صيف الأصياف الدامية
كان كل شيء مريباً في تلك الليلة، وقد زادتها ريبة وغموضاً تلك القناديل المضيئة لليلتين، أو ثلاث ليال على التوالي في جهة دون غيرها من سماء بيروت، ما الذي كان يجري جهة المدينة الرياضية؟ لا أذكر من منّا ردّد هذا السؤال، ونحن نطلّ بحذر شديد، من موقعنا في شرفة عالية متابعين ظهور تلك السبطانة الحربية الضخمة لدبابة الميركافا تتحرك في رأس الشارع. تابعنا حركتها المستديرة في انحراف بدا كما لو كانت تلك الفوهة ستستقر علينا، بدت لي كما لو أنها منظار ليلي لباحث عن هدف. تابعنا ذلك سايد وأنا بأنفاس محبوسة من على شرفة البيت الذي آويت إليه في منطقة البريستول صحبة صديقي مخرج السينما، البيت كان لشقيقته وزوجها الغائبين عن لبنان، وقد دعاني لترك بيتي المطل على البحر بجوار الجامعة الأميركية والإقامة معه أياماً، على إثر وصول الدبابات الإسرائيلية إلى قلب بيروت، ريثما تنجلي الأمور، كما قال، وهو يطلق شتيمة لـ21 حظيرة عربية وراء كل جملة تخرج من فمه. ليل بهيم، كله هواجس وترقب، لم أكن ولا سايد، نمنا لأيام، منذ أن انتخب رجل الميليشيا المسيحية المحبوب بشير الجميل رئيساً في جلسة برلمانية لا تقل كابوسية عن كابوس اغتياله. بدا اغتياله بالنسبة إلينا في تلك الجلسة في عتمة شرفة الطابق الأخير، قنبلة أخرى من العيار الذي رجمنا به ذلك الصيف الدامي. وها نحن بعد يومين على سقوط مبنى بيت الكتائب على من فيه، في ذلك الثلاثاء الموحش نترقب ونتابع ولا نتحرك كثيراً خارج البيوت والمكاتب. كانت حركتي بين بضع بنايات متجاورة، بين مبنى مكاتب جريدة السفير، حيث كنت أقضي ليلي أحيانا، والمبنى الذي نحن فيه الآن، وبيت صديقتي هلا بوداغر قرب كوليج البروتستانت. وهي بنايات تقع على خط بصر واحد. والحركة من جانبنا ظلت حذرة حذرا شديداً حتى بعد انسحاب الإسرائيليين من بيروت بوقت طويل تحت وطأة ضربات المقاومة الوطنية اللبنانية التي بدأت فردية وعفوية، ثم تشكلت في جبهة معلنة ولها مرجعيتها السياسية.
أكتب هذه الإشارات وليس في عزمي هذه السنة أيضاً، في أيلول من هذه السنة أن أستعيد تلك الأحداث والوقائع الدامية لسنة 1982 منذ أن بدأ الغزو الإسرائيلي للبنان صبيحة الخامس من حزيران، بقصف عنيف ومتدرج للمدن والبلدان اللبنانية وصولاً إلى بيروت، مروراً بشهور الحصار الثلاثة، وما أعقبها من خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، وحتى الأيام الأولى لوصولي إلى قبرص بعد عام في خريف سنة 1983، وقد عشت في بيروت سنة رافقتها حوادث لا طاقة للذاكرة على استعادتها، ومازلت من عام إلى عام، وإلى اليوم أؤجل فكرة العودة إلى وقائع تلك السنة.
من أين أبدأ عن ذلك الصيف الدامي، وتلك السنة المهولة؟ لطالما تساءلت، ولطالما كان الجواب شاقا عليّ.
شعراء وكتاب ومثقفون آخرون غيري عرب وأجانب كتبوا عن تجاربهم في أيام الحصار؟ بعض ما قرأته كان مُحبطا، وبعضه الآخر لم يكن مرضياً. وهو ما حملني على إيثار الكتابة الوثائقية الرصينة القائمة على البحث والوثيقة التي لا يتناهى إليها الشك (ككتاب بيان نويهض مثلا عن مذبحة صبرا وشاتيلا) على كتابة سردية مبنية على التجربة الشخصية، يغلب عليها ميل أدب ماكر لتكريم الذات حتى عندما يكون الموضوع هو الآخر الذي سيبقى غالبا في تلك الكتابة بلا ملامح حقيقية، وفي أفضل الأحوال بملامح مشوشة، فالوقائع في تلك الكتابة بدت مهمة بمقدار ما هي مفيدة لتظهير صورة الذات الكاتبة في مركز الحدث. ولا ضير أن أشير هنا إلى أنني لطالما فضلت نبرة جان جينيه فيما كتبه عن الفلسطينيين في الأردن وكذلك عن صبرا وشاتيلا على إثر زيارة قصيرة جدا (لساعات) إلى المخيم غداة انكشاف المجزرة، عن جلّ ما قرأته من كتابات عربية في الموضوعات نفسها. شعرت مع تلك الكتابة على شعريتها السردية، وتأملاتها الفلسفية في قراءة الوقائع التراجيدية، بأنها أكثر صدقاً في تعبيرها عن الآلام الإنسانية وربما أكثر بلاغة أيضاً من الكتابات العربية التي توسلت تلك الحوادث ليكون لأصحابها سهم في ذلك المضمار.
ولكن من أين يبدأ كاتب في الكتابة عن خبرة اقتسمها مع آخرين غابوا في الموت والسفر والمجهول، وتشوشت صورهم في الذاكرة؟
***
لطالما أرّقني التفكر في جدوى الكتابة عمّا كان من تلك الوقائع في أصل روافد تجربتي كشاعر، قبل التفكر في تلك الموضوعات، ولطالما ضاعف هذا من عزوفي عن الكتابة السردية. ما حجتنا في أن نكتب لنضيف على ألم الوجود معرفة في الألم؟ أم أننا إذ نكتب إنما نكتب لنحيط أنفسنا بأسباب أقوى للوجود.
لطالما تساءلت عمّا إذا كنا نصيب متعة مّا جراء التفكر أو الكتابة في مصرع إنسان وقد تذكرناه هاج بنا أسف عليه، هل نفعل لنهذب مشاعرنا باستحضاره من غيابه مشفوعا برهافة الشعور لنغذي جمالاً ما فينا، ولربما رغبة في التطهر والسمو، فإذا بنا نتألق في الحزن، إذ نستلهم من هلاك كائن جمالاً، ونشتق، بأنانية الذي نجا، معنى يعنينا نحن ولا يعني ذاك الذي هلك.
وبينما الغائب يمعن في غيابه العدمي، نشتق من مصرعه أفكاراً وتصوّرات حول الوجود والعدم تفيد حضورنا في العالم ولا تنفعه في شيء، فهي لا تسترده من حقيقة الغياب.
هل نكتب لنضيف إلى سجل الآلام وثيقة أخرى؟
أسئلة، لا تني تكرر نفسها، كل مرة في لبوس مختلف.
ما ظل يشغلني طوال صيف 1982، وحتى أيامي الأخيرة التي قضيتها في حمأة الخطر، في بيروت سنة 1983، كان سؤالا عن سلوك المثقف في ساعات الخطر الجماعي، فجّرته وقائع شتى وحكايات سأذكر منها اثنتين الواحدة تعاكس بدلالتها الأخرى إلى حدود قصوى.
الحكاية الأولى سيحضر فيها اسم غالب هلسا. والواقعة الثانية سيحضر فيها اسما فيصل دراج وسعدالله ونوس.
سأروي كلتا الحادثتين لغاية واحدة وهي استخراج الدلالة.
الحكاية الأولى
في اليوم العاشر من تموز اتفقنا الكاتب الروائي غالب هلسا وأنا، ورافقتنا المصورة الصحفية الإيطالية باولا كروتشياني على المضيّ معا إلى خطوط التماس مع الإسرائيليين في منطقة مطار بيروت، حيث تمركزت الدبابات الإسرائيلية في محيط المطار. كانت الغاية من الرحلة كما في كل مرة ذهبنا معاً غالب وأنا لقاء المقاتلين هناك وقضاء وقت معهم في أوقات وقف إطلاق النار والحديث عن أهمية هذه المعركة الفريدة في بيروت، وأثرها على مستقبل القضية الفلسطينية ومستقبل حركة التحرر العربية، بل والكفاح العالمي من أجل التحرر والمساواة، وقد كان ذلك المربع العاصي الأخير في المشرق العربي يعج بوجوه النشطاء والمكافحين العالميين من اليابان وحتى ظفار وكانوا في حماية الثورة الفلسطينية المتحالفة مع الحركة الوطنية اللبنانية. وكما ظل غالب يردد في كل مرة بلكنته المصرية المحببة المشوبة بشيء من الشامية: يجب أن يشعر الشباب والفتيات المدافعون عن بيروت أننا وهم في خندق واحد ولا توجد أيّ فجوة بين حامل السلاح وحامل القلم. في ذلك اليوم كانت الطرقات شبه مقفرة، إلا من المقاتلين والصحافيين والمسعفين، من محيط الجامعة الأميركية وحتى منطقة بربور حيث ينتظرنا د. جميل هلال في مبنى تابع لإعلام الجبهة الديمقراطية، ليوفر لنا عربة عسكرية تقلنا إلى مقصدنا عبر طرق التفافية يسلكها المقاتلون. من هناك انطلقنا في ضحى مشمس ورطوبة خانقة وسط تشكك هلال في أن تكون رحلتنا آمنة، وكان محقاً، لأن وقف إطلاق النار في ذلك اليوم كان عرضة لأن يسقط في أيّ لحظة.
في الدشمة التي استقبلنا فيها قائد الكتيبة التابعة للجبهة الديمقراطية بقامة مديدة وابتسامة بشوشة، رحب بمقدمنا وعرفنا بنفسه (م)، وأخبرنا أن الوضع هش.. وهو لا ينصح بجولة واسعة ولا ببقائنا طويلاً في الموقع. وقبل أن نقوم بجولتنا على المقاتلين، سأل القائد مساعده: هل رجع جمال من مهمته؟ أجاب الشاب نعم. إذن، أضاف: عندما تخرج مع الأساتذة في الجولة على الشباب خلّ جمال، لو عنده مزاج، يأخذ معه الغيتار. ثم اقترح أن نشرب الشاي، أولا، لأن مساعده هذا، وكان اسمه ناصر، يعد الشاي بطريقة رائعة. هز الشاب النحيل الطويل رأسه مبتسماً، وتناول من ركن قريب إبريقاً فضياً وخرج… لم يطل الحديث الذي دار بيننا وبين القائد عن مجريات الأيام الأخيرة في اشتباكات المقاومين مع العدو المتمركز في المطار، أكثر من دقائق معدودات، عندما فجأة ارتجّ الموقع كما لو أن زلزالاً وقع.. وقبل أن نعي ما وقع، كان القائد قد خرج من الموقع مسرعا، ونظرنا في وجوه بعضنا.. ها نحن، إذن، في قلب التجربة!
وعندما سيعود القائد، سيدخل وراءه إلى الدشمة شابان مسلحان بالكلاشنكوفات سنرى في الوجوه خبراً صمتت عنه، خرجنا من الدشمة عبر الخندق الذي جئنا منه، وأصوات القذائف، والانفجارات قريبة وبعيدة.. تلعلع. واضح أن الإسرائيليين أنهوا وقف إطلاق النار على نحو مفاجئ متعللين بإطلاق نار وقع في واحدة من الجبهات القريبة كما سوف يعلنون لاحقاً. قبل أن يودعنا القائد ويصحبنا الشابان عبر السواتر الترابية وصولا إلى طريق تمر من وراء أبنية ساترة حيث تنتظرنا عربة ستعود بنا إلى قلب بيروت، قال: ناصر أعطاكم عمره، استشهد. ولم يضف كلمة!
فيما بعد سنعرف أن القذيفة نزلت في الشاب وهو يجوز المسافة المكشوفة بين الدشمة والخندق عندما دوهم بالقصف، محاولا الوصول إلى موقع آخر محصن، لكن سوء الطالع حمله من عالم إلى عالم، وأورثنا شعوراً بالذنب سوف لن أشفى منه أبداً. كانت الإصابة مباشرة.
لم تتمكن باولا كروتشياني في ذلك اليوم من التقاط صور للإسرائيليين وآلياتهم لا في مطار بيروت، ولا في مواقع أخرى مطلة على منطقة الرويس، هي التي سوف يقيّض لها أن تلتقط بعد أسابيع قليلة بعض أشهر الصور التي نشرت للوقائع الفاجعة في صبرا وشاتيلا. لم تعد، هناك قصة يمكن أن تضاف إلى حكاياتنا في الحصار سوى تلك القصة الأليمة.
الحكاية الثانية
في يوم من أيام الحصار، قبل أن يشتد على المدينة من البر والبحر والجو، ويقفل الطريق تماماً بين بيروت ودمشق، وكنت في تلك الأيام متطوعاً في الهلال الوطني اللبناني، وأقضي الليل في بيت صديقي فيصل حوراني في منطقة الصنوبرة، قال فيصل: لمى ولينا تصران على البقاء معي هنا حتى النهاية. لا أستطيع أن أمنعهما لكنني لا أفضل أبداً أن تبقى ليلى (11 سنة)، إنها صغيرة على المفاجآت القاسية. غداً ستمر سيارة تحمل راكبين مسافرين إلى الشام، ستذهب لتقيم مع أمها هناك.
في صباح اليوم التالي، نزلنا فيصل وأنا برفقة ليلى مودعين، كانت متعلقة بفكرة البقاء معنا، وكانت صديقتي المحبوبة. وبينما كنا نودعها صوّرت مخيلتي الدرامية اللحظة على أننا نرسل من قلب جحيم الموت روحا ناجية ستكون رسالتنا إلى المستقبل.
في المقعد الخلفي من العربة، لاح لي وجهان لشخصين سرعان ما تبينت هويتهما. وشكل لي ذلك مفاجأة صادمة. سمعت وعرفت بوصول العديد من الطلاب والمتطوعين الذين سارعوا وبعضهم بطرق مبتكرة للوصول إلى بيروت للمشاركة في الدفاع عن المدينة، وكان بينهم مثقفون، وهأنذا أفاجأ بمثقف يريد أن ينجو بنفسه من احتمالات الأذى والموت. سأندم بعد حين بسبب الجملة الساخرة التي أطلقتُها وعينان تنظران في ذلك المسافر نظرة متشفية: ليلى، حبيبتي، ديري بالك على عمو فيصل! كان ذلك الشخص هو الناقد الفلسطيني فيصل درّاج. ربما يكون هذا التفكير قاسياً، ولكن لا بد أن أعترف أنه مذ ذاك ارتبط اسم هذا الشخص وصورته في مخيلتي بفكرة المثقف الهارب من المعركة.
الوجه الآخر في تلك العربة كان وجه سعدالله ونوس، أقنعني فيصل حوراني بعد انصراف العربة، بأن سعدالله مريض في معدته، وليس لديه القدرة على اختبار توتر شديد أو مواجهة أوقات صعبة، ثم ليس لديه هنا في بيروت ما يفعله. لكنه لامني بشيء من الخبث المحبب على الجملة التي رميتها في وجه سميّه الهارب من اختبار المسافة بين الكلمة والموقف.
***
اليوم أعرف، بعد أربعين عاماً على ذلك الصيف، أكثر عن السبب الذي جعلني في كل مرة أرجئ الكتابة في تلك التجربة/المنعطف التي عشتها في بيروت خلال سنتي 1982 – 1983. إنما لو شرعت في الكتابة يوماً عن ذلك الصيف الدامي، فلن يبدأ السطر الأول إلا من فكرة الحب، من تلك النظرة التي التمعت في عيني عبدالرحمن بسيسو الواقف بباب قاعة المشفى الميداني يرقب حركة العربة الطبية تنقل قطعة الشاش البيضاء وعليها ذلك الخاتم الذي سيقدمه مقاتل جريح للفتاة التي سهرت في جوار سريره، ليلمع ذلك الخاتم في اليد التي طببت جراحه.
قصيدتان في ضوء ذلك اللهب:
موتُ صَيف
انتهى الصَّيفُ
الدَّمُ يصعدُ الأدراجَ
ويذهبُ في الغُرف
والشَّراشِف التي ما مُسَّتْ
سَوَّتها يَدٌ
هناك.
الدَّمُ حَبَّاتٌ تَلْمَعُ.
II
انْتهى الصَّيفُ
ما تَرَكَ ليَ الحُبُّ حَبيباً
قلبي نَزَّلني إليكَ
لنْ أكون في إثْرِكَ
لا أَثَرَ لكَ.
نومي يراني
ويراك.َ
أَصْرُخُ عليكَ
إنْ مُتُّ
أَصْرُخُ إليكَ، إليكَ يَذهَبُ صوتي
ويصوِّرني في هدْأَتي
وحيداً
في الأرضِ
ونومي أبيضُ ومَديد.
III
الليلةَ رأيتُ بابَ غُرْفَتِكَ مفتوحاً
في سريركَ ملاكٌ
ونومٌ
يَحْرُسُ الملاكَ
وصبيانٌ
كانوا يرفعونَ السَّرير.
العاصفة
في انتظارِ العاصفةِ
تأكلُ ملاعبَ الموتى ومنازلَ السُّكون؛
لي مركبٌ
ومسارٌ هائمٌ
كأسيَ تطفو
وقريباً يفتَحُ البحرُ نوافِذَهُ
كأسٌ وتابوتٌ
ومنزلٌ شرُفاتُه عَدَمٌ.
في انتظار العاصفة
يسألُ الملكُ المراكبَ عن جزائِرهِ الضائعة..
ومن السِّر إلى العلنِ
تخرجُ المساكنُ، هياكلُ المحبِّين، أنّاتُ جراحِ الصِّبْيَةِ،
أعمدةُ الحجرِ، خوذاتُ المحاربين،
الزرائبُ، البلْطاتُ، المصابيحُ..
خليطٌ من عصفٍ وطَميٍ
والماءُ الذي أفسدَ الخليقةَ
يَفْسُدُ
من
جُرْعَةٍ أخيرةٍ
في الكأس.
لندن في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2022