صندوقنا الأسود
اللعنات التي نصبّها على الموبايل تحمل جزءاً من لعناتنا على استعمالاتنا له، والافتتان الذي نغدقه عليه كذلك هو وجه من وجوه استفادتنا منه، واستمتاعنا بالمزايا الكبيرة الاستثنائية التي يتيحها لنا، ويسهّل من خلالها حياتنا.. والحديث عن مساهمة الموبايل في تعقيد حياتنا يحمل مبالغة، وتحويراً للحقيقة، فهو رهن إشارتنا، نسأله فيقترح لنا الإجابات، ونهمله فلا يعتب علينا، لذلك فنحن مَن نحمّله آثام زمننا، ويحلو لنا كالعادة العثور على ما نلقي عليه من أعباء همومنا وتوتّرات حياتنا المعاصرة..
علينا الإقرار بأنّ العصر يتغيّر يوماً بيوم، وأنّ هذه المتغيّرات تفرض علينا مواكبتها ضمن الحدود الممكنة، والموبايل يساعدنا ويسهّل لنا آليات التكيّف مع مستجدّات عصرنا ومواكبتها، ويفسح لنا المجال لنبقى على اطّلاع على تحديثات الحياة وتعقيداتها في الوقت نفسه.
والسؤال عن إمكانية العيش بعيداً عن الموبايل أو بدونه، يحمل أكثر من جانب، فيمكن أن نشير إلى أنّ مَن ينأى بنفسه عن الموبايل وحمله واستعماله، يظنّ أنّه يبقي نفسه بمأمن عن التوتّر، وينعزل بنفسه عن مسار الحياة المعاصرة، ينزوي وينقطع كنوع من الاعتكاف في وقت لا يناسب الحالة، وقد يشعر بسعادة التمتّع بخصوصيّته المنشودة، لكن هل هذا يعني أنّه استطاع التأقلم مع زمنه واستحقاقات التغيير فيه؟
وفي الوقت ذاته، هل الانغماس في شاشة الموبايل لساعات وساعات يعني أنّ مستخدمه أصبح ابن عصره ومتقناً لأدواته مستفيداً منها بالصيغة القصوى التي يأملها؟
لا يخفى أنّ كلّ حالة تحمل تطرّفها الخاصّ بها، فالنأي بالنفس عن ثورة الموبايل ابتعاد عن حركية العصر بمعنى ما، والارتهان لشاشة الموبايل وتضخيمه لينهب الوقت والجهد كلّه تقيّد وحبس في إطار محدود قد يضغط يوماً بيوم على صاحبه..
لا يمكن توصيف الموبايل بأنّه خادم أو مخدوم، هو يتبع أهواءنا ويكون مفتاحاً للاطلاع على الكثير من المعارف والمعلومات، بالإضافة إلى كونه خزانة أسرارنا وصندوقنا الأسود في عالمنا الحديث، لما يحويه من تفاصيل حياتنا، حيث يمكن من خلاله رسم خارطة لحياتنا نفسها بكل تفاصيلها.
ثقافة الموبايل تؤسّس لوضع تشريعات حياتية جديدة، وتغيّر مفاهيم العصر ومعاني مفرداته نفسها، فتراها تستدرج المعاني وتعيد إنتاجها وتصديرها، مثلاً لم يعد التجاهل مقتصراً على حالة مباشرة ومتجسّدة، بل بات يتجلّى بصيغ افتراضية، كأنّ تصادف منشوراً لأحدهم، أو صورة أو تعليقاً له، وتطنّش وتتجاهل، كأنّك لم تصادف شيئاً.. وقس على ذلك، سواء كان الأمر من باب الاطّلاع أو من منطلق إرواء جوانب نفسية معيّنة تبعاً لحالاتنا ومواقفنا الحياتية ممّن نتعاطى معهم بصيغة واقعية أو افتراضيّة.
والافتراض هنا أيضاً تخطّى مجازه، بل أصبح واقعياً لدرجة يرسم لوحة تحرّكنا الاجتماعية وخارطة تواصلنا مع الآخرين، صار الافتراضي حاضراً أكثر من الواقعيّ المجاور أو المصاحب لنا في بعض الأحيان، ابتدع أناس حيوات افتراضية لأنفسهم، اخترعوا شخصيّاتهم المفترضة، يعيشونها بتفاصيلها، قد تعكس رغباتهم المكبوتة بما لا يستطيعون تحقيقه واقعياً، أو قد تكون ملاذاتهم الآمنة في خضمّ مساعيهم ولهاثهم اليوميّ المعتاد.
لا بدّ من الاعتراف أنّ الإنسان دائم البحث عمّا يلقي عليه بأسباب تقصيره، سواء في حياته الشخصية أو العامّة، والموبايل يوفّر هذه الميزة أيضاً بالإضافة إلى ميزات ومزايا أخرى كثيرة يوفّرها لمستخدمه، وتصوير الموبايل كوحش ينهش أوقاتنا وينهب حياتنا ما هو إلا تصوير لدواخلنا وما نسقطه عليه، وصورة من صورنا التي نتهرّب من مكاشفة أنفسنا بها.
يختصر بعضنا الموبايل بوسائل التواصل الاجتماعي، ويحمّله مسؤولية التسبّب بعزلة الناس عن بعضهم وانزوائهم في زوايا قصية عن الآخرين، وكأنّ الموبايل هو وسائل التواصل وليس أداة للدخول إليها والتجوّل بين جنباتها وفي دهاليزها، للبحث عن تفاصيل أو معلومات، أو سبل ووسائل لبلورة صورة مشتهاة أو التهرّب من أخرى تكون مثار خوف وتوجّس..
لا أدري هل سيكون من المبالغة القول بأنّ الموبايل أشبه ما يكون بالمورفين نفسه، يمكن استعماله كعقار لإنقاذ حياة الإنسان والمساهمة بمعالجته والتخفيف عنه، أو كمخدّر لتصفية الإنسان والقضاء عليه وتدميره.. والأمر يعتمد على الصيغة التي يستخدمها فيه.
حين تمشي فإنّك تستفقد جهاز هاتفك، لأنّه بوّابتك إلى عالمك، ونافذتك المشرعة على فضاء لا محدود، يختصر عليك كثيراً من الوقت والجهد، يكون أداة طيّعة في يدك، أنيساً ونديماً، كتاباً وخارطة، نافذة لليأس أو كوّة للأمل.. الموبايل أداة لتيسير الحياة لا لتعقيدها.. اختر من رياضه ما تشاء فأنت حرّ في تطويعه واستخدامه.
هناك مَن يتحوّل إلى عبد للموبايل، يمشي كالمسرنم وهو يستخدمه وينصاع له، كأنّه يكون منوّماً يتبع أشباحاً يقودونه في سيره، يحبس نظره في هاتفه ويمشي منقطعاً عن ضجيج الحياة من حوله، كأنّه مجسّم في مدينة أشباح لا يدري عمّا يبحث..
لا يتّصف الموبايل بخير أو شرّ، هو صورة لخيرنا وشرّنا، لقبحنا وجمالنا، لجنوننا وتعقّلنا، لصورنا السوداء التي نتهرّب من مواجهتها والنظر إليها، ولتلك التي نجمّلها بوساطته لنرتاح لها ونخادع أنفسنا بها.
ربّما يخفّف الموبايل عنا بعض شعورنا بالذنب، فالمتسبّب بالعزلة والوحشة، المشارك في تفتيت المجتمع وعزل أبنائه عن بعضهم بعضاً في قواقع إلكترونية، ليس في الحقيقة كما نصوّره أو نقولبه أو يحلو لنا إلصاق التهم به، لكنّه حمّالُ تناقضاتنا وتجلٍّ لها بحيث يمرئي لنا ما نتهرّب من البوح به.. كما نراه مسعفاً لنا في التملّص من بعض الواجبات، يختصر المسافات ويلغي الحدود، يساعدنا على تلمّس الدرب الذي يوافق مزاجياتنا وأهواءنا.
ربّما يحمل عنّا الموبايل أعباء كثيرة، لكنّه في الوقت نفسه يضيف إلينا أعباء جديدة، فلا يمكن لنا أن نتهرّب من التواصل، أو نتملّص من الاستجابة للآخرين الذين يبحثون عنّا.. ولكنّ الرائع فيه أنّه يظلّ صندوقنا الأسود بكلّ ما يعترك فيه من تفاصيل وأسرار.