صناعة الفرق الأدبي
عندما نحاول التدقيق في مسألة الحدود التي نجدها عند نقادنا القدماء، والتي ربما ظهرت نتيجة تأثرهم بالفلسفة اليونانية بالإضافة إلى عناصر محلية، والتي انشغل فلاسفتها (اليونانية) الأقدمون بوضع الحدود المنطقية التي حاولوا بها ضبط موضوعاتهم إلى درجة تتضح معالمها للمتلقي، فإن خرج الموضوع عن ذلك الإطار أوقفوه وعادوا إلى تلك الحدود التي يتواضعون عليها، لذلك نجد حدودا للشعر باعتباره الفن العربي الأول، وإن لم تسلم العملية من الاختلاف في وجهات النظر.
ولكننا ندرك صعوبة تملك الحقيقة المطلقة من خلال الكلام عنها، وأصبح في إطار الممكن الحديث عن الاختلاف في تعريف المفاهيم والنظم الفكرية، وبقاء إمكانية التواصل بين تلك الأطر رغم الاختلاف، ولعل نظرية الإطار لبوبر تشير إلى تلك الإمكانية ([1])، كما نذهب أيضا إلى أن تمرد الأدب سمة فيه، فيميل نحو تكسير الحدود مهما اتسعت، ونقصد بالاتساع هنا عملية ظهور المدارس الأدبية الكبرى، تلك المدارس التي بات كثير من النقاد يصنفون المنتج الإبداعي بناء على الانتماء إليها، والتي كانت تتبع بشكل مباشر للأيديولوجيا المنتجة في المجتمعات الأوروبية والشرقية. ولعل أكثر المدارس شهرة الرومانسية، والانطباعية، والبرناسية ([2])، والدادائية، والسريالية، والواقعية، والبنيوية، والبنيوية الاجتماعية، وصولا إلى الحداثة، وما بعد الحداثة. ولكن ما ظهر عندنا منها حتى اللحظة هي الرومانسية والواقعية في مجمل قصصنا القصيرة.
ورغم تلك الأطر المعرفية الواسعة النابعة من الفلسفة والقابلة للتحول إلى أيديولوجيا، نجد أن ظاهرة الانتقال من حدود معرفية إلى حدود جديدة قائمة باستمرار، ربما شكلتها تجربة المجتمعات التي باتت تدرك بطريقة حدسية إن صح التعبير، أن الفلسفة لا تمتلك الحقيقة المطلقة، رغم كل ادعاءاتها، وإن الأدب ربما يكون أقل انحرافا عن الحقيقة مما تفعله الفلسفة ذاتها عند تعاملها مع الكلمات، “إن دريدا يرفض منح الفلسفة ذلك النوع من المرتبة المميزة التي دائما ما ادعت فيها أنها موزع الحكمة المهيمن” ([3]).
ويمكننا النظر إلى الانحرافات الفنية عن الحدود الموضوعة ضمن نطاقين على الأقل، النطاق الأول يتمثل في مرونة النظام الأدبي ضمن نظرية الأدب، بمعنى أن نظاما مثل نظام القصة القصيرة، يمكن له أن يشمل حدودا متسعة، تمتد لتستوعب نماذج عديدة، دون استنفاد بنيته، وذلك لمرونتها، ولعل ذلك ما يخلد النوع الأدبي منذ ظهوره، حتى نجد أن بعض القصص القصيرة تستطيل لتصل حتى حدود مقاربة لطول بعض الروايات، خصوصا بعد انضغاط بعضها استجابة لتغيرات العصر، كما يمكننا أن نجد بعض التقنيات تذهب بالقصة باتجاه القصر الشديد، وهو ما بات يعرف بالقصة القصيرة جدا، وبالتالي ينحصر النظر في بنية العمل كما يظهر في الشكل الفني لا في الحجم.
ولعلنا نستطيع أن نفهم تيارا يذهب في هذا الاتجاه ضمن نزوع شديد في الثقافة العربية، يجر ناحية تمجيد الماضي، الذي يعتقد بذهبيته، ونعلي قيمه، ونؤكد ثباته، ويعبر المؤيدون لهذا الاتجاه عن شمولية التراث على كل الأشكال الأدبية، ولذلك نجد في بعض كتابات هذا التيار من يشير إلى أن القصة القصيرة جدا متحققة في بعض النصوص، مثل نصوص الطرف والملح، كما وردت عند الجاحظ في حيوانه أو بيانه وتبيينه، أو يرجعه البعض الآخر إلى تقنيات موجودة في كتاب المستطرف في كل فن مستظرف.
بينما ذهب التنظير في مسألة السرد ليتجاوز القديم، بما يوصف بالمقدمة والعقدة والخاتمة.. إلى آخره من التنظيرات التي تخلى عنها النقد الحديث، كما استبدلت الشخصية بالحدث الذي احتواها “لقد اتضحت ملامح الحدث القصصي على يد الكاتب الفرنسي موبسان (1850-1893) بتأثير من الاتجاه الواقعي الجديد، والذي يرى أن الحياة تتشكل من لحظات منفصلة، ومن هنا كانت القصة عنده تصوّر حدث واحد وفي زمن واحد لا يفصّل في ما قبله، أو في ما بعده، ومنذ دعوة موبسان، سار جل الكتاب على نهجه وعدوا ركن الحدث عنصرا مميزا للقصة، وحافظوا عليه كأساس فني لا ينبغي تجاوزه. ومن أشهر كتاب القصة الذين تتضح في كتاباتهم هذه الخاصية: أنطوان تشيكوف، وكاتريل ما نسفيلد ولويجي براندللو ([4])، ومع ذلك ظل النقاد يتناولون الشخصية باعتبارها عنصرا بارزا في القصة القصيرة، كما يرى آخرون أن القصة القصيرة محتاجة بالإضافة إلى الحدث لكل من الراوي، الزمن والحكاية.
ومن خلال تلمس المفارقة بين الشكلين في القصة القصيرة والرواية، نجد أن الرواية تمتد في السرد زمنا، بينما يتبقى مجال تقلص السرد في القصة القصيرة هو اختزال بطبيعته في زمن السرد، حيث يكون الاشتغال على اللغة التي هي المادة الأساسية للنص، واختزال عدد الأحداث والتركيز على حدث واحد يجعله المهيمن على مساحة السرد، وذلك يتطابق مع أمكانية إيقاف الزمن، حيث يستطيل السرد ليتجاوز زمن القراءة زمن السرد، ويطوى الزمن حيث يتقلص زمن قراءة السرد.
التجلي في التاريخ
سنجد اختلافا كبيرا في تصور صيرورة التحول من التراث إلى معاصرة القصة القصيرة في مجتمع البحرين، وعلى ما يبدو فإن هناك أكثر من اتجاه في تفسير ذلك الظهور، فيرى البعض أن ظهور القصة القصيرة في البحرين ناتج عن وصول الترجمات التي ظهرت على صفحات الجرائد البحرينية منذ بداية الأربعينات، وبالتالي تغليب الأثر الأجنبي على مجمل ظهور القصة القصيرة، بينما يشير اتجاه آخر إلى تفاعل السرد مع ذلك التحول الكبير في الحياة الاجتماعية بإعادة تموضع العلاقات الإنسانية ضمن علاقة الموظف بصاحب العمل، وظهور ذلك الحدث منذ إنشاء شركة (بابكو)، والتي باشرت إخراج النفط في ثلاثينات القرن الماضي، من جهة ووظفت القوى العاملة فيها، وكان لابد من كسر احتكار نواخذه الغوص والطواويش لتلك القوى العاملة فعمل الإنكليز المستعمرين للبحرين في ذلك الوقت على تسريح الغاصة بتحريم وراثة الدين، والسماح للغاصة وباقي العاملين في المجال بالتحول إلى عمال في (الجبل) كما يطلق أهل البحرين على العاملين في الحقل الأول عند أقدام جبل الدخان، فكانوا نواة الطبقة العاملة في البحرين تاريخيا وبالمعنى الحديث، وتوفر التعليم وتحوله إلى مؤسسة منذ 1919م، ومن طبيعة انفتاح أهالي الجزر على الآخر ضمن علاقات البحر الممتدة من شرق آسيا إلى أفريقيا مرورا بالبلاد العربية، ونمو الطبقة الوسطى التدريجي، ولعل ذلك كله بما فيه من الاحتكاك بالفنون المترجمة ووصول الجرائد العربية ما سمح للوعي بأن يعبر عن الحالة الاجتماعية من جهة ونمو مؤسسات المجتمع المدني (النوادي) والجمعيات الثقافية وإنشاء صحيفة البحرين (1939م)، وغيرها من العوامل التي أدت إلى ظهور القصة القصيرة ضمن مجتمع تقليدي وتفاعل قوي مع أنماط القصص الشعرية والرواية الإطارية التراثية ضمن ألف ليلة وليلة وغيرها من الحكايات عن الجن والمردة والعفاريت والسير الشعبية… إلخ، وتحت ضغط ومقاومة التحولات في العلاقات بظهور الطبقة الكمبرادورية المتحالفة مع الإقطاع القديم ورأسمال المالي للنفط وإدارة الاستعمار حتى الاستقلال.
ويشير الدكتور إبراهيم غلوم في دراسته الموسعة عن القصة القصيرة في البحرين والكويت إلى ما يمكن تسميته بجيل الرواد في البحرين والكويت وهو الجيل الذي بدأ الكتابة منذ 1928 وحتى 1959م ([5]) ولعلها بدأت بتلك الشرارة التي أطلقها المثقف عبدالله الزائد بمقاله المعنون بـ”لماذا نقرأ القصص؟” ونشره تلخيصا لقصتين؛ واحدة لتشخوف والأخرى لتلستوي، كما بدأت بذات الوقت العناية بالكتابة للأطفال، ويشير الدكتور إبراهيم غلوم إلى أن أول كاتب قصة قصيرة في البحرين هو محمود يوسف بعنوان “حائرة” 1941م. ولعلنا نشير إلى أهم خصائص البدايات التي ظلت حبيسة لأنماط من القصص التقليدية التي توحي باستخراج الحكمة والعضة الحسنة والإرشاد وتمثيل العاقبة الأخلاقية في المجمل، ولم تكن قصص البدايات تهتم كثيرا بالمكونات الفنية للقصة القصيرة في السرد، ربما كان ذلك حتى نهاية الأربعينات. ويشير عبدالله خليفة إلى أنه في سرد كل من علي سيار وأحمد كمال وقد ظهرا بقالبين قصصيين مختلفين كما يبدو علي سيار أقرب إلى فنية السرد في قصصه القصيرة التي ظهرت في مجموعة وحيدة هي (السيد)، بينما سيطر تيار من الرومانسية على قطاع واسع من السرد في القصة القصيرة لتك المرحلة.
في مسألة محاولة الإمساك بتطور القصة القصيرة عبر الزمن والتحقيب لها يبدو أن هناك عقبات كبيرة تتوزع بين التاريخ والنظر النقدي، فنجد أن هناك انسيابا تاريخيا مبررا للرومانسية وإن كانت ساخطة لقصاصين يعيشون فترة من الزمن تتداخل فيها المراحل وتمتزج وتتجاور فيها المدارس الفنية، فنجد أن هناك استمرارا لتيار الرومانسية في القصص القصيرة حتى بروز تيار الواقعية، وكان لابد أن تستكمل أدوات الكتاب وتصقل فنية استخدامها وإدراك مكوناتها حتى تظل في مسيرتها.
ونرى أن هناك تمجيدا في داخل الفكر العربي ومحاولة الرجوع إلى أول من كتب في كذا وأول من فعل كذا، ولا يبدو أن التأريخ هو السائد في الفكر العربي، إذ نجد إلى جانبه تأويلا أسطوريا قوي الحضور، ولكننا نشير إلى تعثر البدايات من جهة ومشقة التطور التي تحدث عبر الزمن حتى إذا رجعنا للنظر إلى الخلف سنرى مدى ذلك التهافت الذي كنا فيه، ولكن يظل الأدب في مسيرة تطوره قائما حتى تتحول الكتابة في دورتها ونرى من ساهم في الرومانسية من أسماء في البحرين يمارس الكتابة في الواقعية التي تغادر سمات هشة وراءها في تجربة الكتابة من أمثال خلف أحمد خلف وخليفة العريفي وعبدالله خليفة وعيسى هلال وأحمد الحجيري ومحمد عبدالملك وغيرهم، ونرى ذلك التحول مع تطور التجربة وارتياد الرواية كما فعل عبدالله خليفة وأمين صالح وخليفة العريفي مؤخرا، وإن ظهرت عند البعض سمات التحول نحو الواقعية ثم ارتدت في نفس القصة نحو الرومانسية في بعض النماذج، إلا أن البعض كان يمشي بأسلوب معاكس كما يشير الدكتور عبدالله غلوم إلى ذلك بالنسبة إلى أمين صالح أي من الرومانسية إلى الواقعية. ([6])، ولعل محمد الماجد يتميز بكونه يستخدم الذات بكل مكوناتها كنواة يدور بها وعليها الشكل الفني لقصصه ذات الطابع الرومانسي.
سنجد اختلافا كبيرا في تصور صيرورة التحول من التراث إلى معاصرة القصة القصيرة في مجتمع البحرين، وعلى ما يبدو فإن هناك أكثر من اتجاه في تفسير ذلك الظهور، فيرى البعض أن ظهور القصة القصيرة في البحرين ناتج عن وصول الترجمات التي ظهرت على صفحات الجرائد البحرينية منذ بداية الأربعينات، وبالتالي تغليب الأثر الأجنبي على مجمل ظهور القصة القصيرة
ويقوم في الظن أن استمرار القصاصين لعقود في كتابة القصة القصيرة أدت إلى تراكم هائل في التجربة عند الأفراد وانفتاح أفقهم على الجديد وتغير طبيعة المجتمع الذي يحاول القصاصون التعبير عنه، أدى إلى نقطة التحول في الكتابة القصصية ضمن خطين شكل أحدهما التجريبي والثاني الواقعي وإن ظهرت القصة الرمزية مثل قصة “غليون العقيد” عند محمد عبدالملك التي ظهرت في ذات المجموعة التي حملت اسم هذه القصة، بينما كان محمد عبدالملك واقعيا يرتسم معاناة الإنسان في مجتمع البحرين ويستمد منه النماذج المسحوقة والمنهارة، ذلك الفرد الذي عبر عنه في مجموعة “موت صاحب العربة” يشكل جزءا من المنظومة المجتمعية العربية رغم تعددها وتنوع بيئاتها.
يشكل أمين صالح إشكالية في تصنيف كتابته بسبب التجريب الذي يقوده نحو استخدام اللغة بشاعرية كبيرة تؤدي إلى وصول نصه إلى حدود قصيدة النثر، وقد ادعيت في بعض ما كتبت أنها كذلك، بينما ظلت هناك سمات تلح على كونها تميل إلى حدود القصة القصيرة جدا خصوصا في نصه “موت طفيف” ([7])، وحتى في كتابة الرواية يلعب ذات اللعبة بين السيرة الذاتية وغنائية الأسلوب، ويبدو أن فعله الكتابي يصدر عن تصور حول النص وحدوده التي تخترق كل الأشكال الفنية كما صرح هو ذاته، كما يذهب عبدالقادر عقيل في ذات الاتجاه، خصوصا خلال مجموعتيه القصصيتين “الشوارق”، “رؤى الجالس على عرش قدامه بحر زجاج شبه البلور”، ويظهر عنده الاهتمام بمكونات العائلة في مجمل قصصه ونماذجه من الجدّ إلى الابن ثم الحفيد، وكذلك نجد تلك الإشكالية تستمر عند فريد رمضان وبشكل جلي في نصه “نوران” وربما نلمح فيها تشاكلا مع النص الصوفي، كما تشتبك وتتعقد اللغة عند منيرة الفاضل إلى درجة ترفع صعوبة النص على المتلقي العادي فلا يعود قابلا للتفاعل مع ذلك الاستخدام المكثف للغة في “الرمورا، للصوت لهشاشة الصدى”، كما ذهب في ذات الاتجاه المحتدم نعيم عاشور في “ذاكرة الماء” ولكن بشكل مغاير.
ويمكن هنا أن نقف بين لحظة التأسيس وبين تيار استفاد من تجارب من قبله ومن حوله من ترجمات إلى اللغة العربية وقرأ بكثافة وأكد وعيه عبر معرفة تذهب في مستويين؛ أحدهما يتعلق بفنية إنتاج القصة القصيرة ومعرفة متعمقة بما يدور داخل المجتمع والكيفيات التي يقوم بها هذا المجتمع لحل مشكلاته الإنسانية العامة والخاصة، وتحصيل مثل تلك المعرفة متعب عبر مراقبة الإنسان وسلوكياته التي تظهر طقوسه وعاداته وتقاليده وأزمته الوجودية.
بينما كانت هناك بعض الكتابات التي لم تترك أثرا وظلت في منطقة غائمة يكاد لا يلتفت إليها، ذلك أنها لا تشكل تأثيرا في الاتجاه الفني في الكتابة فتظل معلقة، لا هي للحظة التأسيس ولا هي نحو التجديد في ملامسة الحياة المجتمعية والتعبير عن مشكلاتها. كما أن هناك من كتب مجموعات ومن ثم توقف فجأة، وهناك من كتب مجموعة واحدة وتوقف أو من نشر بعض القصص هنا وهناك دون أن يجمعها في مجموعة، مما يطرح السؤال لماذا تتوقف التجارب، وهل افتقاد الكتابة لمشروع ما يجعلها غير قادرة على المواصلة أم أن تحول الأفراد ومواقفهم الحياتية تفرغ الكتابة من جذوتها التي تمدها بالنسغ، أسئلة كثيرة في مجال لا مجال فيه للتخمين، فهل يجب علينا أن نطرح مثل هذه الأسئلة على التجارب التي توقفت أم نتركها تعبر دون ضجيج؟
في التحوّل
المجتمع لا يتوقف بحال من الأحوال عن تحولاته التي في مجتمعاتنا العربية تكون في بعض الأحيان مضادة للمستقبل وتجر نحو تطبيق ماض غابر للأمة يقف في متخيلها ممجدا لكن دون إمكانية للتحقق في الحياة وإن تحقق بعضه كما فعلت داعش وأخواتها إلا أنه خارج العصر وحركة الحياة بشكل عام، ومنذ الثورة الإيرانية والصحوة الدينية في المنطقة سادت تيارات وتعمقت بالاتجاه المحافظ تماما والمتشدد في بعض الأحيان، كما جاءت حركة الميثاق في البحرين لتطرح انفراجة واسعة لفترات حتى جاء الربيع العربي، ولم تمر تلك التغييرات على مجتمعنا دون تأثير، فظهر جيل جديد يتقلب بين تاريخ لحركات سياسية متنوعة قومية ويسارية وليبرالية، وبين واقع تنتشر فيه دعوات ماضوية لم تكن تنسجم مع ما وصل إليه فن القصة القصيرة فظهر جيل جديد من الكتاب بين تلك النزعات، وكأنه بات منفصلا عن المنجز الفني في بعض نماذجه، وإن ظل الجيل القديم مستمرا في عطائه وتعميق تجربته.
لن أورد هنا الأسماء حسب أهيمتها الفنية إذ أن ذلك يحتاج إلى دراسة معمقة لكل النماذج التي يجب أن نقف عندها، فمن كتاب القصة القصيرة في البحرين أحمد المؤذن، حسن بوحسن، نعيمة السماك، معصومة علي المطاوعة، سعاد آل خليفة، عبدالعزيز الموسوي، مهدي عبدالله، جعفر أيمن يوسف… وآخرون. أما تجربة معصومة المطاوعة وأحمد المؤذن وحسن بوحسن وجعفر أيمن وسعاد آل خليفة فقد تناولها بشيء من التفصيل الراحل عبدالله خليفة في إحدى مقالاته عن تحول القصة القصيرة في البحرين، فأحيل إليها ([8]).
بينما أتناول هنا تجربة واحدة للقاص عبدالعزيز الموسوي الذي صدرت له ثلاث مجموعات قصصية قصيرة: أرواح قابلة للاشتعال 2008، طلقات 2010، كراكتواكو 2017، وكذلك كتب روايتين هما؛ القبار الأعرج 2012 وقلبي في رقبتك 2014. كما حوت مجموعتيه “كراكتواكو”، وسأقوم بقراءة في مجموعته “طلقات”. و(طلقات) هو الاسم الذي اختاره عبدالعزيز الموسوي عنوانا لمجموعته من القصص القصيرة والقصيرة جدا، فكان العنوان عنوانا عاما على كل تلك القصص القصيرة، بينما نعمت القصص القصيرة جدا بعناوين مختلفة، وبذلك ذهب عزيز الموسوي نحو تمييز القصص القصيرة عن تلك القصيرة جدا بوضعها في باب خاص، وكان العنوان يتدرج بكونه متصاعدا حسابيا بالنسبة للقصص القصيرة (2،1..إلخ) دون أن يعني ذلك تصاعدا في الحالة الإنسانية التي شملت قصصه القصيرة بل ظل العنوان يأخذ عبارة طلقة ورقما ما إلى جوارها.
يشير الدكتور إبراهيم غلوم في دراسته الموسعة عن القصة القصيرة في البحرين والكويت إلى ما يمكن تسميته بجيل الرواد في البحرين والكويت وهو الجيل الذي بدأ الكتابة منذ 1928 وحتى 1959م ([5]) ولعلها بدأت بتلك الشرارة التي أطلقها المثقف عبدالله الزائد بمقاله المعنون بـ”لماذا نقرأ القصص؟” ونشره تلخيصا لقصتين؛ واحدة لتشخوف والأخرى لتلستوي
في الأفق العام تدور قصص الموسوي حول موقف أخلاقي تُبنى حوله دراما إنسانية تتحدث عما يدخل تحت حد التابوت الذي لا يتكلم عنه أحد، فيترك الأرواح معذبة بصورة عامة، تلك الحالة التي يكون فيها الفعل الجنسي هو السائد سواء الكلام عن امرأة تطلق غازاتها الخانقة أو زوجة ينام زوجها مع أمها أو أب ما يخون زوجته أمام طفله الذي يحشو فمه بالحلوى ليطمئن على سكوته، ويبدو أن فعل المغايرة يحدث عندما تستغل صبايا الحي المجنون الفاتن الذي تتقاتل عليه في القصة المعنونة “طلقة رقم 12″، وتشتعل غيرتهن عليه حتى يحدث ما لا تحمد عقباه من حمل إحداهن فيقتلها أخوها ويدفنها في مكان مجهول، بينما يشير الموسوي إلى مواصلة المجنون فعلته مع أخرى ليبين حملها بعد دفن (سمر) ليوحي بالسبحة المكرورة، تلك الفكرة تتماشى مع الثقافة السائدة في المجتمع الذي يشير في تفكيره إلى أن المرأة هي المسؤولة عن شبق الرجل وإغوائه، ولكن أضابير المجتمع عادة ما تحمل حقيقة معاكسة لتلك التي يشير إليها البناء الفني في قصة الموسوي “طلقة رقم 12″، فعادة ما نجد في المجتمع الرجال هم الذين يستغلون النساء المصابات بالعته أو التخلف العقلي.
لا يعني أبدا ذلك التناقض القائم في المخيال الفني بين بناء القصة والواقع الاجتماعي أي خلل في تركيب القصة، ولكنه يشير إلى تآلفها مع السائد من جهة وتعبر عن الشحنة الأخلاقية والتعليمية من ارتداد الفعل السيئ على صاحبه في الحياة أو بعد الممات، كما نتلمسه في استيقاظ ضمير عصام في القصة “طلقة رقم 6″ (1)، تلك الشحنة الأخلاقية التي تكون سائدة على معظم الإنتاج الفني للموسوي في هذه المجموعة تجعله محصورا في مألوف الثقافة، ومناقضا للحياة الاجتماعية وتدفقاتها أو تطلعاتها المستقبلية، بل تستلهم موقفا أخلاقيا من أفعال البشر وتجعله محط تأمل في دائرة من الشجن.
على أن الموقف الأخلاقي لا يخلو من شحنة عاطفية تجتاح الكتابة، فحيث تذهب القصة القصيرة نحو تلمس أبعاد الحواس الإنسانية التي تعم الذات، والتي لا يمكننا تمييزها في المعتاد، ونحن نشير هنا إلى حاسة اللمس، تلك الحاسة التي تتركز في اليدين وفي الأعضاء التناسلية بذات القدر من كثافة أعصاب اللمس، تشير القصة التي تحمل عنوان “طلقة رقم 2″ في جوهرها إلى رجل فقد يده، وتدور البنية الدرامية للقصة على حالة الفقد تلك، بينما لا عزاء في العضو الاصطناعي الذي يراد منه التعويض ربما عن الشكل فقط كما توحي القصة، وهنا يبدأ الوعي المداهم في دائرة من الضوء حين يحدثه الأصحاب عن محاولاتهم للحصول على تعويض الإصابة في أثناء العمل للتخلص من الديون “ربت أحدهم على كتفي وهمس ناصحا: المال يصنع لك يدا”. قلت له وأنا أهم بالمغادرة متهكما “أرفض أن تصنع اليد المال”، وتقوم البنية الدرامية على مقارنة حالته بحالة رجل كان يجر كرسيا متحركا يجلس عليه ابنه المشلول، وتتفاعل مع اليد المقطوعة الخطيبة بينما لا يستطيع هو التفاعل معها، حتى يضع الخد مكان اليد.
فلك مغاير
تميزت قصص الموسوي القصيرة جدا بمحاولات جاءت مختلفة نسبيا عما وجدناه في القصص القصيرة من الجزء الأول من المجموعة، ولكنها ظلت محكومة بفعل الخيانة الجنسية والعاقبة الأخلاقية أو الانحطاط الأخلاقي، كما في “خواتيم، فن، أرث، عطر، تلوث”، بينما أفلتت باقي القصص منها، وتتضح تقنية القصة القصيرة وهي تفرد العنوان باعتباره جزءا مكونا من تلك القصة، تلك القصة التي يبدو أن العنوان يلخصها عند الموسوي كما في قصة “في غزة”:
“سأل معلم مادة العلوم، وهو يمسك بالرغيف: من أين نأتي بالشعير؟ قال الصغير: من النفق!”.
فيبدو لنا العنوان كأنه يقول إن ذلك يحدث في غزة فقط، ذلك الجزء الفلسطيني الذي ضربه الحصار لمدد تكاد تكفي لترهل أي دولة من الدول وارتخائها كما حدث للعراق قبل غزوه من حلف شمال الأطلسي، وربما هو ما يحاول الآن على كل من إيران وكوريا الشمالية وهو ذاته ما مورس على كوبا طوال عقود طوال، كان ناتج الحصار أن قاوم الشعب الفلسطيني ذلك الحصار من خلال أنفاق يجلب منها ما يقيم أوده، وقد شهد الجميع كيف تكالب الجميع بتطبيق الحصار على تلك المنطقة الصغيرة والمحشورة بكل فسلطيني لم ترد وجوده دولة الكيان الصهيوني على ما تسيطر عليه من بلاد الفلسطينيين، تلك المنطقة المكتظة بالسكان، ملون ونصف المليون فلسطيني كانوا يكابدون ويلات الحصار، فمن الطبيعي أن يعتقد طفل أن مصدر الغذاء الرئيسي (رغيف الخبر) من الأنفاق، تلك اللفتة التي تشير إلى انشغال الأديب البحريني بالهم العام والقضية الأولى (فلسطين)، وقد تميز العنوان بالقصر بحيث عبر عنه الموسوي بكلمة واحدة مثل “خواتيم، فن، إرث، مشجب، صراع، عطر تلوث، الواو” أو بأكثر من ذلك في “حيلة زوجية، في غزة، ثرثرة أطباق العشاء”، بينما حوت القصص القصيرة جدا ذلك الانحراف الأسلوبي الذي يحدث الصدمة للمتلقي.
تشير قصة “الواو” إلى التمايز بين البشر في بلاد العرب قاطبة، والواو مستخدمة على اعتبار أنها اختزال لغوي للواسطة التي تعبر عن شكل من أشكال الفساد، وعلى الرغم من كون الناس متساوين في الموت، إلا أن أحياءنا لا يقبلون ذلك التساوي، فلا تتوقف القنوات الأرضية ولا الفضائية لموت زوجة مواطن وابنة رجل عادي في يوم عادي جدا بالنسبة لوسائل الإعلام بل المفارقة تقوم مأساتها دراميا على بث أغان مفرحة في يوم حزن متجهم لرجل فقد للتو زوجته وابنته.
ولكنْ، هناك ميتون تتوقف لهم كل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة كافة لتقرأ القرآن على أرواحهم لينبثق التساؤل عن الفرق بين الأموات، إنه ليس فرقا عند الأموات الذين يدخلون في الحياد إنه تلك التفرقة التي تقوم عند الأحياء “انتابته نوبة ضحك مباغتة وهو يشاهد جميع قنوات بلاده الأرضية منها والفضائية فقد علقت جميع برامجها مقتصرة على تلاوة القرآن. تساءل في نفسه: ما الفرق بين موتهم وموتنا؟ تذكر حين فتح جهاز التلفاز بعد أن فرغ من دفن ابنته وزوجته بغية أن يسمع خبرا يشد من أزره، ولكن صوت هيفاء جاء بليدا “ليك الواوا بوس الواوا خلي الواوا يصح.. لما بوستو الواوا شيلتو صار الواوا بح”.
ومن التحليل السابق يمكن أن ندرك أن هناك كتابا رحلوا وهم يكتبون القصة القصيرة جدا، وآخرين توجهوا نحو الرواية مع الاحتفاظ بعلاقتهم بالقصة القصيرة بينما ظهرت القصة القصيرة جدا كنوع أدبي جديد مارسه كتاب البحرين وقد ظهر عند كل من أحمد الحجيري وعبدالعزيز الموسوي ونعيمة السماك وآخرين، ويبدو أن هناك اتجاها يتأسس في تعميق القصة القصيرة جدا ضمن أسلوبيتها وبنيتها المختزلة التي تقوم على قصر العبارة، واستخدام تقنيات الجملة الشعرية، واستنهاض الدهشة في خاتمتها. لقد استطاع أهل البحرين الوصول إلى التأثير العام على مجمل الشعرية بفض أصوات في البحرين وصلت إلى الكونجرس في القراءة وأثارت الانتباه تجارب أخرى بحرينية ضمن اللقاءات في مؤتمرات العام لاتحاد الكتاب العرب، بينما ظل سعيهم في السرد أقل شأوا مما وصلت إليه شعريتهم، ويظل العزاء هنا في الأشكال المتعددة للسرد بأنه فن حديث نسبيا في مجتمعاتنا، بينما يمتد فعل الشعر منذ ما قبل الإسلام حتى اللحظة الراهنة.
[1] كارل ر.بوبر: أسطورة الإطار في دفاع عن العلم والعقلانية، سلسلة عالم المعرفة، العدد 292، 2003.
[2] إيليا الحاوي: البرناسة أو مذهب الفن للفن، ط1،دار الثقافة، بيروت، 1983م.
[3] و.ب ستانفورد وآخرون، المرآة والخارطة، وترجمة سهيل نجم، مقالة بعنوان “جاك دريدا اللغة ضد نفسها”، السلسلة النقدية، العدد 4، نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق 2006، صفحة 92.
[4] شريبط أحمد شريبط: تطوّر البنية الفنية في القصة الجزائرية المعاصرة 1947-1985، ط1، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1998م. مأخوذ من موقع اتحاد الأدباء العرب على الموقع awu-dam.org/book/98/study98/4-sh-1/book98-sd003.htm
إبراهيم عبدالله غلوم: القصة القصيرة في الخليج العربي الكويت والبحرين دراسة نقدية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 200م صفحة 28-29.[5]
عبدالله غلوم: القصة القصيرة في البحرين والكويت، مرجع سابق، صفحة 479.[6]
جعفر حسن: تمنع الغابة الطرية نظرات في نصوص شعرية، [7]
عبدالله خليفة: مقالة بعنوان “تحولات القصة القصيرة البحرينية”. https://isaalbuflasablog.wordpress.com/2016/02/15/عبد الله-خليفة-تحولات-القصة-القصيرة-ال [8]