شيء يشبه الهاوية

الخميس 2021/04/01
لوحة: زهير دباغ

1

ليس من جواب جاهز لسؤال الكتابة، لا أدري إن كان من الجائز القول إنّني أكتب لأعيش، لأحيا، لأتنفّس، لأنقذ حياتي من اللّاجدوى… وهذا لا يعني بالضّرورة أنني أبحث عن اعتراف بالجدوى، من شخص يقف في مقابلي يُسمّى “القارئ”، بل لأصنع جدار صدٍّ أمام صدر الحياة، حتى أقنع نفسي بأهمّية المقاومة، وبأنّه لا بأس بقليل من البؤس الذي تحمله الأيام، لحضّنا على الكتابة.

مشروعي الشّعري الحقيقي هو الحياة بعرضها وطولها، هي التي عبرها أدفع بالكلمات إلى عربة الشّعر، لأواصل محاولة كتابة نصوص توازي الحياة، في الكثافة والعمق والبساطة. الشعر نفَس وتنفّس، من أجل البقاء خارج ما هو مصطنع ونمطي؛ فلا يمكنني تصوّر حياتي خارج أسوار الشّعر. حتى قبل أن أكتب، كنت أتوق للكتابة كفعل خارق، وكمتنفّس للاختناق الذي عِشتُه كامرأة.

في صغري، تمنّيت أن أستطيع تسجيل يومياتي حركةً بحركة، نفسًا بنفس، مثل تقني بمختبر الحياة، يسجّل تطور الكائن الذي يدرسه، يوما بيوم. لكنّني خفت أن يطّلع الآخرون على ما أكتب، وعلى عريي الذّاتي. وأجّلت الكشف إلى حين، ذلك الحين الذي كشف لي أنّ للجميع قصصه، وقسمته من الخيبات وسوء الطّالع، وحنينه إلى الطفولة، للجميع هزائمه التي لا يمكنه الاعتراف بها حتى إلى أقرب الناس إليه، ولم يعد مهما تسجيل الأيام، بقدر تسجيل آثارها وتأثيراتها.

أنظر إلى الكتابة كوسيلة تخفّف من الحياة بوضعها على الورق، وفسح المجال أمام إمكانية حياة جديدة، أخفّ وطأة. عبر الكتابة يمكننا فعل ما يستحيل في الواقع، مثلما يقول محمود درويش في حواره مع إيفانا، أنه “يكتب الشعر لأنه يستطيع أن يقول فيه وأن يفعل فيه ما لا يستطيع قوله أو فعله خارج الشعر”؛ لكنّه يضيف “ليس لي ما أجده داخل الشعر إذا لم أكن ممتلئا بالخارج، بالواقع، بالناس، بالتاريخ، بالطبيعة، وغيرها”.

2

أظن أنّني حقّقت محاولة كتابة الشعر، وتنفّسه، ولا أتوقع أكثر من ذلك. وما حظيت به من متابعة نقدية، كانت لفتة مهمة نحو ما أكتب، أثّرت فيّ وفاجأتني معظم الوقت؛ لأنني لا أتوقع شيئًا من النّقد، بما أنّني لا أسعى إلى خلق حالة شعرية، ولا أتوقّع أن يستحسن الجميع رؤيتي الشّعرية. كما لا أنظر إلى الشعر كحالة جماعية، أو تفاعل بين شاعر وناقد، كل منهما يبدع لوحده؛ فالشّاعر حين يكتب لا يستحضر الناقد أو رؤيته، والناقد لا يعنيه الشّاعر في حد ذاته، بل يبحث عن تفسيراته الخاصة للنّصوص.

3

هناك شعراء كثر أراهم مهمين للشّعر العربي، انعكاسهم على طريقي نحو الشّعر، يشبه أن تمشي في طريق مضاء ومظلّل بأشجار عالية. بنظري، لا تتناقض الدوافع الذاتية مع الالتقاء بتجارب أخرى؛ فلا أحد يبني بيتا حقيقيًا من فراغ، وما من شعر حقيقي ومتطوّر من دون تجارب سابقة. وإنني ممتنة لكل الذين حبّبوا لنا الشعر، وعلّمونا كيف نقرأه قبل أن نكتبه.

4

لا أسمعها. لا أسمع سوى الشّعر، حيثما كان. وليس ضروريًا أن يكون عربيًا حصرًا، فالشعر انتماء إنساني أولا، الشعر اعتقاد راسخ بتجدد المشاعر الإنسانية تجاه تجارب حياتية شبيهة.

5

لطالما رأيتُ الشعر هاوية أو دوامة حالما تستسلم لها، تُبقي لك أنفاسًا من دون أن تطلقك… تُغرقك من دون أن تقتلك، بل تحييك بكل الطرق الممكنة والمتخيّلة، التي لا يعرف عنها الآخرون شيئًا. بالشّعر وحده يغدو الشاعر كائنًا ماورائيًا، يرى ما لا يُرى، ولا يُشعر ولا يُحس، وما لا يُدرك من غيره.

الشّاعر المشغول بضجيج التّفاصيل، يرى الآخرين وهم منشغلون بالقشور وتفاسيرها، ومسارات سُبلها المرئية. الشاعر يقف دائمًا خلف الأشياء، يتأمّل ويغرِف بملعقة ضخمة من الأسرار، التي يظنّ أن الأرض تخبّئها عنه. هو الذي يقضي عمره في معطف مفتّش خيالي، يلتقط ما نسيه المجرمون والقتلة من تفاصيل.

هو الذي يظنّ نفسه نبي الأشياء الصّغيرة، المنبوذة في عالم قاس وبارد؛ لذا فالصّمت سمة ملازمة له، وليست احتجاجًا على شيء ما، فالشّعر لا يعيش في ضجيج العادي والاستهلاكي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.