طائر الفينيق يرقص مذبوحاً من الألم
انفجر مرفأ بيروت، وصلت شظايا الانفجار إلى كل دول العالم ومدنه وقراه وقلوب سكانه، لم يبكِ أحد من المفجوعين حول العالم مرفأ بيروت الوسيط الاقتصادي وممر عبور البضائع بين الغرب والشرق، بل بكوا بيروت لؤلؤة المتوسط، هذه المدينة الماردة المتمردة الصابرة الصامتة الرافضة لكل أشكال الموت والناهضة أبداً من الدمار، المبتسمة للعالم رغم الألم.
لم يكن مرفأ بيروت عبارة عن منفذ بحري يضم مجموعة أرصفة إسمنتية ترسو عليها السفن ولا هو مركز لرافعات حديدية تنقل محتوى الحاويات من البواخر إلى البر، هذا المرفأ شكّل على مرّ العصور جزءاً من ذاكرة بيروت وتاريخها، وكان عبارة عن نافذة بيروتية على المتوسط ومنه على العالم، هذا المرفأ الذي ارتبط وجوده بوجود الإنسان الذي عاش على هذه البقعة من الأرض منذ الفينيقيين وحتى اليوم، ومن خلاله انطلقت موجات الهجرة اللبنانية إلى كل بقاع الأرض، وشهدت أرصفته ملايين اللحظات الإنسانية المؤثرة وداعاً واستقبالاً لأحبة غادروا ولم يعودوا أم عادوا بعد عشرات السنين من الغربة، هذا المرفأ شكل رمزاً لانفتاح الشخصية اللبنانية على موجات ثقافية وحضارية عالمية وتفاعلها معها حتى تمكنت هذه الشخصية المتميزة من حجز موقع متميز بين شعوب العالم المتحضر، هذا المرفأ ليس مركزا للتبادل التجاري فحسب، بل هو جزء من هوية لبنان المنفتح المهاجر المتفاعل مع العالم والذي لا يمكن أن ينغلق على ذاته أو يتقوقع في إطار ضيق لا يشبه تاريخه ولا صفات شعبه.
مرفأ بيروت الذي عصفت به أطنان المتفجرات الظلامية التي أرادت اغتياله ومن خلاله اغتيال صيغة لبنان وتميزه عن محيطه، هذا الانفجار وبالرغم من حجم الدمار الذي خلّفه لن يحقق هدفه، فالتدمير المادي للإسمنت والأبنية والحديد والفولاذ لا يقتل روح المرفأ ولا ينهي حياته التي تعود إلى أكثر من 7000 عام من الحياة المفعمة بالذكريات والتاريخ والتفاعل الإنساني، والتي تجلت في صمود سكان هذه البقعة من الأرض في وجه كل الموجات التي تكسرت على شواطئها وعادت خائبة.
أن تنتمي إلى بيروت الفكرة قبل الأرض هو في حد ذاته مصدر فخر واعتزاز، بيروت لا تشبه مدينة أخرى من مدن العالم، هي ليست أجملهن ولا أكثرهن راحة وتقدما وعصرية، وليست أكثرهن عراقة، لكنها متميزة عن كل مدن العالم وعواصمه، هي الفوضى والنظام في آن، هي الخير والشر متحدان متفاعلان في تركيبة غريبة عصية على الفهم، هي الانفتاح والتقوقع، هي الحرية المفرطة والتدين الأعمى، هي الجنون والحكمة، هي مجموعة متناقضات تشبه شخصية الإنسان الحر الحالم المتمرد الرافض للواقع وللحدود وللقواعد والأطر مهما كان نوعها. بيروت مدينة لا تشبه إلا نفسها. تكرهها ولا تقدر على مغادرتها، تلعنها وتقدسها، هي امرأة جميلة متعبَة ومتعِبة، مزاجية إلى حد اللعب على حد السيف دائماً، لا أحد من محبيها وساكنيها يعرف لماذا يعشقها ولا أحد يملك الإجابة على هذا السؤال اللغز.