شيطنة المراهق
لا يخفى علينا تعامل مجتمعاتنا مع المراحل العمرية للإنسان، بجهل بها، وتجاهل لها، وإهدار لإنسانية الإنسان عامة. فالطفل في مجتمعاتنا المقهورة عجينة لينة، ورجل صغير، والشيخ العجوز ضيف ننتظر مغادرته للحياة، والشاب طاقة حيوية، لا بد من استثمارها، أما المراهق، فشأن آخر، إذ يغادر الطفل مرحلة عمرية، مقاربا مرحلة جديدة، تبدأ بالاحتلام لدى الذكور وبالحيض عند الإناث، وما يرافقها من تغيرات جسمية ونفسية، فيبدأ المجتمع بردّة فعل ممانعة، بتشكك وريبة وتقييد حريات، وسخرية وعنف، وكأن جسد المراهق مسكن الشيطان، وروحه ملكه.
إذا كان هذا هو حال المجتمع، في الغالب الأعم، لغياب الوعي بطبيعة المراحل العمرية وخصائصها وأساليب التربية الحديثة، فإن إعادة إنتاج هذه الصورة في الفن والأدب، بشكل فوتوغرافي، دون معالجة فكرية وفنية، هي تكريس لها في الحياة الواقعية وانتصار لثقافة ممانعة لأيّ تغيير جدّي.
لطول الحديث عن تجليات صورة المراهق إبداعيا، سنكتفي في هذه العجالة بتسليط الضوء على صورة المراهق في الدراما التلفزيونية، بالإشارة إلى مسلسلين سوريين تناولا هذا الموضوع بشكل غير عرضي، كما يحدث عادة في الكثير من المسلسلات العربية.
أشواك ناعمة للمخرجة رشا شربتجي وسيناريو وحوار رانيا البيطار. يعالج هذا العمل الذي عرض سنة 2005 ثيمة المراهقة لدى الفتيات، ويُعد أول عمل دراميّ سوري، وربما عربي، تجرأ على تناول هذا الموضوع الحساس والحيوي.
سعى صنّاعه إلى طرح معاناة المراهقات في واقعنا المعاصر، من خلال نماذج مختلفة من المراهقات، المغيّبات عن الحياة والدراما، وإن بقالب نمطي ومؤطر: الفقيرة، المسترجلة، اليتيمة، ابنة رجل مستبد، ابنة امرأة شعبية.. ابنة مثقف أرمل موزع بين كتاباته وعشقه لامرأة أخرى.. إلخ. تؤدي أدوارها المرسومة في مكانين أو ضمن مؤسستين أساسيتين في المجتمع: الأسرة والمدرسة.
حفل هذا العمل بالكثير من الأحداث والمواقف التي تكشف معاناة هذه الفئة، وبالكثير من التعاطف، لكنّه في انتصاره للمراهقات والتعاطف معهن، لم يتجاوز حدود العتب على المجتمع، أو الاستهجان، كحد أقصى لنقده، بانتقائية لا ترتقي إلى تشريح الثقافة المولّدة لهذه النمطية البالية، وفضح سياساتها المستبدة، بحصر الفعل الدرامي ورد الفعل بمستوى فرديّ، فموجّهة المدرسة سلبية لأنها عانس، والأب شكّاك لأنه طُعن في شرفه من قبل أخته، والمشرفة التربوية إيجابية لخلو بيتها من المشاكل، وثمة بيوت وعوائل إيجابية وأخرى سلبية، وما يحدث ليس سوى ممارسات فردية، لم يتجاوزها المسلسل، ولم يتجرأ على مس التابوهات الثلاثة، ولا على ملامسة أسّ المشكلة وجوهرها.
رغم جدية الطرح وجمالية الأداء، إلا أن العمل اكتفى بوضع مرآة مستوية أمام وجه المجتمع الذكوري، لا تعكس أكثر مما هو مسموح به، أو تفضح بشاعة هذا الوجه، وقبح التجاعيد العميقة فيه.
ولعل في عنوان العمل: أشواك ناعمة، بصفته عتبة النص ومفتاحه، ما يشي بذلك، ويؤكد على أن ليس هناك ما يمنع تفتح هذه الورود: البنات، سوى أشواك ناعمة، وقد يكون التنكير مقصودا، ليسهل على المجتمع اقتلاعها بقليل من الحذر والحب.
هل يكفي الحب وحده لتجاوز الفتيات هذه المرحلة المسحورة؟
هل يسكن الشيطان في هذه المرحلة أم في ثقافة المجتمع؟
أيام الدراسة
مسلسل سوري من تأليف طلال مارديني وإخراج إياد نحاس ومصطفى برقاوي، بث لأول في مرة سنة 2011 ثم بث الجزء الثاني سنة 2012.
يناقش المسلسل مشاكل طلبة مراهقين في مدرسة ثانوية، هي مدرسة العلم نور الثانوية في إطار كوميدي يرصد عبرها المقالب التي يديرها بعض الطلاب لبعض آخر منهم وللأساتذة والأهالي أيضا.
واللافت في مجمل هذا العمل، هو تغليب حضور المراهقين، كفئة ومرحلة لها خصوصيتها، أبطال وشباب يعبثون، ويشاغبون، لا ضحايا ردات الفعل من شرائح اجتماعية معينة، كما في مسلسل أشواك ناعمة، فكان من الطبيعي أن تنوب الاستعراضات عن الحدث الدرامي الحقيقي، والفهلويات عن الأفعال المدروسة. وإيلاء الحكاية المسلية التي قدمت من قبل مراهقين إلى جمهور المراهقين، من صغار وكبار، وبأسلوب مراهق طاغ على كل ما عداه من مقولة وأهداف.. وجماليات.
ليست الإضافة الجمالية والفكرية في الحديث عن شاب يتزوج معلمته التي تعجب به لأنه «قبضاي» وشهم، رغم سلوكه الساذج، سوى دغدغة مشاعر بعض المراهقين من أمثاله. وليس من جديد، معرفيا وإبداعيا، في غراميات شاب غني ووسيم ينّقل حبه من فتاة إلى فتاة، سوى استنساخ مشوه لصورة دون جوان.
مواضيع متشابهة ومتكررة على المستويات كافة، لا تخلو من قص ولصق لمشاهد من مسرحيات مصرية كوميدية: مدرسة المشاغبين، والعيال كبرت. لا شك أن هذين العملين لا يختصران المشهد الدرامي التلفزيوني العربي، فثمة مسلسلات كثيرة تناولت هذه المرحلة وصاحبها، غير أن فضيلتهما تكمن في تحديد المراهقة كمقولة لهما وفي تقديم العمل ممن هم في سن المراهقة أو قريبين منها. فضيلة تحسب لأصحاب العملين، غير أن الأفكار العظيمة لا تنتج بالضرورة أدبا أو فنا عظيما.
بل إن التقاط الأفكار الكبيرة الملقاة على قارعة المجتمع، كالفقر وتأثيره على المراهقين، والتزمّت لدى الكبار، والتهميش، والدلال، ومن ثم المسافة الحياتية الفاصلة بين الأجيال، السلوكية فقط للأسف، لا المعرفية، وصياغتها في قالب فني هام، حيوي وجماهيري، مثل الدراما التلفزيونية، دون دراية ومعرفة، لا يُعدّ إلا تكريسا لمشهد البؤس الناهض وتعميقا للأزمة الحاصلة.
مع ذلك، فمن الإنصاف القول؛ إن تكريس ما هو مكرس والالتزام بالخطوط الحمر وعدم تجاوزها، هو تحوّط لشروط الرقابة في التلفزيونات العربية، وعدم الحياد عنها، خشية إعدام العمل بمقصها الكبير والحاد، مقصلة الإبداع وسرير بروكوست العربي.
من الطبيعي أن تمنح السلطات العربية مقص الرقابة صلاحيات غير محدودة في التعامل مع ما يقدم على الشاشة الفضية، وخاصة الدراما التلفزيونية، الفن الأكثر جماهيرية، حيث يختلف فيها التلقي عمّا في مجالات إبداعية أخرى كالمسرح والسينما بشكل خاص، فلا تجشّم فيه لعناء الذهاب إلى مكان العرض، ولا دفع لثمن تذكرة الدخول، إضافة إلى غياب الرقيب بحضوره المادي، ما يجعل المتلقي أسير ما يبث له إلى حدّ الاستسلام وتشرّبه كالإسفنجة.
لا شكّ أن شيطنة المراهقة ليست سوى نتيجة طبيعية لردة فعل المجتمع المُدجَّن، تجاه تجاوز شريحة منه لأعرافه وحدوده، حتى لو كان ذلك في اختلاف نبرة الصوت أو في تغير شكل الجسم.