شعراء أيديولوجيون
بداياتي في النشر والكتابة، كانت في جريدة “الراصد” لمصطفى لفكيكي وزوجته الروائية عالية ممدوح، وليس في “طريق الشعب” التي أحترمها غاية الاحترام.
لكن “الراصد” كانت مرصودة أقلّ من الرصد المستمر المصوَّب إلى “طريق الشعب”، جريدة الحزب الشيوعي العراقي المرموقة يومذاك. من هنا جاءت تُهَم “الأيديولوجيا” الغامضة المستمرة منذ وقت طويل لكل شاعر نشر في “طريق الشعب”.
1
من بين شعراء جيلي الذي بدأ حياته أثناء سيادة حزب البعث في العراق القادم بانقلاب، ومقابلُه الوحيدُ ومعارِضُه يومها في البلد الحزبُ الشيوعيّ العراقيّ، مَنْ حاول النشر في صحافة البلد الرسمية قبل أن تصير مِلْكية لحزب البعث، مثل جريدة” الجمهورية” ومجلة “ألف باء”، لكن هذه الصحافة لم تقبل نصوصه، ورفضتها. هاشم شفيق مثالاً مع “الحمهورية”. بالنسبة إليّ نشرتْ “صفحة القراء” ألف باء، في أسفلها مقطعاً من قصيدة لي مع نصائح مثالية بالطبع. ما زالت نسخة المجلة بحوزتي.
2
ظهور صحيفة “طريق الشعب” وانفتاحها على الشعر الجديد والأصوات الشابة، لم يكن دوماً لسبب أيديولوجي كما يقال اليوم، ولا لأنهم شيوعيون ملتزمون بالضرورة، كانوا مواطنين عراقيين يكتبون الشعر، لذا نشرت الجريدة للجميع (اقرأ شهادة عبد الزهرة زكي). وليس لهذا وذاك من الموصوفين بالأيديولوجيين زوراً.
قصيدة فاروق يوسف الأولى منشورة في “طريق الشعب”، وقصيدة زاهر الجيزاني الأولى منشورة فيها أيضاً.
3
اليوم يزوّر التاريخ الأدبي على أوسع نطاق. كتب الشاعر فاروق يوسف في مجلة “الجديد”، العدد 33، 01/10/2017 يقول “نشرت مجلة ألف باء الأسبوعية وهي مجلة رسمية ملفاً عن الشعر السبعينيّ ضم قصائد لشعراء بعثيين شباب منهم خزعل الماجدي وعبدالمطلب محمود ومرشد الزبيدي وغزاي درع الطائي وفي المقابل قامت جريدة ‘طريق الشعب’ الناطقة باسم الحزب الشيوعي بنشر ملف عن الشعر السبعيني ضم قصائد لشعراء شيوعيين شباب منهم خليل الأسدي وهاشم شفيق وشاكر لعيبي وعواد ناصر”.
هذا ليس صحيحاً أبداً. لم يكن هناك أيّ ملف عن الشعر السبعينيّ في “طريق الشعب” (وغالباً لا يوجد ملفّ مماثِل في ألف باء) لشعراء شيوعيين شباب. ومتى صاروا شيوعيين وهم مازالوا في العشرينات؟ لقد نسي الكاتب لفرط ثقل الأكذوبة في الضمير العراقيّ الوقائع والحقيقة البسيطة؟
فلماذا الإلحاح على مثل هذا الادعاء إلى درجة اختراع واقعة لا وجود لها؟
4
لماذا يعتبر الوسط الثقافي العراقي، المشكوك بتدقيقه للتفاصيل، أن الشعراء المسمّين بالشيوعيين هم من الأيديولوجيين، وليس شعراء البعث مثلاً؟ هل كان هؤلاء الأخيرون ليبراليين، منفتحين، تجريبيين، مغامرين، وجوديين؟
هناك مغزى ما مريب من هذه التهمة: “الأيديولوجيين” دون سواهم!
5
هل أستطيع القول إن الشعراء غير الأيديولوجيين (ومنهم فاروق يوسف) استمتعوا أيّما استمتاع من طرد الشعراء الأيديولوجيين من البلد وخيراته في الثقافة والمال على أوسع نطاق. هل أستطيع أن اتهمهم بأنهم حلّوا محلّهم. ثم أجد الدلائل على ذلك؟ هناك فعلاً مهزلة أيديولوجية خالصة. والوسط الثقافيّ العربيّ الذي يكتب له عن التاريخ الشعري والثقافي في العراق خلال تلك الحقبة على الأرجح لا يعرف التفاصيل، ويمكن له أن يصدّق كل ما يكتب له، بما في ذلك التفاصيل التي يسوقها الشاعر فاروق يوسف.
6
تتضح هذه الأباطيل الشعرية السبعينية المغرضة عندما نعرف أنها لا تُمتدح هي وحدها فقط، مقابل المديح العالي للغناء والأغنية العراقية السبعينية المجدّدة، وللفكر النقديّ والسياسيّ السبعينيّ المغامر والمُتجدّد، فما حدا ممّا بدا؟ عندما نصل إلى الشعر نكون أمام شعراء أيديولوجيين؟ أليس هؤلاء الشعراء أبناء هذه الفترة المزدهرة المُمتدحَة.
7
هذه الفرية: شعراء شيوعيون وبعثيون في السبعينيات تحوّلت إلى فنتازيا وأوهام، إلى درجة أن فاروق يوسف يتخيّل في مقالته المنشورة في عدد مجلة “الجديد” الأخير أن مجلة ألف باء أنجزت ملفا للشعراء البعثيين، وطريق الشعب ملفاً للشعراء الشيوعيين. الأمر الذي لا وجود له أبداً. أما هو فظل تائهاً كالنبيّ التوراتيّ بين صحراء هذين الملفين المتوهّمين. المغزى: أنه وكل من يقول بمقالته خير من هذا وذاك.
هل كان هناك صراع بين شيوعيين وبعثيين عموماً؟ نعم وهو موثق. فلماذا تحويله إلى حكاية بائسة لا علاقة للشعر بها.
8
أما أنا، فشاعر “صعلوك” أيضاً طيلة حياتي، شاب في عراق السبعينات، كما يعلم من عرفني. اتهامي بالشيوعية ماضٍ ومُجْدٍ لإبعادي عن حقل “الإبداع والشعرية” من اتهامي بالصعلكة. شيء مضحك.
ثلاثاً ورباعاً بئس العقل. ما زلتُ صعلوكاً بصيغة أخرى.
9
(إذا احتاجت المجلة إلى أيّ وثائق لتدعيم ما ورد في هذه المادة السريعة، سيفعل الكاتب).