شياو شياو التجوال مسقط رأسي

السبت 2022/10/01

شياو شياو من شاعرات الصف الأول في الصين، رسامة شهيرة أيضاً. في عام 1993، حررت سلسلة من سجلات الشعر الصيني الحديث وهي: “الأعمال الكاملة قبل حركة الشعر الضبابي”، و”الأعمال الكاملة إبان حركة الشعر الضبابي”، و”الأعمال الكاملة بعد فترة الشعر الضبابي”. نُشرت لها العديد من المجموعات الشعرية على سبيل المثال وليس الحصر: “قصائد وامرأة تحت الشجرة”، و”قصائد شياو شياو”، و”مرثية عالم آخر”، و”حديث إلى الروح”، و”الوقت يقف على أنامل الأصابع”، وغيرها من المجموعات الشعرية الأخرى. تُرجمت أعمالها إلى العديد من اللغات الأجنبية مثل: الإنجليزية والألمانية والفرنسية والعربية واليابانية والكورية والإسبانية، والبنغالية والفارسية والفيتنامية، وغيرها من اللغات الأخرى. شاركت لوحاتها التشكيلية في” معرض فن الشعراء الصينيين المعاصرين”، و”معرض الرسم والخط الصيني المعاصر”، وغيرها من المعارض الأخرى. حصدت العديد من الجوائز الأدبية في مجال الشعر مثل: “جائزة ون إيدوو”، و”جائزة الإسهام الخاصة بمئوية الشعر الحديث”، و”الجائزة السنوية لمجلة تيارات الشعر”، و”جائزة مجلة أدب بكين”، و”جائزة المركز الأول لأفضل عشر قصائد على شبكة الشعر الصيني عام 2017″، و”جائزة أفضل شاعرة لعام 2018″، و”الجائزة الرومانية الدولية تيودور أرغيزي للآداب”، وغيرها من الجوائز الأدبية الرفيعة الأخرى. وتعتبر شياو شياو أول امرأة آسيوية تُمنح الجنسية الرومانية الفخرية. هنا ملف يتضمن حواراً معها ومختارات من شعرها أعدته وترجمته لمجلة “الجديد” الكاتبة والمترجمة ميرا أحمد.

الجديد: كيف كانت بداياتك على درب الأدب والشعر؟ ومتى كانت أول تجربة شعرية لكِ؟

شياو شياو: نشرت أولى قصائدي في سن الثامنة عشرة، في الصفحة الأولى من جريدة “الشعر الشهرية” في عمود معنون بـ”أربع فتيات مذهلات”، لكن في ذلك الوقت، لم أكن أفكر في ما إذا كنت أمتلك موهبة شعرية أم لا، كل ما هنالك، أنني كنت أهوى نظم الشعر. وقد حالفني أوفر الحظ آنذاك، فبعدما قرأها أستاذي، أرسلها إلى الجريدة، وسرعان ما نُشرت. في تلك الفترة، أحسست أن نظم الشعر أمرٌ يسيرٌ، بل يجعلك تشعر بلذة ومتعة، وعندما كان يجتحاني فيضٌ من المشاعر، كنت أنظم الشعر، وإذا أضعت هذه المشاعر، كنت أنقطع لفترات طويلة. في عام 2010، ضرب زلزال بقوة 7.1 ريختر يوشو، ورغبت في التطوع لخدمة المصابين، لكن  حال أمرٌ ما لذهابي إلى هناك، فانتابني وقتها قلقٌ شديدٌ، وهذه الحادثة تذكرني بزلزال ونتشو في عام 2008، عندما هرعت مع مجموعة من الأصدقاء من بكين إلى المنطقة المنكوبة، حاملين المساعدات التي تبرعنا بها. وعندما كنت واقفة على الأنقاض، شممت رائحة الموت القوية، كما أنني رأيت قريةً بأكملها قد ابتلعتها الأرض، فمثل هذا الألم لا يمكن بلوغ منتهاه إلا من خلال المجسات الشعرية. ويبدو الأمر، وكأنه تكليفٌ من السماء، بأن أجسد من خلال الشعر الموت، وأصف معاناة البشر، وأكشف ظلمات العالم ومفاسده، وأكتب عن الضياء الذي تمنحه السماء للبشرية، من أجل صحوة القلوب من الغفلة. وفي النهاية أدركت، أنني جئت إلى هذا العالم كي أنظم الأشعار. كم أنا ممتنة لآلهة الشعر “موسو” لمشاعرها الحميمة تجاهي وحبّها الكبير لشخصي! فقد منحتني هبة الشعر، وأنا أكابد الآلام وأعاني خيبات المسعى، وأواجه الصعاب ونوائب الدهر. أشعر أن الشعر هو مهنتي التي سأزاولها حتى آخر العمر. لا أعلم هل هذه هي الموهبة الشعرية التي تعنيها في سؤالك أم لا؟

نشأت في بيئة غير شعرية تمامًا، ولاسيما في مطلع تسعينات القرن الماضي، كنت دومًا أذهب إلى زيارة بعض الأشخاص في السجن، كما كنت أقضي بعض الأوقات على الطريق المؤدي إلى السجن. يمكن القول، إنني ذقت شتى ألوان العذاب وسط عتمة الليل. ولا يمكن أن أتصور كيف كنت سأجتاز تلك الأيام العصيبة التي عشتها لو لم يُلق الشعر بالنور في قلبي؟ لذا فإن التعبير عن العذابات والمعاناة، وتجسيد الكفاح والنضال، وتصوير خيبات الرجاء وصرخات الألم، هي بذورٌ نمت في أرض قصائدي. وانطلاقًا من هذا المعنى، ربما أكون أستحق كل ما شهدته من مصاعب وشدائد، والبيئة القاسية التي نشأت في كنفها هي التربة التي أبذر فيها بذور أشعاري.

آلام الصبا

لقاء

الجديد: الطفولة هي مهد الأحلام ولا شيء يؤثر على مستقبل الإنسان قدر أحداث الطفولة. هل يمكن أن تحديثنا عن طفولتك، وما تركته من أثرٍ على موهبتك الشعرية؟

شياو شياو: عشت طفولة حساسة ومؤلمة. عشت في مجمع عسكري على ضفاف نهر مينجيانغ، ونشأت في أسرة عسكرية، كانت أسرة متواضعة الحال، لكنها كانت أسرة صارمة. كان أبي رجلًا سريع الغضب، عادةً قبل عودته إلى البيت، كان يبعث بابتسامة خفيفة إلى الآخرين، لكن ما إن يمضي إلى الداخل، ويحسّ بعدم الرضا تجاه شيء ما، حتى تندلع ثورة غضبه، مما أضفى على البيت أجواءً كئيبة ومتوترة.

في إحدى ليالي الخريف، تعرض أخي الصغير للضرب أثناء لعبه في الخارج، فخرجت أنا وأختي الصغرى وأخي الثالث للدفاع عنه. وعند عودتنا إلى البيت، عاقبنا أبي بالركوع على الأرض، ثم انهال علينا بالضرب بعصا “المقشة”، وعند تعالي صوت بكائنا، هرع العم يانغ وزوجته العمة لي إلى البيت محاولين إطفاء نيران غضب أبي. وفي كل مرة كان ينهال علينا بالضرب، كان أخي الصغير يتعالى صوته بالبكاء والصراخ، حتى يستدعي جنود الإنقاذ ليخلصونا من يد أبي، رغم أن أبي لم يكن يضربه ضربًا مبرحًا.

لطالما كنت أحسد عائلة العم يانغ والعمة لي، فلم يحدث أن رأيتهما مرة يضربان أبناءهما. كانت عائلة مسلمة، لديها أربعة أطفال مثل عائلتنا. عُرف عنهم اللطف وحسن المعاشرة مع الجيران كافة. وكانت جميع العائلات في المجمع، تأخذ الطعام من المطعم، ثم يعودون إلى البيت لتناوله، ولأن عائلة العم لي كانت عائلة متدينة، فلم يتناولوا أيّ وجبة من مطعم المجمع، وكانت زوجته تطهو يوميًا الوجبات الثلاث. ودومًا كانت تتضوع رائحة الفطائر المحشوة والكعك والحلوى من بيتهم، ولاسيما مكعّبات البطاطس مع اللحم البقري، كانت تجعل لعابي يسيل، وعادةً، كانت تطلب من ابنتها الكبرى أن تشارك هذه الأطعمة الشهية مع الجيران.

كم تمنيت في أعماق قلبي، لو أنني نشأت في عائلة العم يانغ والعمة لي. وأقسمت أنني سأغادر البيت عندما أكبر! وعندما كبرت وسافرت إلى الشمال حيث العاصمة بكين، انقضت أعياد ربيع عديدة، وكنت أقضيها في حضرة وحدتي في غرفتي، دون أن تنتابني أي رغبة في العودة إلى البيت لقضاء العيد مع عائلتي. فصورة البيت في نفسي ذكريات مؤلمة وقاتمة ومكبوتة، وكان السفر والتجوال هما مسقط رأسي الحقيقي.

وذكريات أيام الصبا الأليمة ربما في حاجة إلى عمر بأكمله كي تزول وتمّحي! لكن الحياة الصارمة التي عشتها، جعلت أيامي الأولى تتسم بشيء من الغرابة! فعلى الرغم من أنني ترعرعت في بيت عسكري يحكمه الانضباط والشدة، إلا أنني كنت أقترف بعض الأخطاء خلسةً عن والديّ. في أحد أيام الصيفية، انتهزت فرصة أن والديّ يخلدان إلى الراحة، ومضيت إلى البوابة الخلفية، وتسللت السور، ورحت أسبح في نهر مينجيانغ. ولو أن والديّ اكتشفا الأمر وقتها، لكنت بلا شك عوقبت بشدة؛ وذلك لأن الصيف كان يشهد عدداً لا يحصى من الغرقى في النهر. في الصغر، لم أكن أدري ما العلاقة بين الموت والنهر؟ فقد كنت أمارس شتى أنواع السباحة في النهر. ذات شتاء، انحصرت مياه النهر، فكشفت عن شاطئ عامرٍ بالحصى، ومن خلف سور البيت رأيت حشوداً هائلةً تتوافد من كل اتجاه وأناساً يهتفون: “ميت! هناك ميت!”، فدفعني فضولي للخروج من البيت والسير مع الحشود الهائلة، مضيت وشققت طريقي لأرى المشهد، فألفيت رجلًا وامرأةً، رأس كل منهما مائلة إلى جذع شجرةٍ كبيرةٍ، وكانا بعيون مغمضة.

دارات نقاشات طويلة، وكانت مفادها في النهاية، أن الرجل والمرأة قد انتحرا بإلقاء نفسيهما في حضن النهر. لم أستوعب وقتها لماذا يضحّي المرء بحياته من أجل الحب؟ وليلتها، جعل هذا المشهد المدينة بأسرها على صفيحٍ ساخنٍ، لكن عندما شق النهار الدجى الداجي، راح المشهد إلى ذاكرة النسيان. وعلى الرغم من أنها كانت المرة الأولى التي أطالع بها وجه ميت، إلا أن حرارة شمس الظهيرة وصوت الضوضاء، قد خففا من وطأة الموقف، وهونا عليّ حدة قلقي. في الليل لم أستطع النوم، وشعرت بذعرٍ شديدٍ. وفي الصباح طاردنى وجها الرجل والمرأة ولم أستطع الفرار منهما. كانت هذه الواقعة، هي لقائي الأول بالموت وسط الظلام الثقيل. لكن فيما يتعلق بشكل الموت، فقد عشته مرات عديدة، حتى صار المشهد أكثر تعقيدًا، على سبيل المثال الزلزال المدمر الذي ضرب ونتشو في عام 2008، وضحايا مشروعات الفول الرديئة، وانفجار المناجم، والأرواح التي راحت ضحية الدفاع عن الحرية. حتى صار الوعي بالموت جزءًا مهمًا يتبدى بوضوح في أشعاري، وأعيره بالغ الاهتمام.

أغوار الإنسان

الجديد: من هو الشاعر المتميز في نظرك؟ وما هي مواصفات القصيدة الجيدة؟

شياو شياو: الشاعر المتميز هو الشاعر الذي يتساءل وينتقد، وينتفض ويقاوم، ويصحو من سهوته، ويستطيع بلوغ كل هذه الغايات عبر السرد الشعري. كما ينبغي أن تكون الحالة المزاجية الداخلية للشاعر متسقة تمام الاتساق، لا انفصام فيها، ولا بد أن تلمس القصائد أحلك جزء في أغوار الطبيعة البشرية، ولا بد أن تلمس أكثر المناطق رقةً وحساسيةً، وتضيء بأنوارها حروف اللغة، كما تجعل الروح الإنسانية تضيء. أما معايير القصيدة الجيدة، فيتعين في البداية، أن تضيف شيئًا من الابتكار والتجديد للغة الأم، وتُثري تلك اللغة. وعند مطالعتها، تتمكن من أن تُلهب عواطفك وتهز وجدانك، وتجعلك تتعاطف وتتأثر، وتنتفض روحك من الداخل.

نوبل لزاكس

الجديد: ما هي أحب المجموعات الشعرية إلى قلبك؟ ولماذا هذه المجموعة على وجه التحديد؟

شياو شياو: لا يتعلق قلبي بمجموعة شعرية واحدة، بل يتبدل هذا الحب من فترة إلى أخرى. على سبيل المثال، ولعت في الثمانينات بشعر الشاعرة الأميركية رائدة شعر الاعترافات سيلفيا بلاث، فقد فتنني عالمها الشعري الخصب، وأسرار قصائدها الغامضة. وبعد عام 1989، بسبب التحولات الاجتماعية المفاجئة، تحول الاهتمام الروحي لأشعار الشعراء الروس أمثال: تسفيتايفا، وأخماتوفا، وماندلشتام، وباسترناك، وغيرهم آخرون، وبسبب التشابهات في خلفية التحولات الاجتماعية في الصين وروسيا، فقد جعلتني أشعارهم أستشعر أن ثمة علاقة دم تربط بين البلدين. لكن منذ الثمانينات وحتى الوقت الراهن، لا تزال المجموعة المفضلة لدي هي مجموعة الشاعرة الألمانية نيلي زاكس وعنوانها “الهروب”.

في 14 - 3 - 1990 كتبت رسالة إلى أحد الأصدقاء في السجن وقلت:

“هذه الأيام ليلًا ونهارًا، أطالع بجنون كتابات نيلي زاكس، برودسكي، أخماتوفا، وماندلشتام، كونديرا. وغيرهم. أرغب هنا الحديث عن نيلي زاكس التي فرت إلى السويد هربًا من النازية، وصارت مواطنة سويدية ، وقد حازت على نوبل للآداب في عام 1966، وقد عانت من الحظ العاثر طيلة حياتها، لكن في نهاية المطاف، حازت على نوبل للآداب بعد كفاح طويل ضد التهميش الأدبي. تقول نيلي زاكس في إحدى كتاباتها “الموت هو معلّمي، فماذا عساي أن أفعل بأيّ شيء غيره؟ صوري وأخيلتي الأدبية هي جراحي وآلامي، ومن خلال الجراح والآلام يتسنى للمتلقي استيعاب أعمالي تمام الاستيعاب”. ويبدو أن هؤلاء أصحاب أكثر الجوانب المعتمة في أرواحهم، هم وحدهم من يمكنهم أن يتذوقوا مثل هذه التجارب عميقة الأثر حتى صارت كلمة “الموت” كلمة لا غنى عنها، تتجلّى دومًا في قصائدها، بل كان لها وقعٌ جميلٌ في النفوس، ورنين موسيقي أخاذ. ومن بين قصائدها هناك قصيدة بعنوان “أمارس اليوم موت الغد”، فلك أن تتخيل الخلفية القابعة وراء قصائدها! فلم يكن إحساسها بالموت، هو الاهتمام بمصير الفرد فحسب، بل كان الاهتمام بمصير الأمة كافة! أحببت قصائدها حبًا جمًا، كما أنني أحببت رحلة حياتها.

وحتى اللحظة الراهنة، لم يتغير إحساسي بالشاعرة نيلي زاكس، فقد ألقى الموت والهروب والاضطهاد بظلال معاناة اليهود القاتمة في أشعارها. ولا شك أن منح جائزة نوبل لنيلي زاكس، يعكس ضمير هذه الجائزة العالمية، ويبرهن على العناية الكريمة بالأدب العالمي.

الشعر عديم الجدوى

الجديد: هل تؤمنين أن الشعر في مقدوره تغيير العالم؟

شياو شياو: الشعر في مقدوره تغيير العالم، كما أنه عاجزٌ تمامًا عن تغييره. فما لا يقدر أن يغيره الشعر هو الجانب الروحي المتسامي، ولأن العالم زاخرٌ بالشاعرية، لذا يمكنه أن يولّد أخيلة بلا حدود، ويفجر قدرات إبداعية مذهلة. أما ما لا يمكن أن يغيره الشعر، فهو ذلك الجانب المادي الذي يُغلف العالم؛ لأن الشعر لا يتمتع بأي سمات مادية، ولا يمكن أن يحقق أي مصالح على أساس مادي. وانطلاقًا من هذا المنظور، يغدو الشعر عديم الجدوى.

حضور الرجل

الجديد: كيف تتبدى صورة الرجل في أشعارك؟

شياو شياو: يحضر الرجل بصورة موضوعية في أشعاري. في بعض الأحيان يتبدى كعاشق، أو كخائن، وفي بعض الأوقات، يكون الدكتاتور، أو الطاغية، وربما تتجلى صورته كعامل وأحياناً أخرى يكون القريب والصديق والأخ والأب صوره في قصائدي تتساوى، وتتعدد في أعمالي الشعرية.

شياو شياو واحدة فقط

الجديد: ما الذي يجعل شياو شياو مميزة عن بقية أقرانها من الشعراء والشاعرات؟

شياو شياو: يكمن الفرق في أنني أعلم تمام العلم أن هذا العالم به شياو شياو واحدة فقط، طولها مئة وستون سنتمترا، تجاوزت مرحلة الشباب، وبها شيٌء من الحماقة، ألجأ أحيانًا إلى التسويف وتأجيل الأعمال. أنوى كتابة قصيدة تحمل عنوان “تعويذة التبت”، وفي الوقت ذاته، أنوي تصوير فيلم وثائقي شعري، كما أنني أحلم بكتابة رواية غير خيالية تحمل عنوان “إمبراطورية الجنس”، ثم أواصل نظم الأشعار ورسم اللوحات حتى آخر لحظات العمر.

الشرارة الأولى

الجديد: كيف تستعيدين الآن باكورة أعمالك الشعرية؟

شياو شياو: نظمت أولى قصائدي وأنا في المرحلة الإعدادية، بعدما طالعت الكلاسيكية الشهيرة “حلم المقصورة الحمراء”، في محاولةٍ مني لمحاكاة أشعار هؤلاء الموهوبين في نادي خايتانغ الشعري. في ذلك الوقت، كنت أقضي أيام الإجازة وقت النهار في غرفتي، أسدل الستائر وأجلس أطالع “حلم المقصورة الحمراء” على ضوء المصباح. فمنذ الصغر وأنا مفتونةٌ بحكاية الحب المأسوية لباو داي يو، ولا أعرف ما السبب وراء هذا الولع والافتنان؟! ربما لأنني شغوفة بمعاناة الحب وعذابات الهوى في سنوات الصبا الخضراء التي تشبه إدمان المخدرات. ربما! في كل مرة كنت أطالعها، كنت أذرف الدموع الحارة، وأشعر بالأسف نحو القصائد التي أحرقتها داي يو قبيل وفاتها، وكأن دموعي استحالت إلى ذرات من الملح فوق صفحات الرواية. وبعد مطالعة هذه المأساة التي كانت أشبه بجلد الذات مرات ومرات، كتبت قصيدة أُرثي بها مصير باو داي يو، وكانت هذه هي باكورة أعمالي الشعرية، لكن لسوء حظي، باكورة أعمالي التي حظيت بإعجاب كبير، ضاعت أثناء الانتقال إلى منزل جديد. كانت رواية “حلم المقصورة الحمراء”، الشرارة الأولى لأشعاري، ووصفها كاتبها تساو شيويه تشين، بأنها تحفةٌ أدبيةٌ. كان السرد في الرواية أشبه بغمامات السماء المتناثرة، والمياه الدافقة في الأنهار، كما أن الإحساس الشعري قد تغلغل في أحداثها، واستوطن سحر الحزن البشري في كل زوايا صفحاتها، فتسربلت بدمائي هذه الأجواء المأساوية دون أن أدرك، وشكلت نمط حياتي، حتى صارت فيما بعد الركيزة الأساسية لكتاباتي.

قنديل يتدلى من السماء

الجديد: تتنوع مصادر الإلهام من شخصٍ إلى آخرٍ، ومن كاتبٍ إلى آخرٍ، فما هي مصادر إلهامك، ومعين إبداعاتك الشعرية؟

شياو شياو: شرارة إلهامي، هي بئرٌ لا قرار لها ملؤها عذابات ومعاناة، وهي معين لا ينضب أبدًا مع مضي الأيام والسنين. وثمة قنديل آخر كان يضيء الليالي المعتمة، قنديل يتدلى من السماء. كما أن المطالعة هي رافد من روافد لحظات ذهني التنويرية.. “اجمع حطام قلبك المهشم بعناية ومحبة، ثم اخلطها مع كل ما عشته في حياتك من حامض وحلو ومرّ ومالح، وقلبها معًا لتذوب وتنصهر، ثم ضعها في فرن صهر الكلمات كي تنصهر في بوتقة الشعر.”

الجديد: لكل كاتب طقوس خاصة به في الكتابة تتحول إلى عادة يواظب عليها كلما أبدع وكتب؟ فما هي عاداتك في الكتابة؟

شياو شياو: اعتدت في الماضي الكتابة في جوف الليل، وأنا أستمع إلى نغمات الموسيقى، لكن الآن تحررت قليلًا من هذه العادة. فالكتابة صارت ترتبط بحالتي المزاجية، فإذا راق المزاج وصفا الذهن، أكتب سواء في ساعات النهار أو الليل. في النهار أكتب وأنا أحتسي القهوة أو شاي الزهور، أظل أنقر على لوحة المفاتيح، والشاي المعطر يملأ فمي. هذه هي متعتي!

مسمار ينخر القلب

الجديد: يعاني الكثير من الشعراء والشاعرات عند ولادة أي قصيدة، فبعض الشعراء يقولون إن خلع الضرس أهون بكثيرٍ من نظم قصيدة، فهل يمكن أن تحدثينا عن قصيدة عذّبتك قبل ولادتها؟ وهل هناك قصيدة ما زالت حبيسة الأدراج؟

شياو شياو: عذبتني قصيدة بعنوان “كورال مرثية عالم آخر” طيلة ثلاثة وثلاثين عامًا، وظلت ترافقني طوال هذه السنوات. في بعض الأوقات كنت أراها قطعة ورق صفراء ذابلة تحدق النظر بي، وفي أوقات أخرى، كانت تتوارى داخل صندوق من الورق لمضايقتي، لكن في غالب الأوقات، كانت تسكن في قلبي كمسمارٍ حادٍ يخزني وخزًا. وبسبب لونها وطعمها ورائحتها وقوامها الصلد، وروحها المحطمة المعذبة، والظلام الدامس الذي تنشره، فقد حالت هذه الأشياء بينها وبين النشر، لأنها لا توافق معايير النشر. إنّ وجود مثل هذه القصيدة التي كانت كما مسماراً ينخر القلب نخرًا، لطالما كان يمنحني القوة!

الجديد: ماذا تفضلين من القصائد؟ القصيرة أم الطويلة؟

شياو شياو: يتعذر عليّ تحديد نوعٍ بعينه. فأنا أفضل كل القصائد الجيدة، لا أبالي كثيرًا بغرضها الشعري، أو طولها أو قصرها، سواء كانت القصيدة قصيرة أو طويلة، ومنظومة نظمًا متميزًا، فأنا أحبها.

شعر عربي

أيقونة

الجديد: ماذا تعرفين من الشعر العربي المترجم إلى الصينية؟ وهل أحببتِ ما طالعته منه؟

شياو شياو: الأدب العربي هو أحد أعرق الآداب في العالم، والأغزر إنتاجًا. كان أول ما طالعته من الأدب العربي التحفة الأدبية المعنونة بـ”ألف ليلة وليلة”، ثم تعرفت على مجموعة قصائد عربية معروفة باسم “المعلقات”، وهي قصائد تشبه إلى حد ما، الشعر المقفى في الفترة الأولى من عهد أسرة هان، فكلاهما يُولي عنايةً بالرنين الموسيقي والجرس الشعري. ومن الشعراء المعاصرين أعرف ثلاثة شعراء أدونيس وسيد جودة ومحمود درويش. الشاعر أدونيس زار الصين عدة مرات، وشاركنا في أمسيات شعرية عديدة. وقد شاركت في ندوة نظمتها جامعة بكين للمعلمين، وألقيت بصحبة الكاتب الكبير مويان قصيدة لأدونيس، وكان من النادر أن يتلو مويان قصيدة بلهجة شاندونغ. كما طالعت بعض القصائد المترجمة للشاعر المصري سيد جودة، وطالعت في موقع مجلة إلكترونية بعض القصائد العربية المترجمة إلى الصينية، وشرفت أن صورتي كانت غلافًا لأحد أعداد المجلة. والواقع أنني أحببت قصائد الشاعر الفلسطيني محمود درويش التي ترجمها كل من المترجم شيويه تشينغ قوه والمترجم تانغ جون، وقد تلقيت دعوة من شيويه تشينغ قوه، لإلقاء بعض قصائد درويش في أمسية شعرية بعنوان “عاشق من فلسطين.. مختارات من أشعار محمود درويش”.

أحببت للغاية ما طالعته من أشعارٍ عربيةٍ، مما جعلني أشعر أنني لست أعيش بمنأى عن العالم العربي.

القصيدة والترجمة

الجديد: ما هي المشكلات التي تواجه ترجمة الشعر؟ وما هي معايير الترجمة الجيدة؟

شياو شياو: تُرجمت أعمالي إلى عدة لغات أجنبية، ولطالما كنت أناقش هذه المشكلات مع المترجمين. واكتشفت أن أدق التفصيلات في الشعر، لا يمكن ترجمتها؛ لأن الشعر بعد الترجمة يفقد دلالته الأصلية في لغته الأصل، ويفلت المناخ الشعري العام، لذلك لا عجب أن يصرح البعض قائلًا “الشعر لا يترجم!”. وبعض الكلمات التي لها وقع خاص، وسحر طاغ في اللغة الصينية، تفقد سحرها وتغدو رتيبة للغاية عند إحالتها إلى لغة أخرى، كما أن اللفظة في اللغة الصينية، تتمتع بأبعادٍ ومنظورات عديدة، لكن عند بلوغها عتبة لغة أجنبية أخرى مثل الإنجليزية، لا بد أن تحظى بأدق وأصوب المعاني لتفتح مغاليق اللغة الأصل، لذا دومًا أجعل اللفظة غامضة، وأراعي أن يكون المحتوى الشعري غزيرًا وخصبًا.

وربما تكون هذه المعضلات هي مواطن سحر ترجمة الشعر، فإن أسمى منطقة في ترجمة الشعر هو ذلك الفراغ الكائن في الترجمة. ولطالما كنت ممتنةً للغاية لهؤلاء المترجمين الذين ترجموا أعمالي بمن فيهم أنتِ لا شك؛ لأنه عمل شاق ومضن للغاية. أما معايير الترجمة الجيدة، فهي غامضة وغير واضحة، كما أنها بلا شروط وبلا قواعد، طالما أن الترجمة استطاعت أن تنقل المعنى الأصلي بدقة عالية، وعند مطالعتها، يتسنى للمتلقي تذوق نكهة اللغة الأصلية، مع الأخذ في الاعتبار، أن اللغة هي لغة شعرية، وليست لغة سردية كما في الروايات والمقالات النثرية، والقصيدة الجيدة لا بد وأن توازيها أفضل الترجمات، كما أنها في حاجةٍ إلى منحةٍ من القدر.

الجديد: يتهيب البعض من اندثار فن الشعر، وأن يحل محله فنٌ آخرٌ. أو أن يتوقف العطاء الموفور للشعراء فتنضب بحور الشعر. من وجهة نظرك كيف ترين مستقبل القصيدة الصينية في ظل العصر الرقمي للشعر؟

شياو شياو: إذا استطعنا التحرر من أصفاد الروح والجسد، فأنا على يقين تام، بأن الشعر الصيني سيغدو في المستقبل فوق قمة جبل إيفرست.

الجديد: تثير قصيدة النثر جدلًا واسعًا ما بين مؤيدٍ ومعارضٍ؟ فهل تؤيدين أم تعارضين قصيدة النثر؟

شياو شياو: لا أبالي كثيرًا بهذا الأمر، ففي ظني أن قصيدة النثر لا تختلف في جوهرها عن كونها شعرًا، المهم هو أن تكون قصيدة جيدة، دون أن تنحصر الأهمية في كونها نثرًا أم شعرًا!

الجديد: كيف ترين الغموض في قصائد بعض الشعراء؟ أو ما يعرف بالشعر الضبابي؟

شياو شياو: إن وجود شيء من الغموض والتعقيد في بعض القصائد، لا يعني بالضرورة أنها قصائد غير جيدة، أو هي تفتقر إلى الحس الشعري العال. فثمة غموض يتعمد الشاعر تضمينه في طيات القصيدة، كي تنطوي على معانٍ بعيدة المرمى. وهناك بعض الشعراء لا خيار أمامهم، فهم مجبرون على إلقاء ظلال الغموض على عالمهم الشعري، وذلك من أجل عدم انتهاك حرمة الكلمات، والخروج على المألوف منها. وفي بعض الأحيان يكون الشاعر غير ملمّ بالقضية، أو ربما لا يعي القضية تمام الوعي، لذا فهناك احتمالية تجلي بعض الغموض الذي يستعصي على المتلقي أن يكشف مغاليقه.

الجديد: من هم الشعراء الذين أثّروا على مسيرتك الإبداعية؟

شياو شياو: كان للكثير من الشعراء أثرٌ بالغٌ في مسيرتي الإبداعية، فهناك نخبة من الشعراء الأجانب مثل: سفيتيفا، أخماتوفا، نيلي زاكس، زاجافيسكي، ريلكه، وغيرهم آخرون، أما من الشعراء الصينيين، فهناك سو دونغ بوه، لي تشينغ تشاو، لي باي، لي خه، لي شانغ يين، وغيرهم آخرون. كان هؤلاء الشعراء نجومًا ساطعة في سماء حياتي.

أشعاري ولوحاتي

مقابلة

الجديد: الحروف والألوان أداتان لفض أسرار القلوب والتعبير عن مكنون النفوس. لكونك تمارسين الرسم التشكيلي إلى جانب نظم الشعر، فما هي طبيعة العلاقة بين فني الشعر والرسم؟

شياو شياو: عادة أدمج اللوحات مع القصائد، تحمل عنوان القصيدة ذاته. في البداية سأتحدث عن مقولة صينية شاعت في العصور الغابرة مفادها “الشعر والرسم هما رافدان متشابهان”. علق الشاعر سو شيه ذات مرة على الشاعر وانغ وي قائلًا “يتجلى الرسم في ثنايا الشعر ويتجلى الشعر في زوايا الرسم”، وقد جمع كلٌّ من وانغ وي، سو شيه، تانغ يين، وغيرهم آخرين، بين موهبة الشعر والرسم.

الشعر يفتقر إلى الوقت، وينتمي إلى اللامادية، ويقترن بالعالم الروحي والأحلام، ويتلازم مع التصورات والأخيلة في البعد الرابع. أما الرسم فهو إسقاط الشعر من البعد الرابع إلى حيث البعد الثالث، وهو فنٌّ يجمع بين الوجود المادي والتحليق الروحي. الشعر في مقدوره أن ينفذ من القلب ليصل إلى الروح البشرية، وأن يلمس أعمق وأدق مناطق الروح، ويستطيع أن يُلهب العواطف ويهز الوجدان.

أشعاري ولوحاتي هما توأما الروح. كل لوحة تشكيلية تحمل قصيدة بالعنوان ذاته، حتى صار الشعر الصيني أكثر الأجزاء تفردًا في لوحاتي، لذلك عندما أقيم معرضًا للوحاتي، يكون في الوقت ذاته، معرضًا لأعمالي الشعرية. ذات مرة تحدث إليّ أحد المتخصصين قائلًا “من الأفضل ألا تدمجي القصائد مع اللوحات، كي تبدو اللوحة أكثر نقاءً”، لكنني أرى أن الرسم التشكيلي جاءنا من صوب الغرب، وكم أتمنى أن أخلق نمطًا مغايرًا متميزًا من هذا الفن عبر دمج الكلمات الشعرية مع اللوحات التشكيلية. ويخال إليّ أن الرسامين الجيدين يحملون أيضًا هوية الشعراء، فالرسم هو تكوين الألوان لقصائدي، بينما الشعر هو الأخيلة والتصورات للوحاتي، أو بعبارة أخرى الشعر هو الرسم بالكلمات.

والغاية من الدمج بين لوحاتي وأشعاري هي أن اللوحات في بعض الأوقات تعجز عن تجسيد حالتي المزاجية، ويتعذر عليها الكشف عن مشاعري بطريقةٍ جليةٍ، فيأتي الشعر للقيام بهذا الدور على أكمل وجه.

أحيانًا أرسم اللوحة أولًا، وأحيانا أخرى تنساب القصيدة قبل اللوحة. في حقيقة الأمر، الرسم هو حالة من التكثيف لأشعاري. على سبيل المثال في لوحة “حديث مع الروح” قد نظمت القصيدة أولًا ثم رسمت اللوحة.

ولا شك أن اللوحات المرفقة مع القصائد، لم تكن منتهاي ومطلبي الشعري، بل إن قصائدي زاخرةٌ بالتناقضات والتشابكات، وعامرةٌ بالمعاناة والآلام، وتحمل تذبذبات المشاعر، وربما تكون هذه هي غايتي المرجوة من نظم الشعر، كما أنها القوة الدافعة والمحفزة لأعمالي الإبداعية.

عندما ينخر الألم روحك عميقًا، عندما يكون القلب واجفًا خافقًا كجناح يمامة، عندما يختفي الدرب من تحت قدميك، عندما تحجب الغيوم وجه السماء، وتبقى في صدرها نجمةٌ واحدةٌ فقط. عندما تقف أمام البحر المهيب ودموع العين تنسال على الخدين، حينئذ تنفتح آفاق الشعر، وتتدفق الفنون، وهذا هو الإبداع الحقيقي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.