طربيات

الجمعة 2019/03/01
لوحة: كادي مطر

رعشة الزار

 

طار من بين أيديهم، استطاع التحليق وسط الجموع المشدودة ببعض، وهي تنظر إليه بدهشة وذهول، من انحناءات جسده الناحل وانعطافه يمنة ويسرة، متسائلة كيف استطاع فك ذراعيه من أذرعتهم المتماسكة، إلا أن السؤال طار مع أصوات الغناء المتردد صداه بلحن سامري أخاذ، وخفق الأيدي يشد الدفوف الساخنة، ونغمات (الأورج) تعلي الطرب طربا، وتأتي كلمات أحدهم بآهات معلنة عن تفرد رقصه المثير: ما يحرك الزار إلا سامري الوادي!

تراقص الدف بين أيديهم السمراء

وقفتُ في آخر الصفوف، بعد أن انجذبتُ إلى صوت أطرب له مساء كل خميس، حين أمرُ بقصر أفراح قريب من بيت صديق أزوره بين وقت وآخر، أحسستُ بسيطرة الراقصين من كل صوب يتجه إليه نظري، ولكل راقص أسلوبه وإيقاعه الطربي، فجأة شعرت أن قدمي اللتين تحملانني تهتزان، حاولت الاستطلاع ثم التراجع للوراء، وإذا بي محاصر بآخر من خلفي يهتز كالأول، ثم دوت أصوات لا أميزها، فهب آخرون نحوهما لحملهما إلى وسط ساحة اللعب، وسط الإيقاعات والطبول والدفوف، وخفق أيديهم بسامري لم أرَ له مثيلا.

زعـــــفران

هللتْ لمرأى منارات الحرم، وزاد عليها بحوقلته مسترجعا حين وصل بوابته الكبيرة، كانت خطواته مرتبكة رغم تأبطها ذراعه، وكانت مطمئنة رغم إحساسها بقلقه، بعد تجاوزهما الباب وحراسه خرقت سمعه كلمات تأمرهما بالبعد عن الاختلاط، ولكل جنس مصلى، همهم بصوت خافت:

- الحمد لله.. إذن ستكون صلاتي أكثر اطمئنانا!

كن يحطن به من كل جانب بكل الألوان والأشكال والأزياء، لم يستطع غض بصره وقلبه، لم تهدأ له شاردة، وطفق ُيكثر من الحركة والاستدارة، ولسانه يلهج تعوذا من الشيطان الرجيم، أخذت شريكته تلومه على التصابي ويدها تضغط على يده، ترك يدها كي تلج بين النساء في مكانهن. خطا باحثا عن مكان يبعده عنهن، كلما تقدم وتوقف ليشرع في صلاته مرت من أمامه امرأة مختلفة، حاول تغيير مكانه فتذكر رغبتها بعدم الابتعاد عن مكانها، وصلت خطواته إلى مكان ضيق بين ثلاثة أعمدة، استعد لأداء الصلاة فرفع يديه مكبرا، لحظتئذ اختلست عيناه النظر بعد رؤيتهما ساريا فضفاضا  زاهي الألوان، وقد لعب به الهواء من كل جانب فكشف له عن جسد رخامي، توقف وعادت الحوقلة إلى لسانه….

- يا الله.. ماذا أفعل أمام إغرائهن لي؟ كيف أطفئ قلبي وناره المضطرمة؟ كيف أغمض نورهن ووهجه البراق؟ آه.. هي لا تعلم شيئا عن الكثير من مواقفي وأيامي في هذا الحرم الجميل! لا تعرف إلا بعض الحكايات التي رويتها عن حجي وزيارات العمرة! يا الله لن أنسى أبدا أول امرأة علمتني تمازج الروح مع الجسد أمام بيته المعظم أثناء الطواف وقد انسحقت غريزتي الشهوانية تماما برغم تشابك جسدينا كالأطفال، بل وتلك الفاتنة المتجللة بتشادورها الأبيض وقد انحسرت بعض أطرافه، فرأيت ملاكا أنساني الصلاة والعبادة والحرم، ولبثت جامدا قبالتها سابحا في ملكوت الله وإبداعه الفاتن، يا الله هكذا جميلات النساء لا يجتمعن إلا في حرمه الطاهر.. وكأنهن يعلمن عن مجيئي إليه؟ وعن طفح الحسنات لدي! يا الله هل أنسى تلك التي تقرفصتْ مع صاحبتها فوق جدار قصير في المسعى، كي تقص قدر أنملة من شعرها فتكشف كل جمالها وقد تقرفصتُ أمامهما متأملا القاصة والمقصوصة، يا الله ماذا سأذكر وماذا سأنسى.. لا حصر لهن ولفتنتهن ولآثامهن يا إلهي رحماك وغفرانك فأنا مأسور إليهن وإلى جمالهن، إلهي أنقذني من معصيتك وقد كنت خائفا من زيارة الحرم لولا كثرة إلحاحها برغبة الزيارة!  أنا لا أريد تكرار ذنوبي هنا وحاجتي لطاعتك أكثر!

استدرك الوقت بعد شرود تمدد في ذاكرته، مسح وجهه مع تكراره على عينيه، وقف رافعا يديه للمرة الثالثة بعد اطمئنانه لضيق الزوايا المفضية لساحات الحرم، هامت روحه مع جسده في صلاة خاشعة، أثناء الركعة الأخيرة برقت من أمامه وخلف الجدار القصير امرأة تشد تشادورها بعناية فائقة، ارتبك وحاول الإسراع في ما تبقى من الصلاة، استغفر كثيرا وهو يقف ليُطل باحثا عنها، لم يصدق للوهلة الأولى، ثم أردف:

-غير معقول.. أبعد هذه السنين أشاهدها مرة ثانية وجمالها لم يتغير؟ مم خلقن هؤلاء النسوة؟ كيف لم يغيرها الزمن؟ لا.. لا.. مؤكد أنها تشبهها!

ونسي المكان والزمان لينغمس في تفاصيلها المهيمنة عليه، وعاد إلى تلك اللحظات القديمة بكل دقائقها، لم ُيكمل ما جاء من أجله، وصار يلحقها بنظره في قيامها وجلوسها، ثم بعد انتهائها ومكوثها في صلاة صامتة، شعر أنه يشاركها الصلاة، لم ينتبه لحاله إلا على صوت أذان الحرم ليعلن عن موعد صلاة العشاء، وقد مضت عليه في تبتله وخشوعه ساعة كاملة لم تكن له ولم يكن هنا!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.