شعرية اللحظة الراهنة
يعدّ الشعر أكثر الأجناس الأدبية استجابة للتطورات الحضارية المتلاحقة وقد ظل من الشائع تقسيم الشعر بناء على البعد الزمني إلى عصور متعاقبة بدءا من العصر الجاهلي وانتهاء بالعصر الحديث أو بناء على البعد الفني من قبل تقسيم الشعراء إلى شعراء الطبع -البحتري مثالا- وشعراء الصنعة كأبي تمام أو القدماء والمحدثين أو بناء على ما شاع في العصر الحديث من مذاهب أدبية كالإحيائية والرومانسية والواقعية والرمزية.
ورغم صحة هذه التقسيمات وجدواها وقدرتها على مقاربة الشعر يظل من المهم أن نتعامل مع الوسيط الذي تنتقل من خلاله “الرسالة” -الشعر- من المرسل -الشاعر- إلى المتلقي، لقد ظل هذا الوسيط مهملا ولم يلتفت إليه كثيرا إلا في العقود الأخيرة من خلال بعض الدراسات القليلة التي طرحت تأثير الشفاهية والكتابية على النص الشعري أو السردي فلا شك في أن انتقال الشعر من الشفاهية -في العصر الجاهلي- إلى الكتابية قد صاحبه الكثير من التغيّرات الجمالية منها على سبيل المثال الانتقال من المباشرة إلى التعقيد الدلالي ومن السمات الجاذبة للأذن إلى ما يلائم الرؤية البصرية.
ولا شك أن مثل هذه السمات الشفاهية ظلت مستمرة مع ما لحقها من سمات كتابية حتى العصر الحديث وليس أدل على ذلك من قول البارودي “تكلمت كالماضين قبلي بما جرت/ به عادة الشعراء أن يتكلموا” فالشعر -عنده- كلام يلقى وتستقبله “أذن” المتلقي بكل ما يستلزمه ذلك من جماليات على مستوى اللغة والصورة الشعرية والإيقاع.
ويمكن القول إن حركة الشعر الحر -شعر التفعيلة- هي أكثر الحركات الشعرية استفادة من الجماليات الكتابية بما أتاحه شكلها المعتمد على الدفقة الشعرية التي لا تلتزم بعدد محدد من التفعيلات من إمكانيات تشكيل فضاء الصفحة الشعرية التي توزعت عليها الكلمات بناء على حركة الدلالة التي يسعى الشاعر إلى تأكيدها.
نحن الآن -ومنذ عقود- أمام ثورة جديدة تتمثل في توظيف وسائل التواصل الإلكتروني من خلال ما يسمى بشبكة الإنترنت التي جعلت العالم أشبه بالغرفة المغلقة وليس -فحسب- أشبه بالقرية، كما كان يقال، وهو ما هدد السلطة الورقية الكتابية وأصبح من الممكن وصف هذا التواصل “الافتراضي” بالسلطة الخامسة بعد سلطة الصحافة الرابعة حيث أصبح التواصل الافتراضي لحظيا من خلال اصطحاب الهاتف الجوال -الموبايل- بإمكانياته المتعددة: الإنترنت، القنوات التلفزيونية، الإذاعة، الكاميرا، المنبه، الساعة، الحاسبة. فمن خلال هذا الجهاز الصغير الذي لا يزيد عن حجم “الكف” يستطيع الفرد التواصل مع العالم أينما كان ووقتما يشاء.
وأصبح من المتوقع والطبيعي أن تترك كل هذه الإمكانيات تأثيراتها على القصيدة من خلال جدل الفضاء الافتراضي والواقع المعيش ويعدّ الشاعر المصري خالد حسان في مقدمة من وظفوا هذا الفضاء الافتراضي وأصبح -بصورة أساسية- نافذتهم على العالم.
ولا يرجع ذلك إلى أزمة النشر الورقي بل إلى رغبته في تحقيق حريته الإبداعية فالفيسبوك نافذة لا تخضع لآراء النقاد أو لتقارير لجان الفحص. “الفيسبوك” أشبه بالمسرح الحي حيث يتفاعل الجمهور لحظة بلحظة مع ما ينشر سواء بالرفض أو القبول أو إبداء الملاحظات. وتبدو “التعليقات” وجهات نظر كاشفة للنص ومضيفة إليه كما لو كنا في مائدة مستديرة أو “ندوة” مفتوحة للمداخلات المختلفة.
“الفيسبوك” يكسر هيمنة الصوت الواحد، سواء أكان صوت الشاعر أم صوت الناقد.
لقد تم تفكيك السلطة وتوزيعها وأصبح التلقي جزءا من بنية النص. نحن في “عصر الجماهير الغفيرة” الذي لا يخضع لهيبة الألقاب ولا يعترف بالكلمة النهائية، عصر ما بعد الحداثة الذي يتساوى فيه الرسمي والشعبي والحداثة العليا والحداثة الرثة والذائقة المثقفة والذائقة الفطرية.
ولنتأمل هذا النص الطويل نسبيا لكي نتعرف على من أسماهم خالد حسان بشعراء الفيسبوك:
“أنا أحد شعراء الفيسبوك/ واحد من هؤلاء الذين يرهقون أنفسهم في متابعة عداد اللايكات طوال اليوم/ الذين ينتظرون تعليقات أصدقائهم كمن ينتظر معجزة/ الذين قد تعني لهم “علامة قلب” الكثير/ الذين لا يقرأون بقدر ما يكتبون/ الذين يقعون في إحراج بالغ عند كتابة سيرتهم الذاتية (…….) الذين اتفق الجميع على أن ما يكتبونه خواطر وليس شعرا/ الذين لم يقرأوا المتنبي أو أحمد شوقي أو حافظ إبراهيم……/ الذين يكتبون قصائد مجانية تعطي نفسها من أول مرة/ الذين يطاردون الحياة على حوائط فيسبوك/ وفي الغالب لا يجدونها”.
هذا نص كاشف أشبه بالبيان الشعري الذي يحدد طبيعة الشعر وغاياته، فالشاعر لم تعد تعنيه آراء النقاد أو الصحافيين أو الشعراء المكرسين بسلطة الخطاب النقدي. الشاعر -هنا- يتوجه إلى جمهور آخر مختلف يعبر عن رأيه بتقنيات الفيسبوك الجديدة: “اللايك” أو “علامة قلب” أو تعليق الأصدقاء الذين لا يفترق عنهم ولا يرى في نفسه امتدادا لكبار الشعراء.
ونوعية هذا الجمهور تحدّد طبيعة الشعر الذي ينبغي أن يكون مجانيا مباشرا يعطي نفسه لقارئه من أول مرة، الشعر -هنا- بسيط بساطة صاحبه وبساطة جمهوره الذي ينتظره على “جدار فيسبوك” وليس ذلك الفن المهيب الذي يلهث وراءه الشعراء دون أن يقتربوا منه، والذي يبدو مثل:
“الكائن المتعالي الكبير المراوغ/ الذي ليس له قلب/ الذي يضحك من أحزاننا/ الذي عادة ما ينظر إلى لغتنا بسخرية واشمئزاز/ الذي لا يعبأ بلهاث الكثيرين خلفه/ هؤلاء الذين يضيعون أعمارهم في مطاردته بلا جدوى”.
هذا الشعر الجليل المهيب المترفع عن البشر وعن نثريات الحياة البسيطة اليومية لم يعد هدف شاعر اللحظة الراهنة.
لقد أصبح الشعر صوت الذات في سعيها اليومي، أصبح رفيقا بسيطا يلازم الشاعر ويختلط بأنفاسه وأوجاعه في بساطة ووضوح ويصبح “فيسبوك” -في هذه الحالة- عالما بديلا للحياة أو يصبح هو الحياة ذاتها عند الشاعر وليس -فحسب- نافذته على العالم، وتصبح “الصورة” -التي نحيا عصرها- هي كل شيء، الصورة بديل عن الكائن الحي:
“أحب صورتك على فيسبوك/ ولا أجرؤ أن أصارحك بذلك/ في رسالة عابرة/ كل ليلة أشاهدها كأنني أراها لأول مرة”.
هذه السطور تعكس طبيعة العلاقة الافتراضية بين الشاعر وفتاته من خلال صورتها على “فيسبوك” دون أن نعرف اسمها أو نتعرف على مواقف تمّت بينهما، ولعله من الطريف أن نقارن بين هذه العلاقة الافتراضية وقول شوقي معبرا عن خطوات العلاقة الغرامية التي تعكس إيقاع عصره، هذه الخطوات التي تتمثل في قوله: “نظرة فابتسامة فسلام/ فكلام فموعد فلقاء”. ويستمر هذا الجدل بين الافتراضي والواقعي حيث يفضى كل منهما -في نهاية الأمر- إلى الآخر:
“لابأس/ رغم كل شيء/ يتذكر “مارك” يوم مولدي/ وتشارك زوجتي بعض نصوصي على فيسبوك/ دون أن نقرأها/ لا بأس/ رغم كل شيء/ أطفالي يحبونني/ ويعاملني بعض أصدقائي/ على أنني شاعر”.
وهكذا استطاعت شعرية اللحظة الراهنة توظيف تقنيات الفضاء الافتراضي وإدخاله في بنية القصيدة بغرض إنتاج نصوص مغايرة عمّا سبقها.