صانع الحوريّات
راقتْ محاسنُها وَرَقّ أديمُها
فتكادُ تبصُـرُ باطِـناً من ظاهرِ
وتمايلتْ كالغُصنِ بلّلهُ النّدى
يَختالُ في وِرْقِ الشبابِ الناضرِ
تبدّى بماءِ الوردِ مسبلُ شَعرِها
كالطّلّ يَسقطُ من جَناحَي طائرِ
النحلي
في حكاياتِ الحاج يعقوب رحمهُ اللهُ وطيّبَ ثراه وأحسنَ مثواه ما هو شيقٌ وممتعٌ وغريب. يهواهُ البعيدُ والقريب. يأخذُ بمجامعِ القلوبِ ولا يخطرُ على المسامع لِما فيه من المثيرِ العجيب. يبقى في البالِ ما دارتِ الدنيا وتعاقبتِ الأجيال. لا يُمكن أن يُنسى مَهما طالَ الزمانُ عليهِ وحال. بل نظلُّ نردّدهُ نحنُ أبناءُ القريةِ بتعاقبِ الزمنِ من جيلٍ الى جيلٍ.. نساءً ورجالا.
في البدءِ كانت الحكاية
والدُنا التسعيني، أطالَ اللهُ في عمرهِ وجعلهُ من أهلِ الصّحة والعافية، يُصرُّ على أنّ حكاياتِ الحاج يَعقوب رَحمهُ اللهُ بِرحمتهِ الواسِعة وأسكنهُ فسيحَ جنّاته – تلك التي ورِثها عن السّلف الصالحِ من أساطيرِ الأولين أو عاشَها في زمنهِ الغابر أو سمِعَها من مجالسِ الأخيار من النّاس الطيبين – لا تتحوّر أو تُضاف لها بَهاراتُ الحكاياتِ ومزّاتُها اللذيذة، ولا يتغيرُ طَعمُها مَهما تعاقبتِ السنواتُ واختلفَ عليها الرواة، وتبدلتِ الظروفُ والأحوالُ وتعاقبتْ على سماعِها أجيالٌ بعدَ أجيال. وكلّما أوغلَ فيها الزمنُ وأوغلتْ فيه تَبقى كما هي. تكتفي بذاتِها لذاتِها. لا ينقُصها إلا الرّاوي والحكّاء الخبير العارف بشؤونِ الزمنِ وناسهِ وتقلباتهِ ولغاتهِ؛ ولا تحتاجُ الى نفْخٍ وتفْخٍ وزوائدَ وتصفيطِ كلامٍ وجرٍّ وعَرٍّ من هنا أو هناك.
غيرَ أنّ الوالدَ مدّ اللهُ في عمرهِ – كما رصدَ حكاياته أحدُ الأحفاد وطابَقَها بمزاجِ باحثٍ هاوٍ لشؤون السّلف الصالح ومروياته الشفاهية – كان في بعض الأحيان ينفخُ ويتفخُ بالحكاية ويجرُّ ويعرُّ بها. يرشُّ عليها شيئاً من البهارات الحارّة أو يملّحها ببعضِ الأشعارِ والآياتِ القرآنية مما لم يردْ في أصل وقائع الحكايات التي رواها الحاج يعقوب في زَمنه. وقد يثردُ عليها ثريداً بنكهةِ التشويق عندما يتجلّى ويندمجُ مع الواقعةِ وتفرعاتِها ومفاجآتِها، لكنْ لهذا سببٌ يبررهُ الحفيد – فيما بعد – وهو يلازمه دائماً ويسجّل حكاياته فيديوياً بالصورةِ والصوتِ ويبحثُ في جذورها ويطابقُها مع أخواتِها من الحكاياتِ المتشابهةِ والمهاجرةِ الدخيلةِ من الفرس والهنود والترك والعجم.
حفيدنا يُدرك الكثيرَ مما لا ندركهُ نحنُ المنشغلينَ بالحياةِ وشؤونِها الكثيرة بشكل جِدّي وقد فهمَ الشيءَ الكثيرَ عن طريقتهِ في السّرد الممتع الذي يأتي بالحكايةِ كاملةً ومكتملةً فيها العِبرة والاعتبار. مثلما يتمعّن بالإضافاتِ الخارجةِ عن أصلِ الحكايةِ وأغلبُها من القصيدِ القديم الذي يجدُ طريقَهُ إلى ذاكرتهِ أو ما يأتي على لسانهِ من آياتٍ قرآنية وأشعارٍ وأمثالٍ وحِكَم أو خلاصاتٍ شخصية يبتكرها الأبُ وهو في طريقهِ لقولِ الحكمةِ المتكدسةِ في صدره.
الأب/الحكواتي/الوارث/ ومعاناتُهُ مع ضعف بِنيتهِ وما يعانيه من السّكّري وانخفاض الضغط وسوفان المفاصلِ وخفقانٍ في القلب عندما يَحكي لنا – من ذاكرةِ الحاج يعقوب المكتظةِ بقصصِ الأولينَ – حكاياتٍ وسِيراً وسوالفَ كثيرة، ينتقيها بدرايةٍ وحكمةٍ ودهاءٍ أيضاً. فهو العارفُ في المغازي والسيَر وما تركهُ الزمنُ الغابرُ من أسفارٍ شفوية متعددة، والوارث الأمين لذلك الحاج الذي طوتْهُ السنواتُ تحتَ التراب، لكنهُ لم يُنسَ كما نُسيَ الكثيرونَ في زحمةِ الحياةِ والموتِ من الأصحابِ والأحباب.
ثمّ..
تجمعنا ليالي الحكايات طوعاً أو قسراً؛ نحن الأبناءُ الذين كبرنا وتزوجنا وخلّفنا بنين وبنات. واختمرت فينا حكمة الماضي وعِبَرهُ المفيدة وغير المفيدة. ونحن الأحفاد الذين نعيش زمناً لا يشبه تلك الأزمان البسيطة التي كانت الناس فيها على نيّاتهم الطيبة وعيشتهم المتواضعة راضية بما قسمه الله لها من رزقٍ وأمانٍ وسلام؛ غير أننا هجرْنا الماضي مضطرين بعدما أفِلَت رموزه أو كبرتْ أو مرضتْ أو مات القسم الأعظم منها، فتحول كل شيء إلى كتبٍ قديمة وبحوثٍ جامعية وأراشيف في مكتباتٍ عامة وقفشاتٍ نادرة في اليوتيوب لعجائز ما يزالون أحياء هنا وهناك، يتشبّثون بذاكرة الماضي السعيد بالطرق كلها، ودخلنا في أزمانٍ تعاقبت بالجديد والجاهز والمُعلّب والمُتعب أيضاً في مشاويرها الراكضة، لكنّ الوالدَ والجدّ راويتنا الوحيد الذي لحق بعصرنا بأمراضه المستفحلة؛ شَفاهُ الله منها؛ يعيدنا إلى زمنه الأول القديم المندثر، وربما حتى ما قبل زمنه من أساطير الأولين وقصص الراحلين بالطريف والجميل والمثير والممتع والمفيد من سوالف زمنه التي بقيتْ في ذاكرته حتى اليوم. كما في هذه الليلة التي استغرق فيها وقتاً ليس قليلاً يحكي ويقص فيه بلذيذ الكلام المنمّق عن الفقير الزاهد سعدالدين الرجل الأربعيني الأعزب وما جرى له مع الملا شمس الدين وابنته الوحيدة العمياء الكسيحة الخرساء الصمّاء البكماء التي طلب يدها من والدها الملا – من دون أن يراها – على سنّة الله ورسوله الكريم حتى إذنَ له الله سبحانه وتعالى بأن يتزوجها شرعاً وأمر ملائكته بتجهيز غرفة عرسه في ظرف مشوّش كان عليه – بشكلٍ سهل – أن يتحجّج ويرفض تلك الزيجة بأريحية، بعدما عرف بعَوَق الفتاة الغامضة وعيوبها المخيفة وعاهاتها الرهيبة التي لا يمكن إصلاحها؛ فلن يتسبب بفقد معلمه الملا أو زعله أو يغتاظ منه. فالخيار أمامه متاح بالقبول أو الرفض. وإما عليه أن يتقبل الأمر بعلّاته وتشويهاته وفجيعته الشخصية، صاغراً وراضياً لشدّة إيمانه بقضاء الله تعالى وقدره “وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا” كأنْ يقتنع بأنها قسمته ونصيبه في الحياة الفانية ولا مفر من الرضاء بهذه الزيجة الغريبة الغامضة التي ربما فيها (إنْ) أو ما شاكل ذلك، لكنه بدا وكأنه أسلمَ أمره وهو في حَيصٍ وبَيصٍ من ورطته التي أدخله فيها الملا شمس الدين لغاية معقدة ليس من السهولة فهمُها أول الأمر ولا حتى تخيّلها في آخِر الأمر.
وعندما نمتثل في مجلس الوالد العجوز إنما نتعلم منه طرائق الحكي والتشويق في متعة الحدث ومفاجآته غير المتوقعة، وهو يصوغ الحكايات صوغاً ويُبهّرها بالأشعار القديمة التي لم نسمع بها ويأتي بالآيات القرآنية بمواضعها المناسبة، لكنه في بعض الأحيان يعقّد أصلَ الحكاية لغايةٍ في نفسه ثم يعود لينظّمها بناظمٍ معقول لا نتوقعه يتلاءم مع الهدف الأخير لها، بعد أن يكون قد أخفى منها الكثير في ثنايا السرد الطويل وكثّف عليها القصائد والأمثال والأقوال وآيات السماء المنزّلات؛ فيُخرجنا من طورٍ إلى طور ومن خيالٍ إلى خيال ومن عسرٍ إلى عسرٍ أو يُسرٍ.
وهكذا بقي أبونا العجوز على طريقته القديمة في رواياته الشفاهية التي يحفظها عن سلفه الصالح، يوم كان الحاج يعقوب – رحمه الله وله الذّكْرُ الحسن – راوية القرية الفهيم المتكلم العليم الذي لا يتعب ولا يكلّ ولا يملّ مما ورثه عن الأسلافِ الأقدم من الحكايات والسّير والقصص، مخلصاً لها، أميناً بنقلها، عصيّة النسيان عليه، لاسيما في الليالي التي تنقطع فيها الكهرباء فتراتٍ طويلة لتجمعنا مدفأة واحدة في ليالي الشتاء التي يفترعها الكثير من المطر والبرد والعزلة الإجبارية. خاصةً ما كان يرويه الحاج يعقوب؛ ويردده الوالد الحافظ لكل صغيرة وكبيرة وهو في هذه السن المتعِبة التي جاءت بسوفان المفاصل والضغط الصاعد والسكّري الذي جعله حنفية بول لا تنقطع.
تأتي الحكاية
يبرعُ الوالد حفظهُ الباري عزّ وجلّ في إثارة الجالسين وشدّ أسماعهم وأدمغتهم ويقطع أنفاسهم حتى ما بعد منتصف الليل في حكاية واحدة. يأتي بالشاردة منها والواردة. يُنسيكَ أوّلها ثم يعود إليها بمتعلقاتٍ أخرى لا تخطر على البال. يخلّيك تتوقع النهاية لكنه ينقلب عليك في اللحظة الأخيرة، فتبدأ دائرة الشك والغموض من جديد، ونبقى دائخين للتحولات التي يرويها الوالد في أصل القصة والحكاية الثرية بالمعاني، ولكثرة القصص والحكايات والروايات والسّيَر التي كان يستخرجها من ذاكرة الحاج يعقوب طيّب الله ثراه وجعله من المغفور لهم، صار راويتَه وحافظته والمؤتمن على ما سولفهُ ورواه وحكاه لاسيما وهو معاصره لسنين عديدات وجليسُه في العسر واليسر وصاحبهُ في الأسفار إلى الأمصار البعيدة، حتى بتنا نعتقد أن الحاج يعقوب هو والدنا التسعيني نفسه لكن بزمنٍ آخر وليلٍ آخَر وطقسٍ آخر، نظراً للدقة في الوصف التي كانها الحاج حينما يروي من زمنه وزمن ما قبله وقبل قبله، والتي يرويها والدنا اليوم ويغذّيها بالتفصيلات الطويلة والشوارح واللواحق التي تسبق أصل الحكاية وتحيط بها من كل زاويةٍ وجانبٍ وحدبٍ وصوب في خبرة عجيبة؛ كأنه يقرأ في أكثر من كتابٍ مفتوح ومخطوطة لا يفهم كتابتها إلا هو وقد اختلطت وتداخلت فيها الصور والمعلومات والقصص والشروحات الجانبية من كل مكان.
وهذا ما جعل أحد أحفاد الأسرة المهتمين بسوالف التاريخ والحكي الشفاهي من عجائزه المعمّرين أن يتدخل وينطّ عندما يستشعر الإضافات هنا وهناك في رواية الوالد وسرده الطويل ومتاهاته القسرية، فيُشعرنا أن ذاكرة السارد الوارث في هذه الليلة اكتنزت بالكثير من الهوامش التي جعلها بوّابات شد لم تكن في أصل الحكاية، لكنه قصدها لأنه يريد أن يحكي ويسولف ويروي ويقص، والحفيد الذكي يبرر بأنّ الأزمان المتتالية التي لحقت بعمر جده وأضافت إليه تدخلت في روحه من كل باب وعلمته ما لم يعلم، فظل يعتقد أنه ناقلٌ أمينٌ حتى لو أضافَ وحذفَ وكرّر هنا وهناك فالناقلُ الأمين مؤلف أمين وليس على الناقل من حرج.
الجد أصبح راويةً منفرداً. إنه مؤلف بطريقته حتى لو وقع الحافرُ على الحافر كما يقول الجاحظ. هكذا يرى الحفيد الذي يغلبنا لو ناقشناه لأنه أكثر ثقافة وصلةً بهذا الماضي الذي عكفنا على نسيانه لولا الوالد المقذوف من ذلك الزمن إلى هذا الزمن أطال الله في عمره. فهو الوحيد الذي يذكّرنا بأنّ هناك زمناً ماضياً وقد مضى.
الحفيد المتعلم كان يبسبس لنا ويتدخل ويصحّح ويتوقع بطريقة لا لبس فيها من دون أن يُشعر الوالد بشيء. لكنّ الوالد في بعض الأحيان- ربما – كان يشعر بانحراف الحكاية عن مسارها وأنه قد ضخّ فيها من عندياته شيئاً من الضروريات المملّحة؛ فالحكمة قد تأتي متأخرة في بيتٍ من الشعر كما يقول، أو تتطور من زمن إلى زمن تكشفه آية قرآنية أو حديث نبوي أو قول شاعر جاهلي، أو تُقال بهذا الشكل لا بذاك. ويقصد بالطريقة التي تأتي بها وبالمثل الذي يوضّحها سواء أكان آيةً أم بيتَ شعرٍ. ليكون الوالد والجد بؤرة السرد وراويته الحاذق. ففي عينيه التماعاتُ حكيٍ طويل. وفي رأسه خزائن الأقدمين وروائحهم ومآثرهم الكبيرة والظريفة.
يقول: إذا لم أحكِ أموت، وإذا أنسى أموت، وإذا أصمت أموت.
لهذا يحكي ولا ينسى وهو في هذه السن المتعِبة ولم يبالغ في هذا عندما تنفتح ذاكرته الغارقة ببحر الحكايات الجميلة. والحفيد اللوذعي؛ القارئ النهم والمستمع الجيد والمعلّق الناجح والباحث الهاوي لشؤون السلف الصالح؛ يسير على خطاه كما هو واضح لنا، لكن بعصرٍ ليست فيه ملامح الماضي ولا طريقته الفطرية وابتكاراته الخيالية التي تُخرج هيبة الواقع أحياناً وتُحرجه أمام الدرس والحكمة والمَثَل. فالواقع هو أبو الحكي والخيال ابن عمه كما يردد في بعض الأحيان.
الحفيد الشاطر سيرث الوالدَ وحكاياته، فهو الوحيد بيننا مَن يقدر أن يجمع ما تبقّى من مروياتٍ وسردياتٍ وحكاياتٍ فطريةٍ وشفاهية في ظرفٍ سهل عليه توفرت فيه إمكانيات التسجيل والسماع المستمر والتحليل الدقيق.
هذا العصر الجديد لحق به الأب التسعيني مع أمراضه الكثيرة.
إنه أبُ الماضي على أيّ حال، وقد شاء له القدر أن يبقى بيننا حتى هذه الحكاية الجميلة التي لا تخلو من شدٍّ وجذبٍ وعِبرة.