عادل السيوي: اللوحة يتيمة والفنان كان أعزل

الأحد 2015/03/01
السيوي: الوضع الثقافي في مصر قبل الثورة هو ذاته بعدها

كيف ترى الحركة التشكيلية في مصر والعالم العربي اليوم في اتجاهاتها الفنية المختلفة وأحوالها؟

لديّ بعض الانطباعات عن الحركة التشكيلية في مصر والعالم العربي؛ ولا أملك رؤية متكاملة، ففي مصر أعتقد أن الحركة التشكيلية لازالت معزولة عن النسيج الثقافي والاجتماعي، في ظل غياب البنية التحتية التي يتعين تأسيسها أولا، والتي تشمل المتاحف وقاعات العرض والمؤسسات الفنية.. الخ، كما أن آليات تحريك وتسويق المنتج الفني غير كافية، والمحصّلة هي غربة الحركة التشكيلية عن المجتمع، لا تحتفظ ذاكرة المصريين بأعمال فنية مصرية، بما في ذلك ذاكرة المثقفين والنخب، إلا ما ندر ولأسباب ليست فنية مثل تمثال نهضة مصر لمحمود مختار، الغريب هو أن قاعدة المبدعين وخاصة وسط الشباب تتسع الآن بمعدلات غير مسبوقة، وهناك بعض الجهود لربط الحركة المصرية بما يحدث في العالم ولكنها لا زالت جهودًا جزئية. الحركة التشكيلية تعانى من العزلة وهشاشة البنية ومن التبعية للمنتج الغربي ومن هزال الجهود النظرية، أعتقد أن حجم التحديات كبير للغاية.

أمّا على نطاق العالم العربي، فلا أعتقد أن بها ما يختلف كثيرًا عن مصر، ربما تمتلك البلاد النفطية بنية تحتية أفضل بسبب الإمكانيات المادية والقدرة على التسويق التي لا تتوافر بشكل كبير في بلدان مثل مصر والأردن والمغرب، ولكن في النهاية الدول العربية جميعها تقع في منطقة واحدة والهمّ مشترك فيما يتعلق بالفن التشكيلي.

حضور وغياب

ما هي العناصر والآليات الواجب توافرها ليمكننا الحديث عن تطور نوعي في الحركة التشكيلية في العالم العربي؟

أعتقد أن استكمال البنية التحتية مهمّ للغاية، وهو الدور الذي يتعين على الدولة والأجهزة الرسمية القيام به، وعلى رأسها وزارة الثقافة، فضلًا عن دور أجهزة القطاع الخاص، فلا بد من إنشاء المتاحف والدوريات الثقافية ومراكز التوثيق، وهذه هي الخطوة الأولى نحو تطور الحركة التشكيلية، لكنها ليست ضمانة في حد ذاتها؛ فوجود ملعب لكرة القدم وعدم وجود فريق لا يضمن النجاح، ولكن البنية التحتية ربما تساهم في خلق حركة فنية أكثر مؤسساتية واحترافية.

وماذا عن حال المبدعين التشكيليين وأنت واحد منهم، ألا يبدون لك أنهم أيضا غائبون؟

ليس لديّ شك في وجود المبدع المتميز في مصر، حتى في أكثر عقودنا انحدارًا برز مبدعون فرادى، فالنخب في مصر متشابكة ومتداخلة، فقد بدأ تكوينها منذ قرنين، وهي متعددة ومتشعبة، حتى في أكثر العصور ظلامًا كانت لدينا ظواهر مضيئة، الظروف التي تحيط بالمبدع قد تحول دون تطوره، ولكن ربما يُخرج المبدع أفضل ما لديه في ظل المشاكل السياسية والمجتمعية وفقر الاتصال مع العالم، ولكن الحركة الثقافية والفنية أمر مختلف، فلا تتبع الجدل الذاتي أو الفردي، الظواهر تحتاج إلى ظروف مواتية كي تنضج وتتقدم، الفنان كالشجرة المفاجئة، التي قد تصعد رغم قسوة المجال، ولكن الحركة هي الحقل بأكمله، وتحتاج إلى ماء ومزارعين وسقائين وبذور وحاصدين.

قصر نظر

ما هو تقييمك الشخصي لحال النقد الفني في مصر والعالم العربي؟

ليس لدينا ما يمكن أن نسميه حركة نقدية، لدينا كتابات ونقاد فرادى محدودي القيمة؛ فالحركة الفنية في مصر لا زالت عرجاء، تسير على قدم واحد، الحركة الفنية في العالم تسير كإبداع على ساقين.. ساق إنتاج العمل الفني وساق النظر والتحليل والتقييم، وهذا غير موجود في مصر، فهناك نقاد فرادى يكتبون نصوصًا أغلبها صحفية الطابع، وقد قلت لك إن غياب الحركة النقدية أحد أهم مشاكل الحركة التشكيلية في مصر، بصفة عامة هناك قصور في النظر في مجال الفن التشكيلي ليس فقط في مجال النقد التطبيقي، بل وفى الأساس فيما يخص تاريخ الفن وفلسفة الجمال. ربما يكون الحال أفضل في البلدان العربية التي تأثرت بالثقافة الفرنسية، مثل لبنان والمغرب وتونس، فالكتابة عن الفن التشكيلي لديهم أفضل إلى حدّ ما، ولكنها تظل مستندة إلى إنجازات غربية بالكامل، هي نسخ باهتة من أصول، فالجهد النظري ليس على مستوى الجهد الإبداعي، والسبب راجع إلى تطور وعي الحركة الثقافية المهتمة بالكلام؛ ففنون مثل الفن التشكيلي والموسيقى والرقص تحتاج درجة من التطور والنضج والحساسية غير متوفرة في ثقافتنا العربية.

الحركة الفنية في مصر عرجاء، والثقافة المصرية تعاني من مشاكل مزمنة

الديني والمدني

بعد أربع سنوات من قيام ثورة يناير كيف ترى الحال الثقافي في مصر؟

الوضع الثقافي في مصر قبل الثورة هو ذاته بعدها، مصر لا زالت دولة متخلفة ثقافيًا رغم كل الدعاية حول القوى الناعمة في مصر، فحجم ما يُطبع من كتب في مصر مهين للغاية، وكذلك درجة الأميّة وعدد ساعات القراءة للمواطن المصري، كما أن مستوى الثقافة العامة للمواطن المصري منهار تمامًا، وفي هذا الشأن لم يحدث جديد يُغيّر من هذا التخلف الثقافي.

أيضًا، لازالت هناك مشاكل مزمنة يعاني منها الوسط الثقافي في مصر على رأسها الانقسام بين الثقافة الشعبية والثقافة الرفيعة، فمع بداية عهد محمد علي (مؤسس الدولة الحديثة في مصر) بدا هذا الانقسام واضحًا حينما أسّس لثقافة مدنية في مقابل الثقافة الدينية، وهو ما لم يكن موجودًا قبل هذه الفترة، ما أدّى إلى انقسام في الروح الثقافية وانعدام الجسور بين الثقافتين، فضلًا عن المشاكل المتعلقة بالمركزية الشديدة من حيث تمركز الثقافة في العاصمة فقط، وخضوع الخطاب الثقافي للخطاب السياسي حيث تهيمن الأولويات السياسية على الثقافة، وتبعية الثقافة العربية للغرب وإنتاج نسخ باهتة مما يفعله الغرب، فالأمراض الثقافية متعددة ومزمنة للأسف.

لا للصوت الواحد

وما السبيل برأيك للنهوض بالثقافة من وهدتها العميقة، ما هي الحوامل التي ستمكن المثقفين والمبدعين من تحقيق ذلك؟

ستنهض الثقافة المصرية في إطار حركة نهوض للجسم المصري بأكمله بماديته وبوعيه أيضا، أعتقد أن عقود الاستبداد قد أعادتنا إلى الخلف كثيرًا، فتحت عباءة الاستبداد انفرط التعليم ونمت الأفكار المتخلفة وتشرذم المثقفون، وهيمن الفساد بقيمه ونشرها عبر كافة المستويات، الاستبداد عنصر أساسي في المسألة؛ فطالما هناك استبداد سياسي وقوى تفرض صوتا واحدا على المجتمع لا يمكن أن تشهد الثقافة نقلة نوعية، أو تتسع للتنوع، تحت الصوت الواحد، لا بد إذن من تغيير شكل العلاقة بين المجتمع والسلطة، ولا بد أن تكون للسلطة إرادة في تطوير المجال الثقافي، فالسلطات التي تحكمنا لا زالت تنظر للمجال الثقافي بوصفه خصمًا أو تهديدًا، وترغب في محاصرته وتحجيمه، أو تسعى لتوظيفه في إطار الدعاية لها، الاستبداد يسعى لتقزيم المجال الثقافي بأكمله وإخضاعه لشروطه وأولوياته.

الثقافة والدعم

ولكن البعض يرى أن وجود وزارة الثقافة غير مُجد ولا يؤثّر إيجابيًا على الثقافة..

لا أعتقد ذلك، فمصر بلد بحاجة لدعم وإنفاق رسمي على الثقافة، بغض النظر عن طبيعة المؤسسة القائمة بتنظيم هذا الإنفاق، وزارة ثقافة أو مؤسسات وطنية أخرى، بلدان مثل إنكلترا وأميركا وفرنسا لا زالت الدولة مهمومة بدعم الفاعليات الثقافية، الاختلاف هنا يكمن في آلية الإنفاق وحجمه، ولكن الدولة لا بد أن تنفق على بناء مسارح وقاعات عرض ومكتبات ومراكز توثيق وغيرها، الثقافة في مصر تحتاج إلى إنفاق كبير من المال العام، وهذا غير حاصل فلا زالت الميزانيات الرسمية المخصصة للثقافة هزيلة للغاية شأنها شأن ميزانيات البحث العلمي.

أيضًا، هناك مؤسسات تلعب دورًا جوهريًا في تطوير الثقافة، وعلى رأسها وزارة التربية ووزارة التعليم العالي، ووزارة الإعلام، وما يسمى بالصحف القومية وكلها تملك دورًا للنشر، مكتبة الإسكندرية مؤسسة تعمل في مجال الثقافة وليست خاضعة للوزارة. الإنفاق العام على الثقافة ضرورة، ودستورنا الجديد أكد لأول مرة في تاريخنا على حق المواطن في الثقافة.

وصول الشباب

إذن.. ألا يوجد أي جانب إيجابي في المشهد الثقافي يدعو إلى التفاؤل؟

الملمح الايجابي الأكيد هو الانتباه، فقد استيقظ الفيل من غفوته، وهذا مهم، حتى وإن اكتشف الفيل بعد وقوفه على قدميه أن زلّومته قد أصبحت قصيرة للغاية، ولكن هذا القيام في ذاته، قادر على تغيير المعادلة، أضيف إلى ذلك دخول دماء جديدة وسريعة الحركة إلى المجال الثقافي، ربما يكون دخول الأجيال الشابة الجديدة إلى المجال الإبداعي والفكري هو أهم نقطة إيجابية، حيث أصبحوا قادرين على ضخ أفكار وممارسات معاصرة في المجال الثقافي، الذي كان لازال يقاوم الحداثة، كما أن حضور الشباب كمنتج ومستقبل هو حضور حاسم في المشهد الآن، رغم نرجسية المكرسين الذين لا يريدون التزحزح من مقاعدهم، الجيل القادم معاصر بامتياز، وهو يبنى الآن المعاني والقيم الجديدة، ويفعل ذلك عبر آليات وطرق للتواصل جديدة ولم تجربها الأجيال الأقدم.

جهود فردية

هل يمكن التعويل على الجهود الفردية للمبدعين في دفع عربة الثقافة إلى الأمام؟

لا شك أن الثقافة ترتكن أيضًا إلى جهود فردية، وهى التي تمد المجال بما هو نوعى وجديد، ولكن هناك العديد من الجهات المسؤولة عن تطور الثقافة، كل المؤسسات الرسمية والربحية ومؤسسات المجتمع المدني والمثقفين والفنانين، فضلًا عن الجمهور المتلقي للثقافة والفنون، فهي سلسلة متداخلة، والمثقف المبدع هو أهم حلقاتها.

مفاجأة الغرافيتي

هل تعتقد أن جيل الشباب العربي نجح في فتح الأبواب لتأسيس فنون جديدة؟

لا أعتقد ذلك، الغرافيتي كان مفاجئًا لواقعنا ولكنه في الحقيقة ليس فنًا جديدًا؛ فالرسم على الجدران ممارسة إنسانية قديمة، وقد التفت العالم الغربي إليه كتيار فني مستقل منذ الستينات، بداية من نيويورك، ولكن يمكن القول إن الغرافيتي المرتبط بحركات الاحتجاج والخروج الجماهيري الكبير في بلادنا يعدّ ظاهرة جديدة، القيمة المضافة لهذا الفن أعتقد أنها في كونه صانعًا ومشاركًا في الحدث وليس فقط تعليقًا عليه، هذا من جهة ومن الجهة الأخرى هو جزء من نسيج الوجود المديني وليس نصا منفصلًا عنه، وهنا تكمن شخصيته وفاعليته الخاصة، ولكن أرى أن الفيديو آرت وفنون الأداء (البيرفورمانس)، والفوتوغرافيا لعبت بالمثل دورًا كبيرًا، وغيرت آلياتها لتناسب الحضور المتنوع والواسع للجمهور ولمكان العرض، لم تتأسس فنون جديدة وإنما اكتسبت بعض الفنون مساحات وأدخلت مفردات وممارسات جديدة علينا، وهي مكسب كبير بلا جدال، بشكل عام يمكن القول إن الثورات في الدول العربية ساهمت في زيادة الرغبة عند الناس في التعبير عن نفسها، وفي إبراز مطالبها، وخاصة الأجيال الشابة، باختصار تم الانتقال من موقع المشاهد السلبي إلى موقع المنتج أو المشاهد التفاعلي، وهو ما لم يكن موجودًا من قبل، حيث ولّدت الثورات طاقة تعبير عالية وإخراجا جماعيا للأصوات.

هناك أشياء من هذه الفنون استطاعت النجاح بشكل كبير، فالغرافيتي مثلًا به أشياء عالية القيمة، وهناك ذكاء في صياغتها وإنتاجها، ومن أفضل ما حدث هو توثيق هذه الفنون في كتب وغيرها، فأنا شخصيًا اقتنيت ثلاثة كتب الهامة عن الغرافيتي في مصر، الفوتوغرافيا أيضًا كانت ناجحة بشكل كبير، أما الموسيقى فقد كانت مؤهلة للتطور ولكنها لم تقدّم ما يمكن التوقف أمامه كثيرًا، أصوات جديدة أو غناء جديد مثلما حدث في الستينات عندما برزت ظاهرة الشاعر أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، ورغم وجود العديد من الفرق الغنائية الشبابية التي ظهرت قبل الثورة أو بعدها إلا أنها لم تقدم شيئًا مميزًا، وكانت ظواهر كمية في الأساس، والفروق النوعية في الأداء والكلمات لا تشكل إضافة ملموسة.

جبهة ضميرية

هل من الممكن في نظرك أن تشكل الثقافة جبهة ضميرية وأخلاقية تساند الشباب العربي ضد كافة أشكال الاستبداد؟

بالطبع للمثقفين دور كبير في مجابهة الاستبداد، ولكن الاختلاف يكمن حول مدى قدرتهم على فعل ذلك، الدور الأكبر للمثقفين برز جليًا أثناء فترة حكم جماعة الإخوان لمصر، حيث انتقلوا من الكلام إلى المبادرات الفعلية على أرض الواقع، وأعادوا دورهم الاجتماعي مرة أخرى، من خلال احتلالهم لوزارة الثقافة والاعتصام أمامها، وقتها شعر الناس بأن المثقف يبادر ويقبل بأن يدفع الثمن، رغبة الجموع في التغيير وحراكهم السلمي، أيقظ منطقة راكدة في دماء المثقفين، ولكن مع انحسار الجماهير حدثت تراجعات غير متوقعة وانسحب البعض، ومال البعض للأمان وللدخول مجددًا في حظائر النظام القائم، وللأسف فإن الشعب المصري رغم ولعه وتقديره البالغ لمثقفيه ومبدعيه إلا أنه لا يراهن على مواقفهم.

نحن نعيش تحت عباءة استبداد سياسي منذ قرنين، مع انفراجات قصيرة ونادرة

ثقافة الاستبداد

هل ترى أن الجهات الظلامية نجحت في تغيير وجه مصر؟

نحن نعيش تحت عباءة استبداد سياسي منذ قرنين، مع انفراجات قصيرة ونادرة، وذلك المناخ الاستبدادي سمح بنمو قيم الفساد وثقافته في البلاد، كما سمح لكل الأفكار المختلفة أن تتنامى وتتعاظم، وبالتالي الأفكار الظلامية ليست مسؤولية حكم جماعة الإخوان فقط، فالمجتمع يعاني من التخلف أصلاً ومن السهل التأثير عليه، ولكن خوف الدولة من الثقافة والمثقفين جعلها تدمر المؤسسات التعليمية وتحجّم الحضور الثقافي وتفسح المجال لجماعة الإخوان والسلفيين، لغزو عقول البسطاء، فالإخوان يتحملون جزءًا كبيرًا من المسؤولية في تصنيع الجهل؛ إلا أن ذلك التخلف هو نتاج عوامل عدة مجتمعة ومتراكمة، فالجماعات الدينية الإسلامية والمسيحية معًا خلقت مناخًا طائفيًا، وساهمت في تغييب العقل المصري وفى تباعد مكونات النسيج الاجتماعي بلا جدال، ولكن الدولة كانت هي الراعي الرسمي لهذا التفكك في الأساس.

مشهد غامض

هل ترى أن الوضع السياسي في مصر بات أفضل بعد سقوط جماعة الإخوان؟

الوضع السياسي في مصر بعد سقوط جماعة الإخوان غير واضح المعالم، فهناك العديد من الأسئلة المُعلقة والتي لم تتضح إجاباتها بعد، مثل: هل سينجح المجتمع المصري في بناء دولة ديمقراطية أم أننا بصدد محاولات لترميم وإصلاح النظام القديم، أم ربما نسير نحو دولة أمنية استبدادية، لأن نظام مبارك يحاول الإطلال برأسه مجددًا، رغم صعوبة المحاولة، كما أن جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها الإخوان لا زالت تملك جماهيرَ وقدرات على الحركة داخل المجتمع. وأخيرًا وهو الأهم الشباب الذين قاموا بالثورات وتمت إزاحتهم من المشهد.. هل سيعودون مرة أخرى أم أنهم سيستسلمون لعمليات تهميشهم؟.. لدينا العديد من التساؤلات التي تجعل المشهد غير واضح بعد.

غوغ وبيكاسو

لديك مساهمة خلال انتفاضة ميدان التحرير، حدثنا عن لوحتك التي رسمتها إبّان ثورة يناير.

عندما قال المعتصمون في ميدان رابعة العدوية إن جبريل نزل هناك ليعتصم معهم، أثارتني المسألة بصريًا، ولكنني لم أنفذ اللوحة، الفكرة قادتني إلى سؤال إذا كان جبريل قد ظهر في رابعة، فلم لا يظهر فان غوغ وبيكاسو في ميدان عبدالمنعم رياض تضامنا مع المتظاهرين؟ وكانت هذه لوحتي عن الثورة التي تُظهر فان غوغ وبيكاسو وهما يقرران الاعتصام مع الشباب المصري وفي الخلفية ميدان عبدالمنعم رياض بتمثاله الشهير.

الفكرة هي التي أثارتني نحو التفكير في أشخاص غائبين ليظهروا مرة أخرى، ولكن لم تكن هناك قيود تمنعني من تنفيذ رسم جبريل، فهو مجرّد نافذة أطللت منها على فكرتي الأساسية، كما أنني لم أكن أريد الانشغال بالحديث عما يدور في ميدان رابعة، لكنني رأيت أن استدعاء أشخاص مثل فان غوغ وبيكاسو للمشاركة في مثل هذا الحدث هو قيمة في حد ذاته.

وبعد ثورة يناير، هل كان هناك حدث أثارك وأردت التعبير عنه في لوحة؟

لا أعمل غالبًا وفقا لتتابع الأحداث، ولوحة بيكاسو في ميدان عبدالمنعم رياض لها سياق خاص بها، اللوحات لا تولّدها الأفكار ولا الحماسات وأعمالي تتولد من مناطق غائمة داخلي يصعب بالفعل اقتفاء أثرها.

صوت الداخل

هل تشكل المنظومة الأخلاقية والمجتمعية قيدًا لك في الإبداع؟

بالطبع، نحن محاصرون بكافة أنواع الرقابة الدينية والأخلاقية والمجتمعية وغيرها، ولا يمكن أن ندّعي أننا أحرار تمامًا، لدينا طموح وأمل في الحرية، لكننا نواجه في الوقت ذاته العديد من أشكال الرقابة التي تترك بصمتها على سلوكنا وإنتاجنا، رغم رغبتنا الشديدة في الانصياع فقط لصوتنا الداخلي.

الوجه والروح

تبدو مهتمًا باختزال حالات تعبيرية متعددة في رسمك للوجوه في لوحاتك..

ما لا وجه له يصعب التعامل معه، يصبح لغزًا مغلقًا، ولكن الوجه نفسه لا يكف عن المراوغة والتحول، لأنه حركة روح بكاملها، الوجه هو ذلك الجزء من الجسد المكلف بالتواصل مع العالم يليه اليد، كان ليوناردو يقول إن الروح تقبل بالبقاء داخل سجن الجسد المظلم، لأنها تطل على العالم من خلال نافذتين هما العينان، العين هي نافذة الروح وأيّ تغيّر ولو طفيف في حركة العين يغير هندسة الوجه بأكمله، الوجه سيظل دائمًا مدهشًا ومادة ثرية للتأمل، وحمالًا لما لا نهاية له من التداعيات، ولا أعرف السبب الحقيقي وراء انسياقي لرسم الوجوه بأشكالها المختلفة، ففي البداية كانت الوجوه تخرج مفردة، ثم جاءت في ثنائيات، وتوالت لتخلق مسارات لحركة العين، ونشأت على هامشها حكايات صغيرة، أعتقد أن العمل على الوجه سيظل انشغالي الدائم.

حكايات السيوي

آخر معرض خاص لك أقيم تحت عنوان “حكايات السيوي” في يناير 2010.. لماذا لم تقم عروض بعده؟

أنا مُقلّ جدا في العروض، لأنني عندما أقيم معرضًا أرغب في عرض مجموعة من الأعمال المتصلة والتي يمكن أن أدعو الجمهور لمشاهدتها، المعرض ليس عادة أو ضرورة أو آلية ضرورية، ومن جهة أخرى أقيم المعارض خارج مصر فبعد هذا التاريخ الذي ذكرته كانت لي عروض في دبي وباريس ولندن، وأنا الآن أعدّ لمعرض قادم في مصر في خريف هذا العام.

مغامرة عين

كانت لديك تجربة في تأسيس مجلة “عين” للفنون البصرية.. ما الذي حملك على هذه المغامرة؟

كان المحرك لإنشاء المجلة هو إدراكي لوجود خلل كبير في الحركة الفنية في مصر، وأقصد نقص الأفكار في المجال البصري وضعفها، وكنت أدرك أيضا لأن الدولة، بطبيعتها البيروقراطية، عاجزة عن سد هذا النقص، نظرًا للتوازنات والأسماء والعناوين التي تصر عليها عند إنشاء أيّ مجلة جديدة، لذا فكرت في إنشاء مجلة يقوم عليها الفنانون بأنفسهم، وتناقش كل ما هو بصري، ليس فقط فيما يخص التصوير والرسم والنحت وإنما أيضا في الإعلانات والسينما والعمارة والتصميم والأزياء. وبالفعل أصدرنا العدد الأول من المجلة الذي بُذل فيه جهد كبير، لكن فيما بعد أدركت مدى صعوبة الحصول على نصوص نوعية في المجال البصري، فالكتابات في مجال الفن التشكيلي قليلة للغاية، فضلًا عن عدم وجود مجموعة عمل فكانت المسؤولية كلها ملقاة على عاتقي، ما جعلني أشعر بأن المشروع سيستنفد وقتي وجهدي كفنان في الأساس، والمشكلة لم تكن في التمويل على الإطلاق كما يعتقد الكثيرون، ولكن المشكلة في نقص الكتابة والنقد في هذا المجال على مستوى الثقافة العربية وليس فى مصر وحدها.

بعد الثورة طالبني بعض الأصدقاء بإعادة إصدار “عين” مرة أخرى، وعقدنا مجموعة من الاجتماعات بالفعل، لكنني وجدت أن المشاكل السابقة لا تزال قائمة رغم حماسة اللحظة.


حياتنا ليست تجريدية في الأساس

تاريخ كامل

تبدو أكثر ميلا للمدرسة التشخيصية في الفن التشكيلي..

التشخيصية ليست مدرسة، فهي تاريخ الفن الذي لم ينقطع، أما التيار التجريدي، فهو الذي ينطلق من الأبجدية البصرية ولا يريد أن يحركها في اتجاه العالم المتشكل خارج اللوحة، الأساسيات البصرية من الألوان والخطوط والظلال والمساحات.

أحب الحكايات وأؤمن بها، ولديّ جانب حكواتي في شخصيتي، أعتقد أن الحكايات هي أجمل ما أنتجه البشر، وتوقفت كثيرا أمام داريل في رباعية الإسكندرية عندما بدأها بجملة مهداة إلى ستاندال وهي ببساطة: حدث ذات مرة.. once upon a time والإنسانية ستستمر بقدرة البشر على حكي الحكايات، السرد هو توسيع الحاضر، ولكل منا حكاية يحب أن يقولها ويرويها للناس، وأن يجد صداها لدى من يسمعه، وهذا لا يتوافر في اللوحة التجريدية التي مهما بلغت من الجمال فهي تقف عند سقف محدد ألا وهو غياب الحكاية، أو لنقل إن أبطال الحكاية المجردة هم مجردون بدورهم ألوان وخطوط ونقاط، تمامًا مثل أصوت العصافير فمجرد سماعه يثيرني للغاية ولكن ربما تكون سعادتي أعظم لو انتقلت إلى الحكاية التي يصوغها العصفور أو تموء بها القطة أو ينبح بها كلب، حياتنا ليست تجريدية في الأساس، نحن نعيش مع الملموس والحسي والمتشكل، مع إدراكنا أن هناك أبعادًا مجردة حاكمة لحضورنا.

الحروفية العربية

ما رأيك في الفن الحروفي العربي، وهل له ضرورة فنية أم هو ضرب من ضروب الزينة؟

الحروفية تحاول الانطلاق من القيمة التشكيلية للحروف وخاصة الحروف العربية، وقد استطاعت أن تحظى باهتمام واسع؛ وهي الفترة التي انشغلنا فيها بفكرة الهوية، ولكنني أراها حلولا شكلية جدًا، وتعتمد على قيم من خارج العمل الفني كالمعنى والتاريخ، الغواية الخارجية والحلّ السهل والجاهز لسؤال الهوية، جعلاني أقف على مسافة من هذه التجربة، وبالمثل كان غياب العالم بأشيائه وكائناته، وسيطرة اللغة المكتوبة ذات الدلالة المعممة، أمرا محيرا بالنسبة إليّ، فلم أتحمس لها مطلقا.

اختصارات فذة

أنت صاحب علاقة خاصة واستثنائية بالشعر قراءة وتذوقا وترجمة ولا أعرف إن كان كتابة أيضا؟

علاقتي بالشعر غريبة بالفعل، فلديّ مزاج يخصني تمامًا، ومن الممكن أن أتعلق بقصائد أو مقاطع من أعمال شعرية لا يلتفت إليها الكثيرون، ولا أملك قدرة على الإمساك بما هو شعري داخل الشعر، لأن الفيصل بالنسبة إليّ هو كيفية تأثير هذه القصائد عليّ وقدرتها على استثارتي شخصيًا، وبالتالي يتعجب أصدقائي من اختياراتي في الشعر الذي أقرأه منذ الصغر، إلى أن وصلت للتورط في ترجمة الشعر حيث ترجمت الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الفذ أونغاريتي.

في الحقيقة لا أنجذب للصورة الشعرية ولا إلى الموسيقى أو الإيقاع سواء كان داخليًا أو خارجيًا، أعتقد أن ما يسحرني في أعمال الشعراء، هو قدرتهم على النفاذ إلى أعماق وأفكار مضيئة عبر اختصارات فذة، ودون اللجوء إلى المفاهيم أو المنطق، لهم مداخل ملموسة لعوالم مجردة للغاية، أعتقد أن بعض أبناء مهنتي من الكبار يملكون هذه الطاقة العجيبة أيضا.

أفكار جاموسة

وماذا عن الترجمة.. ألا تفكر في مواصلة مشروعك الشخصي في ترجمة ما يسحرك أو يستأثر باهتمامك بشكل طاغ من الأعمال التي تقرأها في لغات أخرى؟

ترجمت من قبل ذلك “نظرية التصوير” لليوناردو دافنشي، و”نظرية التشكيل” لبول كلي، وكان ذلك في نطاق اهتماماتي بالفن التشكيلي، فضلًا عن المجموعة الشعرية الكاملة للإيطالي أونغاريتي، ولكنني لا أفكر في ترجمة المزيد، فعندما كتبت مقالة بعنوان “أفكار جاموسة” في جريدة الأهرام، والتي تحدثت فيها عن الشاعر الإيطالي مارينيتي وعن كتابه “سحر مصر” الذي روى فيه أنه وقف أمام جاموسة في مصر، وظل يفكر في طبيعة الأفكار التي تدور برأسها؟ وعن ضرورة ترجمة هذا الكتاب للغة العربية لقيمته العالية، وقتها تحدث وزير الثقافة جابر عصفور مع أنور مغيث مدير المركز القومي للترجمة، وطلب منه أن يبلغني بضرورة أن أقوم بترجمة الكتاب المذكور، إلا أنني اعتذرت لهما، فلا أرغب في الدخول إلى مشاريع ترجمة أخرى، هناك مهام أكثر إلحاحًا الآن.

ما رأيك في القول الشائع إن الكلمة أكثر بلاغة من الصورة؟

أعتقد أن العكس هو الشائع، بمعنى أن صورة واحدة قد تفوق مقالة كاملة ولكنني أرفض تمامًا هذه المقارنات، فكل نوع من التعبير وأدوات التواصل لديه بلاغته وقوته الخاصة، وقد تصل الصرخات أو الأرقام وحدها إلى درجة من البلاغة الناصعة، التي تعجز عنها كافة العلامات الأخرى‭ ‬‬‬

أجري‭ ‬الحوار‭ ‬في‭ ‬القاهرة

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.