طبائعُ المعذَّبين ومَصارعُ الموهومين
الكواكبي: بلغني من قبري الضائع في متاهات الجغرافيا، أن الاستبداد الشرقي استفحل وعمّ وفاض حتى بلغ في صوره ما يجعل كتابي “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” أعجز من أن يصف ما جرى ويجري في المشرق العربي بعد أكثر من قرن على اغتيالي.. هل هذا ما حدث حقاً؟
* هذا ما حدث فعلا. ولكن هل لنا يا نقيب الأشراف في حلب أن نستأنس بأفكارك في الإضاءة على ما آلت إليه أحوالنا في دنيا العرب؟
الكواكبي: أنا مفكر ولست نقيباً لأحد.
* وصفت المستبد بأنه “وصي خائن على أيتام أغنياء” ولكن بم تصف أسرى الاستبداد وهم يهربون من مواجهة الحقائق الاجتماعية إلى عطالة التوكل على الله في تديّن يقصر العقيدة على الركوع والسجود؟
الكواكبي: الاستبداد ريح صرصر، فيه إعصار يجعل الإنسان كل ساعة في شأن، وهو مفسد للدين في أهم قسميه أي الأخلاق، وأما العبادات منه فلا يمسها لأنها تلائمه في الأكثر. والأمر الغريب، أن كل الأمم المنحطة من جميع الأديان تحصر بلية انحطاطها السياسي في تهاونها بأمور دينها، ولا ترجو تحسين حالتها الاجتماعية إلا بالتمسك بعروة الدين تمسكا مكينا، ويريدون بالدين العبادة.
تبقى الأديان في الأمم المأسورة عبارة عن عبادات مجردة صارت عادات فلا تفيد في تطهير النفوس شيئا، ولا تنهى عن فحشاء ولا منكر لفقد الإخلاص فيها تبعا لفقده في النفوس، التي ألفت أن تتلجّأ وتتلوى بين يدي سطوة الاستبداد في زوايا الكذب والرياء والخداع والنفاق، ولهذا لا يستغرب في الأسير الأليف تلك الحال، أي الرياء، أن يستعمله أيضا مع ربه، ومع أبيه وأمه ومع قومه وجنسه، حتى ومع نفسه.
أما أسير الاستبداد، فيعيش خاملا خامدًا ضائع القصد، حائرًا لا يدري كيف يميت ساعاته وأوقاته ويدرج أيامه وأعوامه، كأنه حريص على بلوغ أجله ليستتر تحت التراب.
الأسير المعذب المنتسب إلى دين يسلّي نفسه بالسعادة الأخروية، فيعدها بجنان ذات أفنان ونعيم مقيم أعده له الرحمن، ويبعد عن فكره أن الدنيا عنوان الآخرة، وأنه ربما كان خاسر الصفقتين، بل ذلك هو الكائن غالبًا.
وهكذا يعيش الأسير من حين يكون نسمة في ضيق وضغط، يهرول ما بين عتبة همّ ووادي غمّ، يودّع سقمًا ويستقبل سقمًا إلى أن يفوز بنعمة الموت مضيعًا دنياه مع آخرته، فيموت غير آسف ولا مأسوفًا عليه.
وعليه فإن الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية.
* كيف للأمة أن تغادر هذه الحال وتتجاوز هذا المحال؟
الكواكبي: بالتربية. والتربية المطلوبة هي التربية المرتبة على إعداد العقل للتمييز، ثم على حسن التفهيم والإقناع، ثم على تقوية الهمة والعزيمة، ثم على التمرين والتعويد، ثم على حسن القدوة والمثال، ثم على المواظبة والإتقان، ثم على التوسط والاعتدال،
الوسيلة الوحيدة الفعّالة لقطع دابر الاستبداد هي ترقّي الأمة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يتأتّى إلا بالتعليم والتحميس. ثم إن اقتناع الفكر العام وإذعانه إلى غير مألوفه، لا يتأتى إلا في زمن طويل.
* هناك من يرى أن ترقّي الأمة ليكون في وسعها أن تقف على قدم المساواة بين الامم الاخرى هو في التحرر من أشباح الماضي تماما، وغيرهم يرى في التمسك بالأصول سبيلا، والصراع بين الطرفين على أشده، فما العمل؟ وماذا تقول لأولئك الأصوليين الناقمين على الحاضر، المنادين بالرجعة إلى الماضي متوهمين أن هناك أصلا يمكن الاحتكام إليه في كتابة دستور الحاضر ووضع تصور للمستقبل، ماذا تقول لهم وقد غزوا شوارع الانتفاضات العربية وساهموا في إحباطها وتسليمها لمن هم أسوأ من سابقيهم من المستبدين؟
الكواكبي: أقول لهم، أنتم بعيدون عن مفاخر الإبداع وشرف القدوة، مبتلون بداء التقليد والتبعية في كل فكر وعمل، وبداء الحرص على كل عتيق كأنكم خلقتم للماضي لا للحاضر: تشكون حاضركم وتسخطون عليه، ومن لي أن تدركوا أن حاضركم نتيجة ماضيكم، ومع ذلك أراكم تقلدون أجدادكم في الوساوس والخرافات والأمور السافلات فقط، ولا تقلدونهم في محامدهم!
وما أراه أن الدين يؤثّر على الترقي الإفرادي ثم الاجتماعي، تأثيرًا معطلا كفعل الأفيون في الحس، أو حاجبًا كالغيم يغشى نور الشمس. لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد المختصة ما بين الإنسان وربه، لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة. ولا يخاف من الماديين لأن أكثرهم مبتلون بإيثار النفس، ولا من الرياضيين لأن غالبهم قصار النظر.
والحقيقة أن فرائص المستبد ترتعد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع والسياسة المدنية والتاريخ المفصل والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرّف الإنسان ما هي حقوقه.
ولو جازت عبادة غير الله لاختار العقلاء عبادة الإرادة! هي تلك الصفة التي تفصل الحيوان عن النبات في تعريفه بأنه متحرك بالإرادة. فالأسير (أسير الاستبداد) إذن دون الحيوان لأنه يتحرك بإرادة غيره لا بإرادة نفسه.
* المستبدون العرب اجتهدوا في اضطهاد شعوبهم حتى أتوا على جميع الصفات التي ابتكرتها للمستبدين. أما المثقفون فقد كانوا أعجز من أن يتمثلوا جموحك الفكري بالرسالية التي طالبتهم بها ليكونوا مفكرين أحراراً. والآن فإن السؤال المعلق في فضاء المثقفين العرب هو: لماذا تعثر الربيع العربي ويكاد يكون الجواب: إنه “الاستبداد الشرقي”. يكاد المرء يصدق مقولات المستشرقين عن الفرق الجوهري بين الشرق والغرب؟
الكواكبي: لنعترف أن بين الشرقيين والغربيين فروقا كثيرة، قد يفضل في الإفراديات الشرقي على الغربي، وفي الاجتماعيات يفضل الغربي على الشرقي مطلقا. مثال ذلك: الغربيون يستحلفون أميرهم على الصداقة في خدمته لهم والتزام القانون. والسلطان الشرقي يستحلف الرعية على الانقياد والطاعة! الغربيون يمنون على ملوكهم بما يرتزقون من فضلاتهم، والأمراء الشرقيون يتكرمون على من شاؤوا بإجراء أموالهم عليهم صدقات! الغربي يعتبر نفسه مالكا لجزء مشاع من وطنه، والشرقي يعتبر نفسه وأولاده وما في يديه ملكا لأميره! الغربي له على أميره حقوق وليست عليه حقوق، والشرقي عليه لأميره حقوق وليست له حقوق! الغربيون يضعون قانونا لأميرهم يسري عليه، والشرقيون يسيرون على قانون مشيئة أمرائهم!
أخيراً أقول لك: الربيع لا يتعثر، الربيع يأتي ويذهب، ثم يذهب ويأتي. كان “يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد”.
* ما يشغلني هو رؤيتك للاستبداد وسبل مقاومته والفرصة الضائعة بين زمن تشكل رؤيتك سنة 1900 وبين اللحظة العربية الحاضرة. قلت إن “الاستبداد لا يقاوم بالشدة إنما يقاوم باللين والتدرج”. لكن الشرق عرف استبداداً لم ينفع معه لا اللين ولا الشدة في المواجهة!
الكواكبي: هذا سببه اختلاف الأزمان والأحوال. والمشكلة، وهو ما وقع لكم، أنك “قد تقاوم المستبد بسوق مستبد آخر تتوسم فيه أنه أقوى شوكة من المستبد الأول، فإذا نجحت لا يغسل هذا السائق يديه إلا بماء الاستبداد فلا تستفيد أيضًا شيئًا، إنما تستبدل مرضًا مزمنًا بمرض حدّ، وربما تنال الحرية عفوًا فكذلك لا تستفيد منها شيئًا لأنها لا تعرف طعمها فلا تهتم بحفظها، فلا تلبث الحرية أن تنقلب إلى فوضى، وهي إلى استبداد مشوش أشد وطأة كالمريض إذا انتكس (..) الحرية التي تنفع الأمة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، وأما التي تحصل على إثر ثورة حمقاء فقلما تفيد شيئًا، لأن الثورة غالبًا تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها، فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوى مما كانت أولا”.
* أين جوهر المشكلة إذن، في خلاصة لا تخل؟
الكواكبي: المشكلة أن “الأمة إذا ضربت عليها الذلة والمسكنة وتوالت على ذلك القرون والبطون، تصير تلك الأمة سافلة الطباع حتى إنها تصير كالبهائم، أو دون البهائم، لا تسأل عن الحرية، ولا تلتمس العدالة، ولا تعرف للاستقلال قيمة أو للنظام مزية، ولا ترى لها في الحياة وظيفة غير التابعية للغالب عليها، أحسن أو أساء على حد سواء، وقد تنقم على المستبد نادرًا ولكن طلبًا للانتقام من شخصه لا طلبًا للخلاص من الاستبداد. فلا تستفيد شيئًا إنما تستبدل مرضًا بمرض كمغص بصداع.
* هل تظن أن من بين أسباب نكوص العرب وتخلّف مجتمعاتهم عن ركب الحضارة الحديثة هو في هزال فكرتهم عن الشراكة المجتمعية، حتى تحوّل كل شخص في مجتمعه إلى جزيرة، وهو ما سمح لمجموع الأفراد أن يتحولوا عند الحاكم إلى قطيع في حظيرة؟
الكواكبي: يكفي الأمة رقيًّا أن يجتهد كل فرد منها في ترقية نفسه دون أن يفتكر في ترقي مجموع الأمة. فإذا رأينا في أمة آثار حركة الترقي هي الغالبة على أفرادها، حكمنا لها بالحياة، ومتى رأينا عكس ذلك قضينا عليها بالموت.
* في حلب، وفي جوار البيت الذي شهد ولادتك ونشأتك، وفي الشوارع والأزقة التي طرقتها بقدميك، وأنت تتفكر في حال الأمة، وتكتب كتابك “طبائع الاستبداد” نهض النسل الذي تحدر من فكرك، ثار وهتف طلباً للحرية: الموت ولا المذلة، لكنه ووجه برصاص المستبد الذي أعياه ضعفه فطلب الغزاة لينتصر على طالبي الحرية من شعبه، وهكذا أخضع المدينة، وأخضع شعبه هل فكرة الخلاص من الاستبداد مجرد فكرة نخبوية؟
الكواكبي: أبداً، لكن الاستبداد محفوف بأنواع القوات التي فيها قوة الإرهاب بالعظمة وقوة الجند، لاسيما إذا كان الجند غريب الجنس، وقوة المال، وقوة الإلفة على القسوة، وقوة رجال الدين، وقوة أهل الثروات وقوة الأنصار من الأجانب.
* أليست هذه دعوة إلى اليأس من إمكان الخلاص؟
الكواكبي: أبداً، إنما للخلاص شروط: إذا وُجد في الأمة الميتة من تدفعه شهامته للأخذ بيدها والنهوض بها فعليه أولا أن يبث فيها الحياة وهي العلم، أي علمها بأن حالتها سيئة وإنما بالإمكان تبديلها بخير منها، فإذا هي علمت يبتدئ فيها الشعور بآلام الاستبداد. ثم يترقى هذا الشعور بطبعه من الآحاد إلى العشرات، إلى إلى …، حتى يشمل أكثر الأمة.
* في عرفك أن الإنسان يطلب الحرية عندما يمتلك الإرادة، ولكن من هو الإنسان ذو الماهية المتحققة الكفؤ للحرية في نظرك؟
الكواكبي: هو الشخص الذي يهتف بملء صوته: أنا إنسان الجد والاستقبال لا إنسان الماضي والحكايات. ويكون (هذا) الإنسان حرا مستقلا في شؤونه كأنه خلق وحده.
* ما الصفة التي تعطيها للفرد لتستدل من خلاله على مجتمع يمكن أن يحترم حقوق الأفراد ويسمح لماهياتها في التحقق والتفاعل مع الماهيات الأخرى بحرية واقتدار؟
الكواكبي: إنه الشخص الذي يردد: أنا مستقل لا أتكل على غير نفسي وعقلي.
أمين على الحرية، كأنه خلق وحده على سطح هذه الأرض، فلا يعارضه معارض فيما يخص شخصه من دين وفكر وعمل وأمل.
أمين على المزية، كأنه في أمّة يساوي جميع أفرادها منزلة وشرفًا وقوة، فلا يفضل هو على أحد ولا يفضل أحد عليه، إلا بمزية سلطان الفضيلة فقط.
* وكيف يمكن للأفراد والجماعات حتى إذا امتلكوا الإرادة امتلاك عناصر القوة وعلى رأسها المال وهو محرك كل شيء وهذا يحتكره المستبدون؟
الكواكبي: القوة مال، والوقت مال، والعقل مال، والعلم مال، والدين مال، والثبات مال، والجاه مال، والجمع مال، والترتيب مال، والاقتصاد مال، والشهرة مال، والحاصل كل ما ينتفع به في الحياة هو مال.
ولم تكن قديما أهمية للثروة العمومية، أما الآن وقد صارت المحاربات محض مغالبات علم ومال، فأصبحت للثروة العمومية أهمية عظمى لأجل حفظ الاستقلال، على أن الأمم المأسورة لا نصيب لها من الثروة العمومية بل منزلتها في المجتمع الإنساني كأنعام تتناقلها الأيدي.
* هناك قبل السؤال عن مصادر القوة التي يحتاجها المظلومون لدفع الظلم عنهم والتحرر من قيود الاستبداد، وبعد هذا السؤال أسئلة عصية حار المثقفون العرب بها حول العلاقة بين الأفراد والمنظومة التي تشكل مجتمعاتهم، وهي إشكالية تتمثل في تخبط النخب العربية في حيرة الأجوبة المتعددة وتشوش الفكر في تعريف الحقوق والواجبات؟
الكواكبي: لقد سبق لي أن طرحت هذه الأسئلة وأجبت عنها: ما هي الأمة أي الشعب، هل هي ركام مخلوقات نامية، أو جمعية عبيد لمالك متغلب وظيفتهم الطاعة والانقياد ولو كرهًا، أم هي جمع بينهم روابط دين أو جنس أو لغة، ووطن، وحقوق مشتركة، وجامعة سياسية اختيارية، لكل فرد حق إشهار رأيه فيها. هل هي سلطة امتلاك فرد لجمع، يتصرف في رقابهم، ويتمتع بأعمالهم ويفعل بإرادته ما يشاء، أم هي وكالة تقام بإرادة الأمة لأجل إدارة شؤونها المشتركة العمومية؟
وهل الحكومة تملك السيطرة على الأعمال والأفكار، أم أفراد الأمة أحرار في الفكر مطلقًا، وفي الفعل ما لم يخالف القانون الاجتماعي، لأنهم أدرى بمنافعهم الشخصية، والحكومة لا تتدخل إلا في الشؤون العمومية؟ هل يُنتظر ذلك من الحكومة ذاتها، أم نوال الحرية ورفع الاستبداد رفعًا لا يترك مجالا لعودته من وظيفة عقلاء الأمة وسراتها!؟
* أنت تردّ كل شيء في حياة الأفراد والجماعات إلى النشأة والتربية، هل تظن أن الشرقيين والعرب المحكومين اليوم بالاستبداد لم ينالوا في نشأتهم تربية حسنة؟
الكواكبي: التربية التي هي ضالّة الأمم وفقدها هو المصيبة العظمى، التي هي المسألة الاجتماعية حيث الإنسان يكون إنسانًا بتربيته، وكما يكون الآباء يكون الأبناء، وكما يكون الأفراد تكون الأمة.
ومن أين لأسير الاستبداد أن يكون صاحب ناموس وهو كالحيوان مملوك العنان، يقاد حيث يراد، ويعيش كالريش يهبّ حيث تهبّ الريح، لا نظام ولا إرادة؟
ويستغرب في الأسير الأليف تلك الحال، أي الرياء، أن يستعمله أيضا مع ربه، ومع أبيه وأمه ومع قومه وجنسه، حتى ومع نفسه.
* اليوم، ونحن في الألفية الثالثة، وقد استقرت حقوق الأفراد أولا في دساتير الأمم، ومن ثم في التشريعات والسلوك والبنيان ما السبب في ضياع الذات وافتقادها لماهيتها في مجتمعاتنا العربية؟
الكواكبي: قد قبل الناس من الاستبداد ما ساقهم إليه من اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع، والمشتكي المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين. وقد اتبع الناس الاستبداد في تسميته النصح فضولا، والغيرة عداوةً، والشهامة عتوّا، والحمية حماقةً، والرحمة مرضا، كما جاروه على اعتبار أن النفاق سياسة، والتحيل كياسة، والدناءة لطف، والنذارة دماثة.
وقد يظن بعض الناس أن للاستبداد حسنات مفقودة في الإرادة الحرة، فيقولون مثلا: الاستبداد يليّن الطباع ويلطفها، والحق أن ذلك يحصل فيه عن فقد الشهامة لا عن فقد الشراسة.
ويقولون هو يقلل التعديات والجرائم، والحق أنه يمنع ظهورها ويخفيها فيقلّ تعديدها لا عدادها.
والعوام هم قوّة المستبد وقوته. بهم عليهم يصول ويطول؛ يأسرهم، فيتهللون لشوكته؛ ويغصب أموالهم، فيحمدونه على إبقائه حياتهم؛ ويهينهم فيثنون على رفعته؛ ويغري بعضهم على بعض، فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف في أموالهم، يقولون كريم؛ وإذا قتل منهم ولم يُمثل، يعتبرونه رحيما؛ ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ؛ وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة.
إن خوف المستبد من نقمة رعيته أكثر من خوفهم بأسه، لأن خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقه منهم؛ وخوفهم ناشئ عن جهل؛ وخوفه عن عجز حقيقي فيه، وخوفهم عن وهم التخاذل فقط؛ وخوفه على فقد حياته وسلطانه، وخوفهم على لقيمات من النبات وعلى وطن يألفون غيره في أيام؛ وخوفه على كل شيء تحت سماء ملكه، وخوفهم على حياة تعيسة فقط.
أصل الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية.
جميع الأجوبة بالنص الحرفي من كتاب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” لعبدالرحمن الكواكبي المكتوب في حلب والمنشور سنة 1900.