متاهات الحياة والموت، الصحة والمرض، الخوض والرجاء والطمأنينة، التأمل والمعرفة والشعور بضياع المعنى، هكذا صور بشرًا راقدين أمام كهوف أو واقفين وسط مياه أو صور كما في لوحة “القضاء والقدر”، فتاة فوقها قوقعة يخرج منها فأر يزحف فوق رأس الفتاة مع تفاصيل أخرى مخيفة. ولم تكن القواقع بالنسبة للجزار رموزًا فردية، ولكنها كانت تكأة للتعبير عن روح عامة أسميتها “روح القوقعة”، وأقصد بها تلك الروح الانسحابية التي ترتبط بالنكوص داخل الذات، ثم الاستغراق في العزلة والاجترار والتأمل، وقد يكون هذا الانسحاب أشبه بحيلة تكتيكية تلجأ إليها الذات من أجل استكشاف عوالمها وقدراتها ثم الخروج إلى العالم الأرحب بأعمال وأفكار إبداعية جديدة، وقد تكون حالة مرضية رافضة للعالم والتفاعل مع الآخرين. قد تكون “روح القوقعة” حالة فردية، وقد تكون حالة جماعية، وعندما تكون فردية قد ترتبط بالإبداع أو ترتبط بالمرض حسب توظيف الفرد لها، وعندما تكون جماعية قد تكون إيجابية ترتبط بروح الكرنفال والاحتفالات الشعبية والروح الجمعية الشعبية التي تظهر في الموالد والأفراح والاحتفالات وانتصارات فرق كرة القدم القومية أو الانتصارات العسكرية على الأعداء.. إلخ. وقد تكون هذه الروح الكرنفالية الجمعية سلبية ترتبط بجماعات خاصة دون غيرها تكون لها معتقداتها وطقوسها وممارستها الخاصة. وهنا تكون جماعات منغلقة ومتطرفة، وقد تظهر من داخلها الأنشطة الإرهابية، وهكذا فإنها تكون أيضا أشبه بصورة أخرى من صور “روح القوقعة” السلبية.
إضافة إلى “روح القوقعة” و”روح الكرنفال” هناك الروح الثالثة وهي “روح العلم والعقل والابتكار”، وهي روح نادرة في ثقافتنا العربية، ربما لهيمنة “روح القوقعة” وتراجع “روح الكرنفال” وغياب الثقافة الجمعية الدينية والسياسية المحافظة المرتبطة بالانصياع والطاعة والخوف من التجريب والتجديد والإضافة والمغامرة.
قد أكون ابتعدت كثيرًا عن الإجابة المباشرة عن سؤالك وربما أكون قد أجبت عنه أيضًا بطريقتي الخاصة.
أعتقد أن “روح القوقعة” هي الروح السائدة الآن في الثقافة العربية، كل ثقافة عربية فردية الآن هي في حالة كمون داخل قوقعتها الخاصة، ربما بسبب التغيرات الهائلة التي طرأت على المنطقة في السنوات السبع الأخيرة، سقوط أنظمة وقيام أنظمة بديلة ليست أفضل في أحوال كثيرة من الأنظمة التي سقطت، وكذلك وجود الملايين من المواطنين العرب اللاجئين الهائمين على وجوههم الآن في أقطار العالم، وتبدو ثروات العرب في حروب داخلية مع هيمنة أميركية واضحة ومتزايدة، وغير ذلك من الأمور التي يعرفها الجميع.
لقد غابت روح الابتكار والكرنفال، وحضرت روح القوقعة ونتمنى أن يكون حضورها مؤقتا، أتمنى ألا يطول غياب كل واحد منا أفرادًا وجماعات وشعوبًا في قواقعنا الخاصة.
المبدع والمجنون
الجديد: لا تزال صورة المبدع كاتبا أو فنانا أو رساما في المخيلة العامة ترتبط بالتمرد والاختلاف في الملبس والرأي والسلوك بما يحمل قدرا من عدم الانضباط والجنون، فهل هذا التخيل صحيح؟ هل لدى كل مبدع مس من الجنون؟
شاكر عبدالحميد: ارتبطت صورة الفنان والمبدع بشكل عام في أذهان الناس وتصوراتهم وعبر فترة طويلة من التاريخ بالسلوك اللاعقلاني، أي السلوك الذي يصعب وصفه أو تصنيفه ضمن إطار العادي والمقبول والسائد والنمطي اجتماعيًا ومعرفيًا. وقد كان السلوك اللاعقلاني ولم يزل يصدر من المجرمين والسكارى والأطفال المتوحشين والمهووسين دينيا والمعتوهين والمجانين، ومن بين هؤلاء احتل الجنون مكانًا متميزًا وموقعًا مركزيًا، وقد لجأ الناس إلى استخدام التلميحات والإشارات الوصفية والشارحة والمحقرة للمجنون وسلوكه، وقد كان الحمقى والمجانين، على الرغم من الاختلاف بينهم، في ثقافات عديدة يرتدون ملابس ممزقة، أو يضعون على رؤوسهم تيجاناً من القش، وقد يطلقون صرخات مفاجئة ويقومون بسلوكيات غير معقولة، أو تنظر عيونهم إلى الفراغ، أو إلى الآخرين من خلال نظرات زائغة أو محدقة ومخيفة. وكان يعتقد في الماضي بوجود حالة من “المس″ أو التلبس الشيطاني تكون مسؤولة عن هذه المظاهر اللاعقلانية أو اللامعقولة المصاحبة للجنون. وقد استخدمت الثقافات الإنسانية ولم يزل بعضها يستخدم، الرقى والتعاويذ والإيحاء من أجل طرد الأرواح الشريرة، كما لجأ بعضها إلى العقاب البدني في أشد صوره قسوة، مثل الإغراق في الماء، أو الإحراق بالنار من أجل طرد تلك الأرواح الشريرة، خاصة مع زيادة اقتران فكرة التلبس الشيطاني بالسحر وممارسة السحر والسلوك المضاد للمجتمع والانحرافات السلوكية بأنواعها، وغير ذلك من الأمور.
مع هيمنة الأفكار الكلاسيكية الرومنطيقية حول الإلهام، الإيحاء، والوحي كمصادر للإبداع، وكذلك صورة الفنان أو الأديب المبدع الذي يسير بين الناس أو يوجد بينهم أشعث الشعر وممزق الثياب، وفي حالة ذهول عن الواقع والآخرين، ينتظر الإلهام أو الوحي، ويتحدث إلى نفسه، ثم نقل الصورة النمطية الخاصة بالجنون وتوسيع مداها كي تنطبق أيضا على المبدعين.
أضف إلى ذلك عوامل أخرى أسهمت في هذه النظرة التي تربط بين الإبداع والجنون، وهي عوامل تتعلق بوجود عمليات كثيرة متشابهة ظاهريًا بين المجالين، ومنها تمثيلا لا حصرًا: حرية التفكير وجموح العقل وانطلاقه، وغياب القيود والضوابط على الأفكار، والتداعيات البعيدة الأشبه بالهذيان لدى بعض الكتاب، وفيضان الخيال، وظهور بعض المجانين (أو المرضى العقليين) وكذلك الفنانين وكأنهم في حالة حلم دائم وغياب عن الواقع والآخرين، ووجود أعراض عصابية كالشك الدائم والوساوس المرضية والانتقالات السريعة ما بين حالة الفرح الشبيهة بالهوس والحزن والانقباض والاكتئاب، وغير ذلك من الأمور التي أسهمت أيضا في هذا الربط.
لكن هذه التشابهات ظاهريّة كما نعرف، وذلك لوجود فروق نوعية بين الجنون والإبداع، ومنها تمثيلا لا حصرًا: أن الإبداع ظاهرة إيجابية بينما الجنون ظاهرة سلبية، وكذلك أن الإبداع على الرغم مما يبدو عليه أحيانا من تفكك وغموض وغرابة وتداعيات بعيدة، فإنه يقوم على أساس حالة من التنظيم الخفي التي يربط من خلالها المبدع بعقله الواعي هنا، بين النتاجات والعناصر التي يقدمها عقله اللاواعي، وكذلك إن الإبداع ظاهرة اجتماعية موجهة من أجل صالح المجتمعات الإنسانية وتقدمها، بينما الجنون أساس دمار هذه المجتمعات وتأخرها أو هو على الأقل أحد هذه العوامل.
أنماط المبدعين
الجديد: الكثيرون يدونون آراءهم النقدية على نحو أفضل مما لو تحدثوا، يقدمون أفكارهم في سياق واضح ومرتب لا يمكن بلوغه في الحديث وهناك أمثلة على ذلك من كبار المثقفين والمفكرين، وأيضا هناك كتاب مبدعون لكنهم متحدثون غير مهرة.. ما تفسير ذلك؟
شاكر عبدالحميد: أولًا ينبغي أن ننبه إلى أن هناك في الطبيعة الإنسانية ما يسمى النمط المميز أي مجموعة السمات والخصال التي تميز إنسانًا عن غيره، نحن مجموعة من الأنماط ولسنا نمطًا واحدًا، هناك الانطوائي المنعزل، وهناك الانبساطي الاجتماعي، هناك المتأمل وهناك المندفع، حتى في الكتابة. وكما أشار ستيفن سبندر الشاعر الأميركي، هناك كتّاب يكتبون أعمالهم بطريقة مباشرة وسريعة ولا يراجعون ما يكتبون، وهؤلاء هم المندفعون، ومنهم يوسف إدريس في القصة القصيرة وموتسارت في الموسيقى، وهناك من يكتبون كل يوم وعلى مدى طويل من الأيام والسنين وبتمهل وترو، وهؤلاء هم المتأملون، ومنهم نجيب محفوظ في الرواية، وبتهوفن في الموسيقى. ومن بدايات القرن العشرين اهتم فلاسفة ومفكرون أمثال بوالو بالتمييز بين أربعة أنماط من البشر هي: “الشخص العملي، الشخص العلمي، الشخص الأخلاقي، الشخص الجمالي” وفقا للطابع المهيمن على اهتمامات كل شخص، كذلك قدم بينيه وسبرانجر وغيرهما تصفيات أخرى للمبدعين والنقاد والمتذوقين. وهناك مفكرون آخرون ميزوا بين النمط الكلامي والنمط الكتابي في مجال الإبداع، وكذلك النقد، حيث قد يتميز بعض الأفراد بقدراتهم الخاصة بالإنتاج للكلام شفاهة، بينما يتميز آخرون بإنتاجه كتابة، وليس هناك ما يمنع من أن تتميز فئة ثالثة بالجمع بين الأمرين. هناك عوامل عديدة تتدخل في هذا الأمر، ومنها الاستعدادات الفطرية الوراثية، وعمليات التربية والتعليم والوعي بالذات، لكن العامل الأكثر أهمية في رأيي هو ما يتعلق بما يسمى بـ”الفوبيا الاجتماعية”، فبعض الناس قد يواجهون مصاعب جمة في مواجهة الآخرين والحديث أمامهم، إنهم يتجنبون الحديث في الندوات والمؤتمرات والمحاضرات وبرامج التلفزيون وما شابه ذلك. وقد أطلق نقاد المسرح ومؤرخوه على هذه الحالة مصطلح “رهبة خشبة المسرح”، وهي حالة قد يشعر بها الممثلون في بداية حياتهم وخلال تجاربهم الأولى في مواجهة الجمهور خلال عرض مسرحي، حيث يزداد شعورهم بالقلق والضغط النفسي، ويزداد عرقهم ويجف لعابهم، فيبدأون في اللجلجة أو التهتهة أمام الجمهور، ومع تزايد التدريب وانخفاض القلق يحسن الأداء. لكنّ ممثلين كبارا، أمثال لورانس أوليفيه وهو أشهر مَن مثل أعمال شكسبير في المسرح البريطاني، قد يشعرون بذلك أيضاً؛ فقد ذكر أوليفيه أنه بينما كان يؤدي دوره في مسرحية “عطيل” شعر بالرعب خلال تلك المناجاة الفردية التي أداها عدة مرات من قبل، ولذلك فقد طلب من ممثل آخر أن يقف قريبًا منه على خشبة المسرح حتى لا يشعر بالوحدة أو التوتر.
الخلاصة أن هناك عوامل عدة تلعب دورها هنا، ذكرنا من بينها فكرة النمط المميز، وكذلك دور التدريب والفوبيا الاجتماعية ورهبة المسرح والقلق والتوتر وسمات الشخصية، وقد تكون هناك عوامل أخرى ترتبط بأسلوب مواجهة المرء للضغوط والأزمات، وكيفية مواجهته لها. وقد عانيت شخصيًا من مثل تلك الفوبيا الاجتماعية، ودربت نفسي على مواجهتها، وقد تحسن أدائي إلى حد كبير، لكني لم أتخلص منها نهائيًا وربما لن أتخلص منها.
هروب الفكاهة
الجديد: لك أكثر من دراسة عن الفكاهة والضحك، وكما تعرف المجتمع المصري يتمتع بذلك لكن في السنوات الأخيرة تراجع الأمر تراجعا واضحا، فقد خفت صوت النكتة وبهتت الابتسامة وأصبحت هناك حالة من الاكفهرار.. هل ترى أن ذلك يعبر عن حالة اغتراب جماعية لدى المصريين؟
شاكر عبدالحميد: تراجع الفكاهة وراءه عدة أسباب، بعضها يرتبط بالأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الناس على نحو واضح، كذلك شعور الكثيرين بالإحباط والصدمة بسبب ما لحق بثورتهم الكبيرة (ثورة 25 يناير) من إخفاق ومصير غير متوقع، يضاف إلى ما سبق طغيان الحضور على صفحات التواصل الاجتماعي، واستنفاد الكثير من طاقات الفكاهة الإيجابية في مناقشات وبوستات ولايكات وتعليقات سرعان ما تذروها رياح الفضاء الافتراضي الذي بطبيعته طيار، أي سريع الانقضاء، سريع التلاشي، لا يبقى في العقل أو الوجدان، علاقات عابرة أو مصطنعة أو تتم من وراء أقنعة وحوائط متوهمة لأشخاص أحيانا يكونون وهميين أيضا.
الفكاهة بنت المزاج الخلي أو الخالي نسبيًا من الهموم، لكنها لا يمكن أن تنشأ أو تصدر في ظل مناخ يبعث كل يوم على اليأس. للفكاهة منتجوها وللفكاهة متلقوها ومتذوقوها، وتحتاج عمليات الإنتاج والتلقي إلى شروط إنسانية أعتقد أنها لم تعد موجودة، الآن، حتى في حدها الأدنى في واقع فقد الإنسان فيه شعوره بالانتماء والألفة والأمن، وزاد شعوره بالغربة والاغتراب في وطنه. هناك نظرية تقول إن الفكاهة تنشط في سياقات يتحرر فيها العقل من الرقابة ومن الخوف، وينطلق في التشكيل للكلمات والجمل والمشاهد والنكات، فتظهر هذه البنية الغريبة المضحكة التي تجمع بين المألوف وغير المألوف وتكسر التوقعات، وتأتي بالعجائب من المواقف والمشاهد والكلمات.
في ظل سيطرة الخوف والرقابة حتى على مواقف مواقع التواصل الاجتماعي، أتوقع أن تكون الفكاهة شاحبة ونادرة ومكررة وخالية من القدرة على الإدهاش وإثارة البهجة. وكما نرى الآن في عدد من الأفلام والمسرحيات والبرامج التي يزعم أصحابها أنها كوميدية.. فأي عبث!
صورة المثقف
الجديد: تعاني آراء ووجهات نظر ورؤى وانتقادات المثقفين المصريين من حالة لامبالاة سواء من الرأي العام أو السلطة الحاكمة.. ترى ما الأسباب؟ وهل هذه الأسباب تتعلق بالمثقفين أنفسهم وتراجع مصداقيتهم أم تتعلق بتراجع مستوى الثقافة والتلقي لدى الرأي العام؟
شاكر عبدالحميد: تنظر السلطة في حالات كثيرة إلى المثقف على أنه ينبغي أن يكون تابعًا لها، ينبغي أن يكون مؤيدًا لها في كل مواقفها، أن يجد أو يكتشف مبررات لما تقوم به من صواب أو خطأ، هكذا فإن السلطة في أماكن كثيرة من العالم تعتبر المثقف إنسانًا هامشيًا مشغولًا بالأشياء غير الجوهرية. هكذا نظر بعض رؤساء مصر السابقين إلى المثقفين، حسني مبارك اعتبر المبدعين مجموعة من الراقصين، واعتبر السادات المثقفين بهوات وأفندية وأرازل، ولا أعتقد أن الأمر اختلف إلا قليلًا قبل ذلك وبعد ذلك، حيث تم سجن المثقفين أو التلويح بسجنهم في عهود كثيرة. طبعًا هناك أسباب متعددة تتعلق بهذا الأمر، منها أن السلطة قد تعتبر المثقف شخصًا مشغولًا بكل ما هو نظري أو يرتبط بالترفيه والأمور الخفيفة “الأدب- الفن التشكيلي- الموسيقى– المقالات.. إلخ “، بينما تهتم هي بالشؤون الأمنية والعسكرية والزراعية والصناعية.. إلخ، ومنها أيضا مبالغة بعض المثقفين وتلونهم وتأييدهم لكل الأنظمة أيًا ما كان بينها من اختلاف، أضف إلى ذلك ما يكون عليه المثقفون غالبًا من نرجسية وتمركز حول الذات، وتفكك، وغياب للحضور الجماعي في شكل جبهة موحدة ذات مبادئ متماسكة ومتناغمة، وقادرة على نقد السلطة أو توجيهها أو مواجهتها. وهناك عامل آخر يتحقق بغياب المثقفين ذوي الآراء الجديدة أو المغايرة عن وسائل الإعلام التي غالبا ما تكون على نحو مباشر أو غير مباشر في أيدي السلطات الحاكمة.
أسباب النكوص
الجديد: هل ترى أن تراجع دور المثقفين وتجاهل السلطة لهم وتحجيمهم عن المشاركة في القضايا التي تتعلق بمستقبل الوطن وراء اتساع نفوذ التيارات المتأسلمة والمتطرفة في المجتمع؟
شاكر عبدالحميد: تراجع دور الثقافة واتساع التطرف طبعًا أدّيا إلى إخلاء الساحة من المثقفين الحقيقيين أو المعارضين أو ذوي الاتجاهات اليسارية تحديدًا ومطاردتهم وسجنهم في عهد جمال عبدالناصر، وهو ما أدى إلى حضور الفكر المتطرف، هذا ما انتبه إليه سمير أمين مبكرًا، كذلك كان لما قام به أنور السادات من ممارسات من أجل تهيئة الساحة أمام التيار المتطرف في الجامعات المصرية خلال سبعينات القرن الماضي دوره الكبير في هذا الأمر، وهناك أيضا عوامل أخرى يعرفها الجميع، بعضها خارجي يتعلق بتدشين الولايات المتحدة لهذه الجماعات “القاعدة” تحديدًا خلال حربها ضد الوجود السوفييتي في أفغانستان، وبعضها داخلي يتعلق بانهيار النظام التعليمي والسفر إلى الخليج وغير ذلك من الأمور المعروفة.. إلخ.
تجديد الخطاب الديني!
الجديد: ولماذا برأيك فشلت كل محاولات تجديد الخطاب الديني على مدار ما يزيد عن ثلاثين عاما؟
شاكر عبدالحميد: فشلت لأنها تعزل الخطاب الديني عن الخطاب الثقافي العام السائد، فكيف ستجدد الخطاب الديني ولديك نظام تعليمي متخلف يقوم على أساس التلقين والحفظ والتكوين للعقل التسميعي التكراري، كيف يكون لديك تجديد للخطاب الديني وهناك غياب للتنمية الاجتماعية والثقافية وحضور للتطرف والانغلاق والتبعية الاقتصادية والسياسية والثقافية، كيف ستجدد الخطاب الديني وأنت تطلب من الذين يعارضون هذا التجديد -المؤسسات الدينية كالأزهر مثلا- أن يقوموا لك بهذا التجديد؟
إن تجديد الخطاب الديني يتعارض مع بعض الثوابت الخاصة بمؤسسة الأزهر التي بوصفها مؤسسة دينية قد تعارض مثل هذا التجديد، وقد تقوم به على نحو بطيء جدًا، والأمر يحتاج إلى تكاتف مؤسسات أخرى كثيرة من بينها الأزهر، كالثقافة والتربية والتعليم والشباب وغيرها، كذلك ينبغي أن نحدد ما الذي نقصده بالخطاب الديني الذي نريد أن نجدده، هل مجرد الخطب والكلمات والفتاوي والكتب التراثية أم الممارسات التي يقوم بها بعض رجال الدين الذين يحضون على كراهية الآخر، وعلى سلوكيات عنيفة أخرى كثيرة تجاه المختلف معهم وعنهم: الخطاب كلمات وممارسات وليس كلمات فقط، هذا ما أعرفه.
تداخل الأنواع
الجديد: تناولت بالنقد عددا كبيرا من الأعمال الروائية والقصصية والشعرية والتشكيلية لأجيال مختلفة من الكتاب، ما سمح لك بتشكيل رؤية نقدية شخصية حول هذه الأجناس الأدبية والفنية؟
شاكر عبدالحميد: صدقني لا أعرف فعلا الإجابة الدقيقة عن هذا السؤال، فقد اعترف الناقد الروسي الشهير شكلوفسكي بصعوب تحديد الخواص المميزة لها، والتي ينبغي أن تتمازج معا لكي تحصل على مبنى حكائي مناسب، فالقصة القصيرة يمكن أن توجد بمفردها، ويمكن أن توجد مع أو داخل الشعر والرواية والمسرحية أو حتى الكتابة النقدية، حيث يمكن أن أحكي قصة قصيرة مكثفة لإرنست همنغواي، قصة “قطة في الشارع″ مثلا، كي أعبر عن حالة العزلة التي يعيش فيها الإنسان الآن في المدن الحديثة، هناك قصص تقوم بمحاكاة نسيج الحياة اليومية العادية على نحو مباشر أو غير مباشر. نجد ذلك في قصص الجو الأسري والخاص بالموظفين أيضا لدى تشيكوف وكاترين مانسفيلد وجون أبدايك، ونجده لدى يحيى حقي ويوسف إدريس وسعيد الكفراوي وصابر رشدي وحسن عبدالموجود الآن، لكننا لو أمعنا النظر في هذه القصص سنجد فيها أبعادا فلسفية واجتماعية ورمزية كثيرة.
بعض النقاد -مثل نورثروب فراي وثريدان بيكر وجورج بيركنز- قالوا إن القصة القصيرة هي نوع من النثر الفني القصصي أو الحكائي الذي يقرأ بشكل مناسب في جلسة واحدة، بل إنهم حددوا الطول الخاص بهذا النوع الأدبي، فقالوا إنه يتراوح بين عدد قليل من الكلمات وألفين من الكلمات، بينما يصل طول النوفيلا (القصة القصيرة الطويلة) إلى حوالي 15 ألف كلمة، وأنا أتذكر هذه التعريفات وأضحك، فليس بالكلمات وحدها تصنف الأنواع الأدبية، هناك أبعاد أخرى ينبغي وضعها في الاعتبار، مثل قيم الزمان والمكان والشخصية والحالة والعمق، والقصص القصية متنوعة في عوالمها، فهي قد تستكشف عوالم الأسرة والحياة المنزلية، أو تقوم بمحاكاة غرائب الحياة، على الرغم من عاديتها، كما هو الحال عند همنغواي أو أنها تستغرق في الجوانب الأكثر غرابة وإثارة للخوف والرعب كما لدى هوفمان وإدغار آلان بو وغي دي موباسان وغيرهم.
وتفعل الرواية الشيء نفسه، كما في روايات نجيب محفوظ وديستويفسكي وتولستوي وستيفن كنغ، وحنا مينا، وأمين معلوف والطيب صالح والطاهر بن جلون وغيرهم، حيث نجد تنوعا في العوالم والأدوات وأساليب السرد. القصة القصيرة وثيقة الصلة بالمسرح وبالشعر والرواية والسينما، ولكنها متميزة عن تلك الأنواع، كما أن لكل نوع تميزه أيضا، وأنا لا أؤمن كثيرا بما قاله لوكليزيو ذات مرة من أن التقسيمات المميزة بين الشعر والقصة والرواية وغيرها قد أصبحت حفريات معرفية ونقدية، وهذا على الرغم من إيماني أيضا بوجود علاقات تفاعلية وحوارية كثيرة الآن بين الأنواع الأدبية وبعضها البعض، من ناحية، وبينها وبين الفنون الأخرى عامة.
من ناحية أخرى التفاعلية أو الحوارية أو عبر النوعية، سمها ما شئت، هي جوهر الأدب المعاصر، وكذلك جوهر الفنون المعاصرة، وخاصة بعد ذلك التقدم الهائل الذي حدث في تكنولوجيا الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي.
لقد تراجع دور الكلمة في المسرح الحديث إلى حد كبير فأصبح يعتمد على الحركة والصورة والتفاعل مع تقنيات وأساليب مستمدة من السينما والموسيقى والتليفزيون والسينوغرافيا (مشهدية الصورة)، وتداخلت أيضا الحدود بين الرسم والتصوير والفوتوغرافيا، بداية من المدرسة التكعيبية التي أطلقها فرناند ليجيه وبيكاسو في أوائل القرن العشرين، مرورا بالمسرحيات التي أصبحت تشبه اللوحات الفنية الحديثة التي تمزج بين السريالية (عالم اللاشعور والخيال والأحلام) والتعبيرية (الانفعالات والعواطف) والتجريدية (الأفكار والخطوط العامة والأفكار المجردة). وهكذا تلعب فنون الشعر والرسم والتصوير والصور الفوتوغرافية دورا مهما في مسرح الصورة الذي يهتم على نحو خاص بالمشاهد البصرية والصوت والحركة وطقسية العرض وغير ذلك من الأمور.
لقد استفادت الأنواع الأدبية من هذه التطورات فزادت التفاعلات والحدود المشتركة فيما بينها وبين بعضها البعض، وكذلك مع الفنون الأخرى الموجودة في العالم.
هل يمكن اعتبار هذه الأمور تطورات؟ طبعا، لكن بأي قدر؟ تفاوتت الاستفادة من مثل هذه التطورات بين أديب وآخر، ونوع أدبي وآخر. فقد استفادت الرواية من تقنيات المسرح والسينما، لكن القصة القصيرة ربما بحكم حجمها ولأنها قصيرة لم تستطع أن تستفيد من ذلك بدرجة كبيرة، مثلا استفاد همنغواي من الرسام بول سيزان في كتابته عموما وفي قصصه القصيرة على نحو خاص، وقد قال ذات مرة “لقد تعلمت من سيزان أن كتابة بعض الجمل البسيطة الحقيقية تكفي لأن تشتمل القصة على الأبعاد كلها التي أحاول أن أضعها”، كذلك قال فان جوخ ذات مرة “تمتعوا بالإنصات إلى زولا، فهو يتحدث عن الفن كما لو كان رساما يرسم بورتريهات”، أما بيكاسو فقال “إنني لو كنت قد ولدت صينيا فلم أكن لأصبح مصورا، بل خطاطا، إنني أكتب لوحاتي”، وقد كان بيكاسو نفسه من أكثر الفنانين إيمانا بوحدة الفنون.
الخلايا المرآوية
الجديد: الشعر والرواية اليوم، ما الحدود الفارقة بينهما بعدما تماهت الكثير من القيم الجمالية وصارت قاسماً مشتركاً خاصة في مشروع قصيدة النثر؟
شاكر عبدالحميد: أضيف إلى ما سبق القول إن بعض النقاد يقولون إن الأعمال الفنية عامة يوجد في داخلها ما يسمى بالرواسم (Traces) أو الآثار البصرية المتبقية بعد المشاهدة أو القراءة، مثلا لو كنت أقرأ أو أشاهد أعمالا تجسد بعض الأشكال التعبيرية الموجودة في الطبيعة كالأشجار والجبال والأنهار والطيور وحركة الكائنات وغيرها، وكذلك التعبيرات الموجودة في وجوه البشر وطرائق كلامهم وحركاتهم، بل أيضا التعبيرات التي نسقطها على الخطوط المستقيمة والمنحنية والأشكال الهندسية المختلفة، فإن هذه التعبيرات كلها تكون قادرة على تنشيط خلايا المخ البشري على نحو ما، هذا صحيح بالنسبة للأعمال الفنية البصرية (السينما ـ الفنون التشكيلية.. إلخ) وصحيح بالنسبة للأعمال الموسيقية، وأيضا الأعمال الأدبية (الصور اللغوية والمشاهد.. إلخ). صحيح بالنسبة للصور الساكنة والصور المتحركة، أيضا للصور التشخيصية والصور المجردة أيضا، هذه الصور تنشط نوعا من الخلايا يسميه العلماء الآن الخلايا المرآوية mirror cells، وهي الخلايا التي تلعب دورا كبيرا في إدراكنا لعمليات المحاكاة التي نقوم بها للآخرين والتي يقوم بها الآخرون لنا.
وتلعب هذه الخلايا أيضا دورا مهما في عمليات التلقي والتذوق التلقائية الشعورية واللاشعورية والخاصة بفهم الآخرين وتفهم أعمالهم وإدراكها وتذوقها، والاقتراب منها أو الابتعاد عنها، ونقصد بكلمة الآخرين هنا البشر عامة أو الكتاب والمبدعين على نحو خاص. هكذا نتفهم الرمزية الخاصة بالفن والأدب، ونقوم بمحاكاة افتراضية داخلية من خلال هذه الخلايا المرآوية لما كان يقصده هذا المبدع أو ذاك أو أراد التعبير عنه.
هكذا قال عالم نفس أميركي ذات مرة: “أن شعلة لهب متوهجة، وورقة نبات يطوحها الهواء، وسيرانة تنتحب، وشجرة صفصاف مرتفعة وصخرة عالية، تنقل كلها التعبير الخاص بها، عبر الحواس، وعبر الإدراك”.
قبعة فيرمير
الجديد: ترجمت العديد من الكتب، لوحظ أنها ذات ارتباط واسع بمشروعك النقدي والفكري، فإلى أي مدى أثرت رؤيتك وأفدت منها؟
شاكر عبدالحميد: حاولت أن أترجم بعض الكتب المرتبطة بتخصصي الأساسي في مجال الإبداع والفن، فترجمت كتاب “العبقرية والإبداع″ وكذلك كتاب “سيكولوجية فنون الأداء”، وقد صدرا منذ عدة سنوات في سلسلة عالم المعرفة بالكويت، وترجمت كتابًا آخر بعنوان “قبعة فيرمير.. العصر السابع عشر وفجر العولمة” وصدر في سلسلة كلمة بالإمارات منذ سبع سنوات، وهذا الكتاب أصابني بنوع من الحسد تجاه مؤلفه تيموثي بروك وهو مؤرخ كندي متخصص في تاريخ الصين، فقد تمنيت وأنا أترجم هذا الكتاب أن أؤلف كتابًا يشبهه، وقلت في تقديمي له إنه من الكتب القليلة التي أحدثت لدي حالة من التغيير المعرفي، حيث أخذنا المؤلف عبر ما يشبه الدراسة الثقافية معه زمنيًا إلى القرن السابع عشر، ومكانيًا إلى هولندا، وهناك أخذنا إلى مدينة دلفت في هولندا التي ولد فيها فيرمر(1632 ـ 1675) أشهر فناني الضوء، ربما في تاريخ الفن التشكيلي قاطبة، حيث لا يذكر تاريخ الفن بعده، مثل هذا الشغف بالضوء، إلا مقترنًا باسم مواطنه فان جوخ وشموسه المشعة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقد انتقل بي مؤلف هذا الكتاب من الفن إلى الحياة، ومن الحياة إلى الفن، من تجارة اللوحات والخزف والفراء والمنسوجات وغيرها إلى صناعة الفن وعمليات التبادل التجاري والثقافي، وإلى الحروب والصراعات الكبرى التي دارت هنا وهناك، واستهلت الحقبة الاستعمارية الكبرى في تاريخ البشرية، والتي سجلها الفن ورصد بعض آثارها، وكانت الصين في قلب تلك المعارك وذلك الرصد. وقد كتب تيموثي بروك مؤلف الكتاب عن المعارك والفنون والتجارة والبشر بأسلوب ممتع يجمع بين المتعة والفائدة، من خلاله توالت المشاهد والمعلومات على أنحاء شتى، حيث نجد الحكاية والمعلومات التاريخية والسياسية والاقتصادية ونجد الاستعارة والمجاز والأمثولة والشعر، ونجد التفكه والسخرية والتندر والتورية، ونجد مصائر البشر ونهايات الأشياء وبدايات غيرها ونجد فيرمير وشركة الهند الشرقية الهولندية، ونجد الصين وما كانت تموج به أرضها من أحداث. تمنيت أن أكتب كتابًا مثله عن مصر أو عن منطقتنا العربية، لكني غرقت بعد ذلك في تفاصيل الأشياء وترهاتها التي تكمن فيها الشياطين، لكني ما قرأت كتابًا أو كتبت كتابًا بعد ذلك إلا وظهر في عقلي ذلك الكتاب كحائط منيع أحاول تجاوزه، فلا أستطيع، ومع ذلك أستمر في المحاولة، ولا أنسى أبدًا ما ورد في أحد فصول هذا الكتاب من استشهاد بصورة بلاغية خاصة بالشاعر والعالم باللاهوت الإنكليزي جون دن الذي عاش خلال القرن السابع عشر قال فيها: “عندما يموت إنسان لا يمزق فصل من الكتاب، لكنه يترجم إلى لغة أفضل، وهكذا ينبغي ترجمة كل فصل من أي كتاب”، هكذا ينبغي ألا تكون الترجمة فقدانًا للنص الأصلي بل ترجمة لروحه أو بعثا لها في شكل جديد أو لغة أخرى.
ترجمت بعض الكتب الأخرى لكن ظل درس كتاب “قبعة فيرمير” معي لا يغادرني ولا يزول.
السينما والدولة
الجديد: ولماذا تراجعت السينما والدراما في نظرك؟ لماذا تخلتا عن أن تكونا شريكتين في معالجة القضايا المجتمعية، بل إنهما تساهمان في المزيد من خلق المشكلات والظواهر السلبية؟
شاكر عبدالحميد: الدراما لم تتراجع بل ازدهرت بفعل دخول شركات جديدة في المجال، وكذلك تطور تقنيات التصوير الرقمية والبرمجيات الخاصة ببرامج التحريك، وكذلك التنافس على الكعكة الخاصة بالعرض خلال شهر رمضان. أما السينما فتراجعت بسبب تخلي الدولة في مصر عن الإنتاج السينمائي، وكذلك غياب الرؤية الإبداعية المرتبطة بالموضوعات والأعمال الضخمة لدى الكثير من المنتجين والمخرجين، وأيضا دخول فئات أخرى في عمليات الإنتاج كالجزارين، والقصابين، والمقاولين وغيرهم، وتركيزهم على مخاطبة الغرائز بأعمال البلطجة والرقص والعشوائيات والتفاهات الاستهلاكية التي نعرفها، فضلًا عن تراجع رأس المال الذي هو بطبيعته جبان في ظل حالات عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي الحالي.
مطاردة الجوائز
الجديد: شغلت رئيساً لجوائز إبداعية تشكيلية وشعرية، ماذا رأيت من خلالها من وجهات نظر نحو حالة المجتمع المصري هذه الأيام، نفسيا وإبداعيا؟
شاكر عبدالحميد: الجوائز مهمة بالنسبة للمبدع وبالنسبة للمؤسسات التي تمنح الجوائز. الجوائز تعني أن المجتمع يكرم المبدعين والمتميزين. للجوائز دورها الإيجابي في مسيرة المبدع وأحيانا يكون لها تأثيرها السلبي، إذ قد يتوقف البعض عن الإبداع بسبب نيل جائزة، فهو قد يواصل على نحو متسرع في كتابة متسرعة كي يحظى بجائزة أخرى فيتراجع مستوى إبداعه. هناك مبدعون متخصصون في مطاردة الجوائز، وهناك شعراء قد تحولوا إلى الرواية من أجل الجوائز، وهناك نقاد أيضا فعلوا ذلك. لكن الجوائز مهمة أيضا في كونها تؤدي دوراً في أحداث حراك ثقافي وإبداعي.. والله أعلم.
أجرى الحوار في القاهرة: محمد الحمامصي