صناعة الاعتراف
حين تحدث رجيس دوبريه في كتابه “دروس في الوسائطيات العامة” عن احتمالات الوساطة، بما هي تقنية وأداة، لم يكن يتحدث عن الصحافة والإعلام، في تجلياتهما المأثورة، فقط، بل كان يرمي إلى بيان سبل الانتشار؛ انتشار الذوات والصفات والهويات واللغات، وكيف تخضع لتكييف الأداة الوسائطية وقواعدها في إنتاج الصور السائحة.
لم يكن رجيس دوبريه يفكر لحظتها في الوسائط الاجتماعية، بقدر ما كان يستحضر آليات التواصل السمعي البصري الكلاسيكية، ما قبل البرامج المتصلة بشبكة الإنترنت، لكن مع ذلك يمكن أن تنطبق العديد من القواعد الخاصة باحتمالات الوساطة كما فكر فيها دوبريه على الرغبة المتفاقمة اليوم في تعميم الانتشار، لتنتقل من النخب إلى الشرائح الاجتماعية الواسعة. ومن الخبر المتصل بالشأن العام، إلى الأسرار الخاصة، ومن رجالات الدولة والشخصيات العمومية إلى الأفراد العاديين، ومن الفنون والآداب إلى الخطاب الاجتماعي العام المفتقد لمقومات الانتشار.
ويمكن أن ننطلق في البداية من قاعدة رئيسية ترى وسائط التواصل الاجتماعي اليوم بما هي مراوحة بين “دمقرطة” الانتشار، و”تعويمه” وإفراغه من أبعاده الرمزية، إذ لا يمكن أن نستبعد ما لتلك الوسائط من مزايا تتيح التعبير لمن لم تكن لهم فرص في الصحافة والتلفزيون لإيصال خطاباتهم، وتعميم أخبارهم على نطاق واسع غير خاضع لانتقاء، ومن ثم فقد تمكن اليوتوب والفيسبوك والتويتر والإنستغرام من تقويض مبدأ احتكار التواصل من قبل أقلية أو من قبل السلطة، لاسيما في بلدان الجنوب حيث اقترن الاحتكار مع فرض إرادة سياسية عبر خطابات السلطة والشرائح المناصرة لها.
ولا جرم إذن أن تمكن وسائط التواصل البديلة الأفراد من اقتراح أخبار ومعلومات وتفاصيل مختلفة، وأن تتشكل عبر صفحاتهم في تلك المواقع الافتراضية منابر خطابات المعارضة والإعلام النقيض، حيث تعرّف المتلقون عبر مختلف أرجاء المعمور على أصوات وتحليلات ووثائق وأشرطة وصور غالبا ما كانت تصادرها الرقابة، ويحجبها إعلام السلطة. إنه المبدأ الذي يضع التداول الحر للخطابات والصور بما هو “دمقرطة” لمجتمع الخبر، وتقويض للتحكم والتوجيه. بيد أن هذا المبدأ ذاته ما كان له أن يفلت من آفات الرقابة والاحتكار والاستفراد بإنتاج وترويج الصور في الإعلام التقليدي متمثلة في مصادرة القيمة؛ وإذا كانت في الأول عبر “التحكم”، ففي الثاني عبر “التعويم”. ذلك أن من القواعد الأساسية التي ينهض عليها التواصل الاجتماعي قاعدة “التدفق”، والرهان على الصورة الخام بما هي معادل للحقيقة مع السعي للإفضاء بكل شيء، على نحو يفقد الأشياء معناها ومضامينها الإنسانية، وهو ما يكاد ينطبق على كل التفاصيل الخاصة والعامة المنقولة عبر وسائط التواصل من منظور فردي.
وغير بعيد عن مفهومي “الدمقرطة” و”التعويم” المتصلين بمبدأ الانتشار، تنطوي صناعة صفحات شخصية، أو قنوات خاصة، وملئها بمواد شديدة الخصوصية لإطلاع أكبر عدد من المتلقين عليها، على رغبة إثبات الانتساب إلى مجتمع التواصل والخبر وحيازة اعترافه، فإذا كانت الصحافة قائمة في شق منها على ترويج خصوصيات المشاهير فإن قنوات التواصل الاجتماعي قائمة على تداول خصوصيات العوام التي قد تحولهم إلى مشاهير، في نطاق افتراضي، قد يتحول في بعض الحالات إلى شهرة واقعية، إذ أن “الاعتراف” يقترن في الأساس بالوضع الذي يتخذه الشخص صاحب البروفايل ضمن الوسيط التواصلي، وما يبثّه من صور قبل الأخبار والمواقف والانطباعات المكتوبة، صور له في أمكنة وضمن سياقات استثنائية، ومع أشخاص نادرين، وفي أحداث فارقة، إنها الوثيقة التي تثبت انتسابه لمجال كان محجوبا ومحتكرا من أقلية، ويمكن أن نستحضر في هذا الصدد عددا من الأمثلة المتصلة بإدراج الصورة الخاصة جلبا للاعتراف، من مثل صور أداء الشعائر الدينية وصور النضال السياسي وصور السفر والصور المشتركة مع مشاهير الفن والأدب والسياسة.
قبل عقد من الزمان وفي بداية استعمال الفيسبوك درج عدد من مستعمليه على تصوير لحظة أداء مناسك الحج أو العمرة، صور أمام الكعبة وأخرى في مدخل الحرم، في زي الإحرام..، يبدو صاحب الصورة غير معني بالمكان تحديدا، إلا بقدر ضمانه لتصدير صور تجلب إقرارا جماعيا بوجوده هناك، ومن ثم اعترافا له بالفوز بلحظة دينية غير متاحة للجميع، وانتمائه لقلة تستحق التقدير؛ هكذا تتجلى الشعيرة الدينية بما هي مادة إعلامية شخصية قد تهم العائلة والأصدقاء وحتى المدينة، لكنها سرعان ما تتحول إلى مادة خبرية مطروحة لإثبات الوجود، بما أنها غير متاحة إلا لمحظوظين، في زمن بات الحج فيه يقتضي حسابات معقدة.
وفي مقابل صور الحج قد نجد صورا أخرى لمناضلين غير معروفين مدّعين في الغالب، التقطت لهم في ساحات الانتفاضات العربية، أذكر هنا موجة التصوير التي اجتاحت الوسائط في المغرب مع رايات وشعارات حركة عشرين فبراير، في مسيرات لا نعرف عددها، ولأناس لا نعرف هوياتهم، إنه إعلان عن انتماء وسعي لجلب اعتراف، بما أن اللحظة استثنائية، وغير متاحة دوما. والسمة ذاتها تنطبق على صور زيارة مدن ومآثر ومتاحف، حيث تضحى صور الشخص في متحف اللوفر، مثلا، أهم من اكتشاف المتحف نفسه، أستعيد هنا صورة شهيرة لطلبة مدرسة هولاندية في زيارة جماعية لمتحف “رامبرانت” حيث التقطت لهم صورة وهم منهمكون في النظر إلى هواتفهم منصرفين عن اللوحات العبقرية للفنان الشهير. لقد لاح مرة أخرى أن الأهم هو ارتسام الآخرين عن وجودهم هناك، لا الوجود في حد ذاته، الأمر الذي يمكن أن ينطبق على ما لا يحصى من الصور لأصحاب البروفايلات مع نجوم السياسة والفن والأدب، حيث القيمة ليست في المحاورة وإنما في “المجاورة” أي في “الوجود مع”، والإيهام بالانتساب إلى محيط أولئك النجوم، من هنا تبدو استعمالات كلمة “صديق” فاقدة لمعناها الأصلي دالة على الوافد المقبول في حساب تلقي أخبار وصور وادعاءات الصفحة.
بناء على كل ذلك يبدو التعبير الدقيق عن المتدخل في وسائط التواصل الاجتماعي هو “البروفايل” الذي يتكون من “اسم” و”صورة”، ولا يتصل بشخص بالضرورة، أي أن الهوية الافتراضية حاسمة في قياس الوظائف والسلوكات بصرف النظر عن انطباقها على فرد حقيقي أو زائف، وتبقى التجليات المتصلة بالصورة والاسم هي الأساس في قياس الرغبة في الاعتراف. وفي المحصلة من ذلك تتجلى الغواية بوصفها قصدا، ومظهرا جوهريا في لعبة التواصل، وجذب أكبر عدد من المتابعين والمعجبين والمعلقين والمقتسمين لمضامين الخطابات والصور ضمن هذا المجال التواصلي البديل، فلا تبقى للخصوصية مكانتها المرجعية ولا حرمتها وإنما تتحول إلى عتبة من عتبات جلب المتابعة والاستجابة لرغبة الوجود الاجتماعي الانتشار في عوالمه الافتراضية.
صور الشخص وعائلته وأصدقاؤه ومحيطه البيتي وتفاصيل عمله، وتنقلاته، المنتظمة في تدوينات وصور تنزع رداء الشخصي وتتكيف مع موجة الفضفضة المصنوعة والزائفة لإثبات الوجود وانتزاع الاعتراف، من هنا يتجلى في كثير من الأحيان اقتسام الخصوصية بما هو قاعدة في حرب رمزية، تجاه خصوصيات الآخرين المزاحمة، فأن ننشر صورة فليس فقط للتعريف بلحظة، والتباهي بوضع، وإنما لتوجيه رسالة لمنافسين وغرماء، ولطمس انتشار صور أخرى مقابلة، ولهذا تكثر في وسائط التواصل الاجتماعي تلك التدوينات الموجهة لمجهولين من كتاب وفنانين وسياسيين وأناس عاديين تنتقد صورا وكتابات وإعلانات دون نسبتها لأصحابها، وإنما بتضمين إشارات عامة لسلوك يبدو أرعن، وبديهي أن يلتقط المعنيون الإشارة في مجتمع مبني في جزء منه على صراع الإشارات وحرب الرموز.