صنوف الشعر ومعياره
الشاعر ترجمان الآلهة وكذلك العراف إلا أن الشاعر عراف مبصر؛ هنالك نصوص عبر تاريخ الأدب العالمي تحدت الوقت وعبرت جدار الزمن. وما كان ذلك إلا لأنها تتكلم بلغة الآلهة أو أنها تترجم بلغتها نواياها. فرجيل ولوقيانوس، دانتي وميلتون، الخيام وابن الفارض، الحلاج وابن عربي، ابن سينا وابن الشبل، الشهرزوري وابن اسرائيل.
كثيرة هي النصوص من صنافة هذي التي ذكرت، اجتازت جدار الزمن إلا أنها قليلة جدا بل نادرة إن وزناها مع أو نخلناها من صنوف بقية ما يسمى شعرا.
انضوى الشعر منذ وردنا اول نص شعري: تحت صنوف ثلاثة، تناسلت من بعضها تناسل خيوط الفجر من خيوط الليل.
كان النص الأول نصا وحيد الخلية، حمل في أحشائه الفرح والحزن معا وأبدى في ظاهره الأمل والخيبة أيضا معا.
كان نص قلقامش نصا عبر عن هفو الإنسان إلى الخلود وعن خنوع ذلك الإنسان أمام الموت.
فجاءت حركته الدرامية متوترة بين ارتفاع وانخفاض بتتابع كتتابع أنغام سمفونية إلهية بين غضب ورحمة.
يغضب قلقامش على الآلهة ثم يخضع لها بعد صراع طويل بينه وبينها من جهة وبينه وبين ذاته من جهة أخرى.
نفسه تلك.. النفس الجياشة بالحب والحقد والمضطرمة نارا إلى القوة والسلطة، نفسه تلك المتعالية: تخضع في النهاية إلى قناعة بالضعف والعجز أمام الفناء. إلا أن قلقامش في رحلة البحث عن ذاته – تلك الرحلة التي مشاها من بعده بوذا وإبراهيم بن أدهم ولاوتزو ومحي الدين بن عربي – يكتسب مع الزمن حكمة الشيوخ ويعرف أن الخلود هو في العمل الصالح، فيصعد إلى أسوار مدينته” أور” ويعمل على ترميمها.
نص قلقامش انشطر عبر تاريخ الأدب العالمي إلى شطرين، شطر اتخذ الكآبة وحدها وخيبة الأمل مركبا له؛ وشطر آخر امتطى الأمل والفرح حصانا مجنحا يرتاد به بساتين الجمال.
ولقد جاء الشطران معا في نصين لإنسان واحد هو النبي سليمان بن داود: فكان النص الأول هو “نشيد الأناشيد” والنص الثاني “سفر الجامعة”.
وبعد هذين النصين/الشطرين الذي أمست فيهما النفس الواحدة نفسين متقابلتين بين فرح وكآبة؛ انهمر الشعر شلالا صادرا عن نفوس شاعرة كثيرة فكان هنالك: المتنبي القلق المكتئب وهنالك أبونواس الفرح وابن الرومي المتطير وأبوالعتاهية المتلبس بالموت والمعري المتقلب على فراش الشك واليقين.
هنالك شيكسبير وبوشكين وييتس وشعراء كثر تقلبوا في نصوصهم بين صنفتي قلقامش، إلا أنهم جميعا قلما كتب أحدهم نصا جمع فيه بجديلة واحدة بين الوجود والعدم وبين عبثية الحياة وجديتها وبين ضرورة رفضها كما هي وقبولها كما هي معا.
نتيجة وبرهانها
الشعر معيار الشعر لأن وسيلة كونه لا تحتاج إلى أداة من خارجه مثلما يحتاج النحت إلى مطرقة والرسم إلى فرشاة والمسرح إلى بشر؛ الشعر ينبع من غيابات الشاعر ليستقر في خبايا مشاعر المتلقي.. الشعر عرافة يتلقاها طالبها بقلبه عبر دهاليز مشاعره.
الشعر ليس كلمات فصيحة لأن الكلمات دون نسج يرصفها على نول الوجيب لن تشكل نصا بليغا يأسر مشاعر السامع ويفسح لخياله الطيران في فضاءات ذلك النسيج الذي يتسع لدى بعض من الشعراء سابحا ومتشجرا ليعم الكون كله.
الشعر إذن معياره في ذاته
سأحاول أن أبرهن على ذلك من خلال مقطع شعري ورد في قصيدة “أغنية إلى العدم” للشاعر أحمد نسيم البرقاوي:
“هل نحن عملة يلهو بها الزمن على طاولة القمار/الزمن الذي يخسرنا دون أن يبتئس/خلقت من مزيج ظن وشك وسؤال: هو ذا أنا في رحلتي إلى جزيرة اليقين”
ما وراء هذا السؤال؟ تمرد على قوة الفناء، أم خنوع أمامها؟ أم بدء رحلة لنيل الخلود؟ إن أسئلة قلقامش تتكرر هنا إلا أن مبعثها اسمى غاية وأبعد هدفا لأن شاعرنا يبحث عن اليقين ليس له كفرد وإن كانت رحلته أو قل مغامرته فردية؛ إنه يبحث عن الخلود أو عن أسباب عدمه للناس جميعا الذين يبددون على طاولة القمار الكونية دون اكتراث.
الحيرة أمام الزمن وقوته حيرة قديمة قدم الوجود الإنساني والمواقف تجاهها متعددة تعدد البشر: هي عند بعض وجود مادي قاهر (نموت ونحيا ولا يفنينا إلا الدهر) وعند بعض أنها وجود متوهم صنعه العقل البشري وأنه مجرد قياس وعند آخرين هو الإله ذاته.
حيرة تكاد تكون عماء مطلقا وهنا يمكن لنا الاستعانة بقولة القديس أوغسطين المشهورة عن الزمن إذ قال “أعرف الزمن جيدا؛ ولكن إن سألني أحد عنه؛ فما أعود أعرفه”. وأستطيع هنا أن أنقل قولته هذه إلى عالم الشعر فأقول: أعرف الشعر جيدا، إلا أني إن سئلت عنه لم أعد أعرفه.
هل الوزن هو معيار الشعر؟ أقول لا فلقد ظهر عبر تاريخ الأدب العالمي شعر خلو من الوزن.
هل فصاحة الكلمات معيار للشعر؟ أقول لا إذ أبقى تاريخ الأدب على قصائد رديئة الكلمات بذيئة التعابير مثل شعر ابن سودون وابن حجاج.
هل الصدق: سواء العاطفي أو الوصفي هو معيار الشعر؟ أقول لا مع أرسطو ومن بعده أبوتمام الطائي.
هل شكل الشعر معيار له؟ أقول لا فأشكاله أو أجساده أكثر من أن تحدد بشكل واحد ويكاد الشعر يكون روحا تتقمص كل الأشكال.
ما الشعر إذن وما معياره؟ أقول: أما معياره فهو ذاته معيار ذاته وأما ماهيته فهو: بصيرة رأت فاندهشت فغابت عن ذاتها وحضرت في الكلمات.
هل نحن عملة يلهو بها الزمن على طاولة القمار/الزمن الذي يخسرنا دون أن يبتئس؟
لا يمكنني أمام هذا السؤال إلا أن أكرّر ما قاله القديس أوغسطين أمام الزمن:
مسبغا قولته تلك عل الشعر فأقول:
إني أعرف الشعر إلا أنني إن سئلت عنه بتّ لا أعرفه!