صناعة الشخصية الروائية: ثلاثة قوانين وخمسة أنماط
قد يستطيب معظمنا العبارة التي صارت أقرب إلى مواضعة جامعة مانعة، والتي تفيد بأنّ الإبداع في كلّ أشكاله وحقوله المعرفية إنما هو اندفاعة تتحرّك بفعل التماعة فكرية آنية. شيء أقرب إلى “يوريكا” التي أنطقت أرخميدس وهو يأخذ حمّاماً ساخناً! قد يكون الابداع – في كلّ تلويناته – حالة عقلية عصية على الإخضاع للتوصيفات الدقيقة والآليات التي يقول بها منظرو السرد كوصفات ثابتة؛ لكنّ الأمور ليست سائبة النهايات؛ فكلّ فعل إبداعي لا بدّ أن يكون حصيلة تدريب طويل وشاق يتيحُ للجهاز الفكري البشري أن يبلغ تخوماً لم يبلغها أحدٌ من قبلُ. لا يمكن أن نتوقّع لحظة “يوريكا” أرخميديسية تختارُ أحداً من غير تدريب شاق مسبق؛ فالإبداع في نهاية المطاف ليس منحةً مجانيةً تسبغها الآلهة على أناسٍ متبطّلين.
ثمة قوانين للإبداع: هذه حقيقة خبرتها في حياتي. كل منشط معرفي له قوانينه؛ إنما علينا بداية معرفة أنّ هذه القوانين ليست صياغات نهائية بل تتشكّلُ حسب التكوين العقلي لكلّ مبدع. تصحّ هذه المقايسة على أساطين الفيزياء والرياضيات مثلما تصحّ على مبدعي السرد (والروائيين منهم بخاصة). قادتني مهنتي الروائية إلى اعتماد ثلاثة قوانين عامة في صناعة الشخصية الروائية، وهي أقربُ إلى موجّهات دليلية عامة في الكتابة السردية. سنرى أنّ هذه القوانين أقرب إلى بديهيات؛ لكنها بديهيات قد لا ننتبه إليها في حياتنا اليومية الصاخبة، كما أنّ هذه البديهيات مستمدّة من علم النفس المعرفي وفلسفة العقل، وليست أفكاراً نابعةً من الفضاء السردي ذاته. أريد القول إنّ الفعالية السردية منشط أوسع بكثير من نطاق الدراسات السردية؛ بل تتجاوزها إلى دوائر معرفية كثيرة تجعل من الفعالية السردية مجالاً معرفياً ينتمي إلى حقل الدراسات المعرفية المشتبكة.
سأجمل قوانيني الثلاثة في الآتي:
القانون الأول: قانون الإمكانية، ومفاده أن كلّ ما يمكن تخيّله يمكنُ تضمينه في سياق فعالية سردية.
القانون الثاني: قانون العوالم المتوازية، ومفاده أنّ الخيال البشري شيء أكبر من المرئي والمحسوس، وأنّ ما نكتب عنه قد لا يحصل في عالمنا الواقعي بل في عوالم متوازية.
القانون الثالث: قانون الاحتمالات المتناقصة، ومفاده أنّ التشخيص الروائي يقلّل من الاحتمالات الممكنة لمآلات الشخصيات الروائية في أدائها المستقبلي.
تعزّزت قناعتي مع سنوات عملي الروائي بأنّ الشخصية الروائية شهدت دورةً ثلاثيةً شبيهةً بالمنحى التطوري للحرفة الروائية ذاتها، ويمكن تشخيص هذه المتتابعة الثلاثية في ترسيمة “الواقعي – التأريخي – الميتافيزيقي”.
تتخذ الحرفة الروائية في العادة نمطاً ممّا يمكن تسميته بالتأريخ الفكري للكتابة الروائية (على نمط التأريخ الطبيعي للموجودات البشرية أو الطبيعية): يبدأ الروائي في العادة حرفته مستعيناً بواحد من الشواخص الطبيعية الماثلة أمامه، وغالباً ما يكون هذا الشاخص كائناً بشرياً يمتلك الروائي خبرة يومية معه (الروائي ذاته وعلاقاته اليومية المتشابكة على سبيل المثال). تبدو هذه الاستراتيجية مقاربةً آمنةً لمن يودّ تجريب الكتابة الروائية في بداياته؛ لأنه كائن يخشى المآلات اللاحقة لشخصياته الروائية وما قد ينجم عنها من تعقيدات غير محسوبة العواقب؛ لذا فالتوجّه الآمن له هو اعتمادُ سلسلة مختبرة من التشابكات اليومية (تكون في الغالب نُتَفاً من سيرة ذاتية أو مشهديات تحتفظ بها الذاكرة البصرية للروائي). يخشى الروائي في هذا الطور من حرفته الانغلاقات غير المحسوبة، وتكون الرواية لديه أقرب إلى طبخة يريد تضبيط مذاقاتها بحسب الوصفات المكتوبة. الروائي في هذا الطور كائن هش رجراج يميلُ إلى اعتماد سياسة (كل شخصية روائية هي مثال موازِ لشخصية واقعية)، وتلك سياسة التقابل الواقعي التي خبرها معظم الروائيين، كما أظنّ. تندرجُ الأعمال الروائية الريادية الموصوفة بمسمى “الواقعية الطبيعية أو التصويرية” تحت هذه الطائفة؛ بل حتى أنّ شخصياتها الروائية صارت أقرب إلى أمثلة عالمية عن البؤس الانساني أو التنمّر البشري (روايات تشارلس ديكنز مثلاً).
يلجأ الروائي في طور ثانٍ من حرفته الروائية إلى اعتماد السرديات التأريخية وتوظيفها في شكل تخييل تأريخي، وواضحٌ أنّ هذه المقاربة تتيحُ له التفلّت من أسر العلاقات البشرية الصارمة المتاحة له في مشهديات يومية. هنا يبدأ الروائي في تفعيل المقدرة الروائية، ومحاولة تخليق شخصيات روائية متجاوزة لواقعه المرئي.
المرحلة الثالثة في التطور الروائي هي تخليق الشخصيات الميتافيزيقية، وبالتأكيد تُعدُّ هذه المرحلة أكثر المراحل مشقةً على الروائي لأنها ببساطة محاولة الحفر الروائي في أرض روائية غير ممهّدة، أو لنقل هي محاولة اصطناع عالم موازٍ بعلاقات بشرية مستجدة. أرى أنّ معظم الكتابات الروائية على الصعيد العالمي صارت تجارب بشريةً غير مختبرة مسبقاً تجري وقائعها في عوالم ميتافيزيقية، والمسوّغ المتوقّع وراء ذلك هو كون الآفاق البشرية المتوقّعة في السنوات القليلة القادمة منفتحةً على أنماط عيش بشرية جديدة بالكامل بفعل مؤثرات الثورة التقنية الرابعة ومفاعيل الذكاء الاصطناعي المتعاظمة. الرواية في نهاية المطاف ليست سوى مجسّ اختباري لتوصيف الوضع البشري، والعلاقات الحاكمة بين البشر والموجودات الطبيعية، وشكل الأخلاقيات السائدة المترتبة على أنماط التعامل هذه؛ وعليه فإنّ الشخصيات الروائية الميتافيزيقية تبدو طبيعيةً تماماً في هذا الفضاء الروائي.
* * * *
أعتقد أنّ تجربتي الروائية (وعلى وجه التحديد تخليق شخصياتي الروائية) تطوّرت في مسارات روائية شبيهة بالمسارات التي وصفتها أعلاه: بدايات أقربُ إلى محاكاة روائية إبداعية لتفاصيل ذاتية واقعية مختبرة، لكنها اجتهدت أن تتحاشى الواقعية التصويرية وتدلف عالم التداعيات السيكولوجية، وربما كان هذا الفعل تناغماً مع مؤثرات الحداثة الروائية وسطوة أربابها الكبار (فيرجينيا وولف، دي. إج. لورنس، وليم فولكنر)، ثم ظلت شخصياتي الروائية تتحرّك في فضاء السرد التأريخي – السيكولوجي، ومحاولة إسقاط المؤثرات التأريخية على واقعنا العراقي والعربي، وواضحٌ أنّ هذه الملاعبة الروائية تتيحُ للروائي تمرير أفكاره بقدر مقبول من الأريحية، بعيداً عن التحسبات المسبقة لما يمكن أن يترتب على تأويل منفلت لهذه المناخات الروائية من عواقب معروفة قد يكون الإسكات القسري ومنع النشر أخفها وطأةً.
لم يتملّكني طوال رحلتي الروائية شغف بتوظيف سيرتي الذاتية بقدر ما أحببتُ اعتماد المقاربة التأريخية – السيكولوجية؛ لذا فإنّ شخصيات تأريخية (الحلاج، ابن عربي، …) لها مواضع راسخة في رواياتي، وبخاصة تلك الشخصيات ذات المحمول الصوفي والعرفاني، في إشارة واضحة إلى غياب التسامح وإعلاء شأن الهيمنة التي لطالما مُنِحت للأنساق اللاهوتية المتطرفة التي استحالت لاحقاً أنساقاً مؤسساتيةً حكوميةً متوحشةً. يمكن للقارئ أن يشهد ترسّخ هذا الخط السردي في رواياتي منذ بداياتها وحتى روايتي “سيدات زحل”.
جاءت روايتي الأخيرة “عشاق وفونوغراف وأزمنة” أقرب ما تكون لتوظيف حشد ضخم من الشخصيات الروائية الواقعية – التأريخية – السيكولوجية، وليس هذا بالأمر الغريب على رواية جيلية سعيتُ فيها إلى إعادة سرد تأريخي لنشأة الأمة العراقية (أو ربما الدولة العراقية، أو المجتمع العراقي، لا فرق!) عبر رصد التحولات التأريخية لأحوال ثلاثة أجيال من عائلة عراقية، وقد اعتمدتُ في هذه الرواية نمطاً إضافياً مستحدثاً من الشخصيات الروائية يمكن وصفه بـ”الشخصية المعرفية”، وهي شخصية باتت تلعب دوراً متعاظماً في السرد الروائي المعاصر؛ إذ يرى كثير من الروائيين المعاصرين أنّ هذا النمط من الشخصية الروائية سيلعب دور الناقل المعرفي للأجيال القادمة بعد تهافت دور الوسائط التقليدية الناقلة للمعرفة (المدرسة، الجامعة، الصحافة…).
أعملُ في الوقت الحاضر على رواية تنتمي إلى صنف الروايات المستقبلية، تلك الروايات التي تستشرفُ آفاق المستقبل المبشرة بتغيّرات درامية سريعة متأثرة بالثورة التقنية، وانحلال الأشكال التقليدية للحكومات، وتشظي الجغرافيات، وما يتبعها من تغول الصراعات الناشئة عن نضوب الموارد. ويمكن توصيف الشخصيات الفاعلة في روايتي هذه بأنها نمط من الشخصيات الروائية المنتمية إلى فضاء “اليوتوبيا التقنية”، فهي تنمو وتتحرّك في إطار التخييل الذي سيغدو ممكن التحقق بفعل الثورات التقنية المستجدة، ويدعم إمكانية تحققه مسعى الشخصيات العقلاني للانفلات من فلك المؤسسات الحاكمة، تلك المؤسسات التي تسيّرها عصابات مافيوية تندرج تحت توصيف اصطلاحي يعرفُ بِـ”الكليبتوقراطيا” أو حكومة صفوة السرّاق، وهذا ما يتقاطع مع نمط اليوتوبيات الروائية الفكرية – المألوفة لدينا، تلك اليوتوبيات الأقرب إلى الفكر الرغائبي، والنوستالجيا المحفّزة بسبب انقطاع موارد الأمل وانغلاق الآفاق.