شهوة الحضور وانفجار المكبوت
لعل أدق تعريف للفيسبوك هو: الجريدة اليومية الخاصة التي يصدرها الإنسان العادي عن أحوال ذاته متى يشاء وكيف يشاء. ها هو يكتب سيرته اليومية دون أي اكتراث بالقارئ. يعرض تحولاته، يجعل من الفيسبوك منبره الفكري والأخلاقي. يكتب فيه أخباره وأخبار دنياه القريبة والبعيدة. يعبّر فيه عن فرحه بذاته وغضبه من غيرة، ينفس فيها عن غضبه وتأففه بلغة بسيطة محكية.
كاتب الفيسبوك، بعامة، ليس كاتباً محترفاً الكتابة، وهو بالنسبة إليه مكان لممارسة شهوة الحضور. فيما قامت النخب بعملية غزو لهذه الوسيلة أملاً منها بتعميم أفكارها وأدبها وفنها. ومن فضائل هذه الوسيلة قدرتها على إزالة التراتبية بين الفاعلين فيها.
فلا يوجد معلم ولا تلميذ، ولا أستاذ ولا طالب ولا كبير ولا صغير، فالكل سواسية بالحق في التعبير والحضور، بمعزل عن طريقة التعبير ودرجة الحضور.
ومن سيئاته أن أوجد منبراً للحمقى والوقحين والكذابين ومشتهي الحضور الذين لا يتوافرون على هذه الإمكانية والثأريين.
هذه السيئات يجب ألاّ تنسينا أمراً هاماً جداً، ألا وهو أن الإنس قد اعتادوا على سماع ما لا يرضيهم. وكانوا قديماً يكتفون بالنميمة مجهولة المصدر.
أما الشيء الذي يُحمد للفيسبوك انكشاف أخلاق الناس وقيمهم وذهنياتهم، وبناهم النفسية. فلغة الخطاب والعلاقة بالمختلف، وقيمة الصداقة، والذهنية وردود أفعال الجماعات والأفراد، كل هذه التعينات البشرية باتت مكشوفة. لقد قرر الفرد أن ينكشف ويكشف.
فغياب المواجهة وجهاً لوجهة وفّرت للذين بينهم مسافات أن يعبّروا عن مكبوتاتهم الشعورية واللاشعورية، حتى ليمكننا القول بأن الفيسبوك صار أفضل مكان لممارسة الفجور اللفظي، وظهور سريرة الناس، من جهة، والتعبير العفوي عن المكبوت اللاشعوري والمكبوت الموصى به.
والأهم ممّا سبق ذكره قدرة هذه المنصة على كشف أنماط الوعي السائدة، من الوعي الاجتماعي إلى الوعي السياسي مروراً بالوعي الديني والوعي العلمي. فهذه الملايين المعبّرة عن مواقفها من الحياة تنتمي إلى مختلف شرائع المجتمع وفئاته ومراتبه. وهذا مما يضع في يدي الباحث السوسيولوجي والسيكولوجي والأنتروبولوجيا عينات عشوائية ومقصودة مختارة لدراسة الوعي، لا سيما وإن أفراد الفيسبوك يشيرون إلى العمل والمهنة ومستوى التعليم والمكان. وهذه العينات أكثر صدقاً من العينات التي كان الباحث يتحاور معها ويطرح عليها الأسئلة.
أجل، باستطاعة السوسيولوجي والسيكولوجي أن يعتمدا بكل اطمئنان على الفيسبوك، للحصول على أيّ عيّنة يريد، للقيام بدراستها في موقفها من أيّ مسألة من مسائل الحياة المعيشة.
فالغالب في الكتابة الفيسبوكية أنها متحررة من الرقابة الخارجية والداخلية، وبالتالي إذا طرح الباحث سؤال بحثة، وراح يفتش في الفيسبوك عن جواب السؤال، فإنه سيحصل على نتيجة أفضل بكثير مما لو طرح السؤال مباشرة على عينة محدودة عشوائية أو مختارة.
عيّنة للتأمل
إن سؤالاً مهماً واحداً تطرحه صفحة أحد المشاهير أو موقع ذو شأن أو حتى بروفايل عادي، فإنه سينال من الردود ما لا يخطر على بال. بل إن “بوست” عاديا يطرح رأياً مخالفاً لرأي جمهور أيديولوجيا ما، حتى يكون لديك مادة لفهم الوعي من عينة تُقدر بآلاف الأشخاص دون عناء.
ففي 5 حزيران 2015 كُتب على حسابي الفيسبوكي تحت عنوان فكرة ما يلي:
“فكرة”:
“قال الجنرال السوداني عمر البشير إنه ماض في تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان. إني لأتساءل ما هي الشريعة الإسلامية التي يسعى لتطبيقها هذا الجنرال؟ هل هناك في الشريعة الإسلامية قانون للسير؟ أو قانون لتنظيم الجامعات؟ أو قانون للاستيراد والتصدير؟ أو قانون للصحافة والنشر؟ أو قانون للأحزاب والهيئات المدنية؟ أو قانون للبناء وتخطيط المدن؟ أو قانون مالي للبنوك والضرائب والشركات؟ أو قانون للملاحة البحرية والجوية؟ أو قانون للعمل؟ أو قانون لحقوق الملكية والنشر، أو قانون للعقوبات الخارق لكل هذه القوانين.
ما هي الشريعة الإسلامية غير تلك المتعلقة: بحد السرقة والزنا والإرث والزواج والطلاق، وبعض أشكال البيع والشراء البدائية. وبالمناسبة ليس في النص القرآني عقوبة دنيوية لتارك الصلاة وللمفطر في رمضان ولشارب الخمر ولخلع الحجاب ولعدم الحج لمن استطاع.
يا أيها الناس كبّروا عقولكم. الحياة أغنى بكثير مما تعتقدون. منطقة واحدة في دبي أكبر من مدينتي مكة ويثرب في القرن السابع الميلادي. أتركوا للحياة ما للحياة ولله ما لله.
مأزق الطغاة العسكريين أنهم عادوا الحياة والإنسان والحرية. وكبلوه بأغلال صدئة. لا للأغلال من أي نوع. الحرية الحرية، الكرامة الكرامة، الحاجات وتلبيتها الحاجات وتلبيتها. اخرجوا من تلك الكهوف المظلمة كهوف الطغاة من كل أنواع الطغاة.”
جاءت ردود الفعل كالتالي:
“أكثر من الف إعجاب. 219 مشاركة. ألف تعليق، أكثر من تسعين بالمئة من التعليقات جاء من أصوليين، جميعها شتائم بكلمات بذيئة، بل واستخدام أسماء الأعضاء التناسلية للنيل من أمي وأختي، وكلها تشارك بجملة واحدة قيلت بأشكال مختلفة: (الإسلام، يا جاهل، صالح لكل زمان ومكان).
إن أصحاب التعليقات عينة عشوائية عبّرت عن موقفها ومشاعرها دون أن يحملها أحد على ذلك، هذه العينة تسمح لك عبر دراسة تعليقاتها أن تعرف شكلاً من أشكال الوعي الديني.
انفجار المكبوت
حين مات المفكر الإسلامي محمد شحرور، كان هناك انكشاف شديد للناس في موقفهم ليس من شخص محمد شحرور بل من فكرة تجديد التأويل للنص القرآني، حتى التعبيرات المشينة التي قيلت بحقه تسمح بقياس درجة العنف لدى الناس.
الفيسبوك ليس طاولة حوار، بل هو ساحة معارك يخوضها كل الكتبة والكتاب بمعزل عن درجة ثقافتهم، حيث لا أسلحة محرمة.
عالمان مهمان جداً ساهم الفيسبوك في انكشافهما: أولاً ظهور المكبوت بكل أشكال التعبير، وثانياً انكشاف عالم القيم الفردي والجماعي. فكل فرد يعيش هاتين التجربتين مع من يعرفهم ومع من لا يعرفهم.
يظهر المكبوت في التعبير عن الموقف من الأفراد والأفكار. وأخص بالذكر هنا انكشاف الكره المكبوت الذي وجد طريقه عبر حرية التعبير عنه دون وجل، وانكشاف المكبوت الجنسي.
فالمجاملة على صفحات الفيسبوك هي استمرار للمجاملة في الحياة اليومية، وبالتالي لا يمكن الثقة بها. ولكن الكره دائماً صادق. بل قل الكره أصدق العواطف. الكره بما ينطوي عليه من غيرة وحسد وعدوانية.
فالنص الذي كتبه على الفيسبوك مؤخراً أحد أشهر رسامي الكاريكاتير العرب في التعبير عن كرهه للفلسطيني لم يكن يخطر على بال. فقراءة متأنية لهذا النص وأسلوب اللغة المتبعة يدلان على أن هذا الكره ليس وليد الساعة. بل هو مكبوت قديم. وليس هذا فحسب، بل إن هناك من شتم كل فلسطيني في التعليقات.
والدهشة تتولد من ظهور مكبوت غير متوقع، ولا يخطر على بال. فلقد أظهر شاعر أجاد دور الشكّاء البكّاء المتأفف من الواقع، مكبوته بكل وضوح في تأييد للطاغية والقتل بلغة سوقية، وشتم من كانوا في عداد أصدقائه.
بل إنها لمفاجأة ما بعدها مفاجأة أن تقرأ شتيمتك من شخص كنت تظن أنه يحبك. وتتساءل: كيف مارس هذا الشخص التقيّة كل هذا الزمن، ودون سابق إنذار يُخرج مكبوت الكرة لديه دون أيّ إحساس بالذنب.
لا شك بأن الفيسبوك قد أتاح الفرصة للملايين لانكشاف موقفهم السياسي المكبوت بفعل عالم القهر والقمع الذي عاشوه، وانكشاف عالم التقية السياسية، والمكبوت الطائفي، وهكذا.
بين الأمس واليوم
أما المكبوت المعتقدي المناهض للدين، فحدّث ولا حرج. ففي عام 1967 كتب إبراهيم خلاص في مجلة “جيش الشعب” السورية يقول “استنجدت أمة العرب بالإله، فتَّشتْ عن القيم القديمة في الإسلام والمسيحية، استعانت بالنظام الإقطاعي والرأسمالي وبعض النظم المعروفة في القرون الوسطى، كل ذلك لم يجدِ فتيلاً.
القيم المريضة وليدة الرأسمال والإقطاع والاستعمار جعلت الإنسانَ العربي متخاذلاً متواكلاً، إنساناً جَبرياً مستسلماً للقدر لا يعرف إلا أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ويؤمن ‘الإنسان الاشتراكي العربي الجديد’ أن الله والأديان والإقطاع ورأس المال والاستعمار والمتخمين وكل القيم التي سادت المجتمع السابق ليست إلا دمى محنّطة في متاحف التاريخ. إذ ليست هناك سوى قيمة واحدة هي الإيمان المطلق بالإنسان الجديد الذي لا يعتمد سوى على نفسه وعمله وما يقدمه للبشرية جمعاء.
الإنسان يعلم أن نهايته الحتمية الموت، ولن يكون هناك نعيم أو جحيم. لسنا بحاجة إلى إنسان يصلّي ويركع خاشعاً ذليلاً، يطلب الرحمة والغفران لنفسه، لأن خلاصة الصلاة كما قال بروست ‘يا إلهي أعرني اهتمامك’ بل نحن بحاجة إلى إنسان اشتراكي ثائر”.
لقد قامت الدنيا من وراء هذا المقال ولَم تقعد. وعمّت المظاهرات مدينتي دمشق وحلب، مما دفع المحكمة العسكرية الاستثنائية، إلى التدخل والحكم على الكاتب الضابط إبراهيم خلاص وعلى رئيس تحرير المجلة النقيب عدنان حمام بتجريمهم بجناية إثارة الفتنة الدينية عملاً بأحكام المادة الـ3 من المرسوم التشريعي رقم 6 لعام 1965 والمعاقب عليها بالمادة الرابعة من المرسوم المذكور، والحكم عليهما بالأشغال الشاقة المؤبدة، وتجريدهما مدنياً وطردهما من الجيش. وصدَّق على القرار رئيس الدولة. صحيح بأن العقوبة لم تنفّذ، ولكن الإعلان جاء من أجل مواجهة الاحتجاج العام.
وفي عام 1992 اغتيل فرج فودة من قبل إسلاميين متعصبين بسبب آرائه حول ضرورة فصل الدين عن الدولة.
لكن الفيسبوك اليوم يعج بآلاف الأسماء الصريحة وغير الصريحة والمواقع التي تطرح الإلحاد دون تورية، وما من قوة قادرة على منع هذا المكبوت من الظهور.
اللغة السوقية
أما المكبوت الجنسي فقد وجد في الفيسبوك الوسيلة الأحسن لانكشافه. ويظهر هذا المكبوت صريحاً ومستتراً. ويعبر عن نفسه في التمتع باستخدام لغة الشتيمة الجنسية وتنويعاتها، ومن قبل جمهرة كبيرة من الفيسبوكيين.
لقد كشف الفيسبوك عالم القيم السائدة، من دون تورية، بسلبياتها وإيجابياتها. وإذا ما تحدثنا عن قيمة الآخر والاعتراف به، وهي القيمة التي تحدد درجة التقدم الأخلاقي وأثرها على جميع القيم، فإن الفيسبوك العربي أظهر ضعف هذه القيمة إلى درجة الهزال. فالاعتراف بالآخر تعني الاعتراف بقيمة الحق في الاختلاف. ويظهر هذا في الشتيمة بوصفها لغة خطاب مع المختلف.
والحق أن انتشار هذا النوع من الخطاب الشتيمي ذو علاقة عميقة بتدمير عالم القيم في مناخ الاستبداد السياسي والأيديولوجي، وفقدان المجتمع لأهم قيمة من قيمه الكلية ألا وهي احترام الإنسان والتراتبية المجتمعية.
فمع استمرار عملية تحطيم القيم المعشرية، وسيادة اللغة السوقية، لغة نفي للآخر، تنمو مع الأيام نزعة عدوانية رعاعية دفينة بحيث تشكل أحد أهم عناصر البنية النفسية التي ترعرعت في ظل الاستبداد وتحطيم القيم.
فالعدوانية كحالة نفسية وطريقة للتعامل بها مع المختلف تعبّر عن ذاتها بخطاب الشتيمة التي هي صورة مجردة عن الرغبة في القتل. لأن الشتيمة في هذه الحال هي قطع الصلة مع الآخر قطعاً كاملاً. وهكذا تعبر لغة الشتيمة في الخطاب السياسي والأيديولوجي، ليس عن حالة نفسية غضبية عابرة، بل عن نفسية عنفية تصل حد السادية الكلامية.
وهذا يدل على الخطر المدمّر والشنيع لعملية تحطيم القيم التي تجري على امتداد وقت طويل، وصعوبة استعادة هذا العالم المدمر. ولعمري إن قراءة متأنية للخطابات على صفحات التواصل الاجتماعي، وبخاصة الفيسبوك، تدل على كيفية تحول خطاب الشتيمة السياسية والأيديولوجية إلى نمط مألوف للتعبير عن الاختلاف، ومما يزيد من انتشار هذه الظاهرة أن الشاتم في مأمن من المشتوم جسدياً، كما أنه، عبر اسمه المقنع والاختفاء خلفه، يتصرف كشخص خفي لا يراه أحد.
ولهذا لا يعبّر خطاب الشتيمة عن نفسية شجاعة، بل عن نفسية تخاف من مواجهة الآخر. بقي أن نقول إن خطاب الشتيمة لا يعبر عن عجز نفسي وأخلاقي فحسب وإنما عن عجز معرفي أيضاً وتعويض عن هذا العجز.
ففي الوقت الذي تتطلب فيه قضية ما نقاشاً فكرياً وسياسياً جاداً، ويتطلب هذا النقاش بدوره حظاً ضرورياً من المعرفة، فإن الشاتم شخص تنقصه الحجة المعرفية ولا تتوافر لديه مفاهيم الحوار النظرية، فيعبر عن فقره المعرفي والنظري والمفهومي بلغة الشتيمة، هارباً إلى سد باب الحوار والتخلص من عجزه المعرفي ببضع كلمات لا تسمن ولا تغني من جوع. وهكذا تتحول ثقافة الشتيمة إلى معلم أساسي من معالم تحطيم قيمة الآخر والحق في الاختلاف.
أسماء مستعارة
بقي الحديث عن الفيسبوك والاسم المستعار خوفاً من الانكشاف، فالفيسبوك كما قلنا أحد أهم نشرات الأخبار اليومية عن الشخص، بمعزل عن صحة أخباره أو تلفيقها.
والفيسبوك والحالة هذه ممتلئ بالأسماء المستعارة التي يقصد صاحبها أو صاحبتها، لأسباب سنوردها، الاختفاء وراءها.
إذن، الاسم المستعار في الفيسبوك تعبير عن التخفي في الغالب خوفاً من انفضاحه. لكن من هم هؤلاء الذين يخافون من الاسم الصريح، ولماذا؟
هناك محبو اللعب، والراغبون في التسلية، وليس مقصودهم سوى تصيد الصداقات، وكتابة النكات، ويخجلون من كشف أسمائهم وانكشافها. كاتخاذ امرأة اسماً معبّراً عن رجل، أو اتخاذ رجل اسماً معبّراً عن المرأة، وهذا النمط لا علاقة له بالسياسية. وحين سألت أحدهم أعرف اسمه الحركي (المستعار)، مالك ومال هذا الأسلوب؟ فأجاب إنه اسم للتصيد. وصوره مجموعة من النساء وبعض صور الطبيعة.
أما الأنماط المرتبطة في السياسة فهي: نمط معارض، ويعيش في مجتمع قمعي، ويكتب بوصفه معارضاً، لكنه يخاف من انتقام السلطة.
وقد أرسل لي شخص يُدعى رجل الشمال طلب صداقة، فلم أوافق بسبب جهلي بصاحب هذا الاسم المستعار، ثم أرسل لي رسالة على الخاص يخبرني فيها بأنه صديقي فلان، الذي يعيش في دمشق.
وهناك نمط مع الجماعات الحاكمة ممن ظل فيهم بقية حياء، فيخجل من الظهور العلني لإدراكه مدى فداحة الصورة السيئة للموالين للنظام في أعين الناس، فيخاف من الفضيحة ويتخفى.
أما النمط المخابراتي فهو الأشهر من أنماط الأسماء المستعارة. وهو اسم قد يأخذ دور المعارض الراديكالي للنظام. فهذا النمط ليس شخصاً بعينه، بل هو اسم مستعار لمؤسسة تقود عملا استخباريا.
يغلب الاسم المؤنث على الاسم المستعار هنا، لما للمؤنث من حظوة عند المذكر العربي. ففي الحالة السورية مثلاً يكون الاسم المستعار سواء كان مؤنثاً أو مذكراً اسماً سنياً في الغالب، أو تكون العائلة من العائلات السنية المشهورة، حتى لا يقع الشبه بالاسم ويجري تصديقه.
هذا الاسم الراديكالي في عدائه الصوري للنظام يمارس شتيمة النظام بصورة قاذعة، فالشتمية أصبحت شائعة تجاه النظام، ولم يعد يحفل بها، ولديه من الشتامين لأعدائه ما يكفي.
الاسم المخابراتي المستعار هذا الذي يُظهر عداءً راديكالياً شتاماً أو ناقداً للنظام يقوم بتحقيق وظيفتين: الأولى، هي أن هذه الراديكالية جاذبة للمعادين الحقيقيين للنظام، فيكشف النظام عبر الصداقات التي تنهال على الاسم وتعليقاتهم الأسماء الحقيقية لمعارضيه وبخاصة في الخارج، ودرجة عدائهم.
أما الثانية، فهي الأخطر، فبعد أن تيقنت الجماعة الحاكمة وأجهزتها الأمنية بأن هجوم كتبتها المكشوفين من شعراء وسفراء وقصاصين وصحافيين على النخبة الوطنية المدافعة عن الحرية تزيد من مكانة النخبة الوطنية، وحضورها في الحياة السياسية والثقافية، ويصدق فيهم القول “إذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل”، فإن الجماعة الحاكمة بأجهزتها أولت الأمر للمثل الراديكالي صاحب الاسم المستعار الذي هو الجهاز نفسه، فحين يطمئن الجهاز صاحب الاسم المستعار المخابراتي الراديكالي لحضوره وتصديق الناس لوجوده، فإنه ينبري بين الفينة والأخرى للقيام بعملية هجومية شتائمية على نخبة ثورية ثقافية وسياسية فاعلة، ظاهراً بمظهر الدفاع عن الثورة كما يجب أن تكون، آخذاً على هذه النخبة سلبية مخترعة من قبله، وتقوم آلة جاهزة للتعليق من منطلق التمثيلية الراديكالية. ويدخل القارئون في صراع بين مؤيد لقوله ومعارض.
وإذا كان المنقود نزقاً فيدخل في معركة زائفة مع مجموعة من الشتامين، لا سيما وأن الاسم المخابراتي المستعار يفتح صفحته لتعليقات الجميع، فيكون له ما أراد من المهارشات.
كيف يمكن معرفة حقيقة الاسم المخابراتي المستعار؟ أنا لا أعرف الجواب بدقة، لكن الاسم المستعار غالباً ما لا تكون له صورة شخصية على بروفايله، ليست له حياة عائلية مصورة، ليست له مناسبات يخبرنا بها، ليس على صفحته أحزان على أقارب، أو أفراح. فمن الصعب على هذا المتنكر، مهما تنكر، أن يخلق عالماً حقيقياً. ففقره على صفحات الفيسبوك شبيه بفقر حياته داخل جهازه الأمني.
لقد حلق انكشاف الذات على هذا النحو الصارخ على الفيسبوك شجاعة الظهور، ووقاحته، وكشف عما كان يُخاف منه، ويُستحى من ذكره، ويُخفى خوفاً من الفضيحة. وعندي فإن الفيسبوك ساهم وسيسهم مع الأيام في خلق الإنسان العاري.