عالم ما بعد الكورونا، بين الليبرالية والاستبداد

الثلاثاء 2020/07/07

منذ بداية العزل الصّحّي، أو الكرنتينة كما كان أسلافنا يقولون، سارع عدة مثقفين إلى رسم الخطوط العريضة لما سوف يكون عليه العالم بعد جائحة الكوفيد 19. منهم من اعتبر أن الأزمة إعلان عن نهاية العولمة الليبرالية والتبادل الحرّ والعودة إلى الحدود. ومنهم من رأى فيها تحقق نبوءات نهاية العالم، التي لا نجاة منها إلا باتباع حياة بسيطة منسجمة مع الطبيعة، بعيدا عن صخب المدن وتلوث أجوائها. ومنهم من أعلن تفوّق النموذج الصيني رغم ما يحمله من تسلط وتقييد للحريات على فوضى الديمقراطيات الغربية التي تشكو من أزمة اقتصادية ساهمت في صعود زعماء شعبويين في أكثر من مكان. وكلّها مواقف تكشف عن رفض الإنسان القبول بالطارئ، وعدم الاستسلام لمصير لم يتوقعه، حيث يحوّل نظره عن الحاضر، ليهرب إلى مستقبل يضع فيه آماله وتصوراته، ويلوّنه بألوان اليوتوبيا في أغلب الأحيان.

ما من شكّ أن أزمة الكورونا ليست عرضية، وأن آثارها ستكون طويلة الأمد، وألا أحد يستطيع أن يتكهن بالضبط بما سوف تكون عليه تلك الآثار، فقد نجمت عن تقلبات الأنظمة البيئية وتغوّل العولمة النيوليبرالية، وخلقت أزمات متداخلة، صحية واقتصادية واجتماعية وإيكولوجية، وقد تخلّف أيضا أزمة سياسية، يتولد تضافرها بعضها مع بعض فوضى عارمة، وربما ثورات في أكثر من مكان، ولا يمكن حلّ تلك المشاكل مجتمعة إلا بتضافر جهود شتى الأطراف في العالم. فالنّوايا الحسنة، وقتَ الشّدّة، ليست هي نفسها بعد زوال دوافعها.

ما يمكن ملاحظته أنّ هذه الأزمة لها وجهان: وجه فردي ذاتي، ووجه عالمي تاريخي.

على المستوى الفردي، نستشف من هذه التجربة ثلاثة أبعاد، أولها أن الأزمة أرغمتنا على سبر دواخلنا والتساؤل فرديّا أيّ القيم تسيّر حياتنا، وبذلك أعادتنا إلى ما هو أساسي، أي الصحة وصلات الرحم والعلاقات الاجتماعية. وثانيها أنها دفعتنا إلى الوعي بالتكافل الإنساني وبأن البشر كما قال المعري "بعضٌ لبعض وإن لم يشعروا خدمُ"، وأن علاقة الجنس البشري بالفصائل الحيوانية والفيروسات حقيقة لا غبار عليها، أي أنها جعلتنا نفكّر في إطار أوسع، لا يخصّ واقعنا الأسَري والمحلّي وحده، بل يتجاوزه إلى الواقع الإنساني برمّته. وثالثها أنها حملتنا على التفكير داخل إطار صحّيّ شامل لا يخص فئة بعينها ولا مجتمعًا بذاته، وإنما يخص كافة سكان المعمورة.

أما المستوى العالميّ فتتجلى فيه أبعاد ثلاثة أيضا.

 نحو فصل جديد من العوملة - برتران بادي
 نحو فصل جديد من العوملة - برتران بادي

الأول بيئيّ، فالفيروس نتج عن علاقة الإنسان بالحيوان، الذي لم يعد يجد ملاذا بعد تدمير بيئته الطبيعية، فخالط الإنسانَ في محيطه، ما ولّد هذا الوباء التي ما لبث أن تحوّل إلى جائحة شلّت العالم، وخلقت أزمة غير مسبوقة، لا من جهة عدد ضحاياها، بل من جهة انتشارها السريع وعزلها الناس حيثما كانوا بعضهم عن بعض، وكشفت بما لا يدع مجالا للشكّ أن الأرض لم تخلق للإنسان وحده كي يعيث فيها فسادا كما يحلو له، بل ثمة كائنات أخرى لا بدّ من احترامها، وإلا عادت عليه بالوبال.  

هذه الأزمة الصحية، التي قد تتحول إلى أزمة اقتصادية خطيرة، فنّدت وعود العولمة النيوليبرالية بتحقيق الحرية والعدالة عن طريق التبادل الحرّ والتنمية والاستهلاك، فالنيوليبرالية التي تقدّم رأس المال على العمل، وتعمل على زيادة الإنتاج والاستهلاك بشكل مطّرد لا يعرف نهاية، دمّرت البيئة، وهيأت الظروف لانتشار الأوبئة، وجففت الموارد، ولوّثت الطبيعة، وحوّرت المناخ، فضلا عن التفاوت الفظيع الذي أحدثته عبر العالم.

 وأصحاب القرار يقفون اليوم أمام قرينة ذات حدّين. من ناحية، لا أحد ينكر أن كلفة الجائحة ستكون قناطير مقنطرة من بلايين الدولارات، وأن الوسيلة الوحيدة لمقاومة البطالة والتداين والعجز التجاري هي توخي سياسة تقوم على زيادة تنمية الطاقة، وحتى إعادة التصنيع، ولكن ذلك سيمثل من ناحية ثانية أخطر قرار يُتّخذ بشأن كوكب الأرض.

وللتوفيق بين هاتين الفرضيتين المتناقضتين، ينصح بعضهم بالإنصات إلى نصائح المتخصصين في مجال الصحة والبيئة، مثل تيار "الصحة الكونية" ‪planetary health وهو تيار طبّي وعلمي ظهر عام 2015، يُعنى بصحة كوكب الأرض ويضع الإنسان والطبيعة في صميم اهتماماته، ويؤمن بأن صحة الإنسان ينبغي أن ينظر إليها كملك مشترك، تماما كالجوّ والمناخ. ويقترح أعضاؤه فهمًا موسّعا لشروط صحة الإنسانية جمعاء، فقد أثبتوا علميا أن صحة البشر لها علاقة وطيدة بالأوساط الطبيعية، وأن التلوث البيئي يتسبب في وفاة تسعة ملايين شخص كلّ عام، ما يمثل نسبة 16 % من الوفيات في العالم، أي ما يزيد عن ثلاثة أضعاف ضحايا الإيدز والسل والملاريا مجتمعين، وأن مواصلة تدمير النظام البيئي سوف يكون له أثر كبير في تفشي الأمراض المعدية، بشكل قد يلغي ما حققه الطب الحديث من تقدّم. ولئن كان تعطّل الاقتصاد العالمي باهظ الثمن، فإن التغير المناخي وانهيار النظام البيئي سيكلفان البشرية كل عام جائحة ربما أفظع من كوفيد 19. فتلوث الجوّ يضاعف الاحتباس الحراري، الذي يعجّل بدوره بزوال الغابات ويقلّص التنوّع البيولوجي، وكلّها في رأي الخبراء مترابطة، فإذا ما تمّ تجاوز الحدود، لم تعد الظروف ملائمة لحياة إنسانية محتمَلة على هذا الكوكب.

ومن عجب أن قادة الدول، المصنّعة بخاصّة، أجمعوا على تطبيق الحجر توقّيًا للمخاطر، واختلفوا في الحدّ من انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون رغم ثبوت دوره في تلويث البيئة والاحتباس الحراري. فعسى أن تكون هذه الجائحة فرصة لتعديل الماكنة الاقتصادية المسعورة، والعناية بالكائن الحي والطبيعة.

الجائحة ستضع حدا للتبادل الحر - جان زيغلر
الجائحة ستضع حدا للتبادل الحر - جان زيغلر

والبعد الثاني اقتصادي، والخبراء مختلفون في تصور ما ينبغي تعديله أو تغييره أو إبقاؤه بعد انجلاء الكورونا، ولكنهم يكادون يلتقون في نقطة هامّة، وهي أن الأزمة لن تمثل نهاية العولمة، وأقصى ما يمكن توقعه هو أنها ستراجع بعض مساراتها وأيديولوجياتها وخاصة الثالوث النيوليبرالي: فتح الأسواق، تراجع الدولة والخصخصة. وهو ما يؤكده الباحث السياسي برتران بادي، الذي يدعو إلى فصل ثانٍ من العولمة يقوم على الأمن البشري والحاجيات الاجتماعية المرتبطة به، لأن العولمة في نظره قامت دون رقيب، وهي في حاجة اليوم إلى تأطير ومرافقة وقوانين.

فالدول سوف تتدخل بقوة عبر استراتيجيات مضبوطة لدفع التنمية، وإعادة توطين أنشطة حيوية، إضافة إلى سياسة صحية أكثر طموحا، تعيد الاعتبار إلى تخزين المنتوجات. ولكن قد يحدث العكس أيضا، فتزداد الليبرالية تشددا، في حال حدوث أزمة عميقة يحتدّ فيها التداين وتفاقم البطالة وانهيار العملة، ما يدفع بثورات جياعٍ خاصّةً في البلدان الفقيرة حيث انضافت المشاكل الاقتصادية والبيئية إلى المشاكل الصحية التي تعاني منها، فالمسار التاريخي لا يزال في بدايته ولا أحد يستطيع أن يتكهن بمآله ونتائجه.

ولئن ظن بعض مثقفي اليسار، مثل السويسري جان زيغلر، أن جائحة كوفيد 19 سوف تضع حدّا لعهد التبادل الحر، هذا النظام الاقتصادي الذي جُعل على مقاس القطاع الخاص وألحق بالشعوب والبيئة خسائر فادحة، فإن كبار رؤوس الأعمال والشركات العملاقة في العالم قد تدعو إلى "رأسماليةِ أزمة" تسعى من ورائها إلى إعادة الأمور إلى معتادها، خصوصا أمام عجز الحكام عن اقتراح البديل، إما لغياب الشجاعة الكافية، أو لكونهم خاضعين لسلطة الأعراف، حتى أنهم أبدوا تأييدهم الضمني للتخلص من العجائز للحفاظ على وتيرة النموّ الاقتصادي. أي أن الدعوة إلى اقتصاد لا يخضع لقوانين السوق، بل لقوانين الطبيعة، ولا يعتبر النمو غاية في حدّ ذاته، لا يزال حلما عسير المنال.   

أما البعد الثالث فهو سياسي، فالمفارقة أن أهمّ إجابة تفتقت عنها أذهان قادة الدول لمواجهة أزمة صحية، كانت أمنيّة بالأساس. فأمام عجز الدول عن إيجاد ترياق ضدّ الفيروس، وتوفير أسرّة الإنعاش، وروائز الكشف، وكمائم الوقاية، جعلت من شعوبها تهديدا، بحجة حمايتها من نفسها.

 وهي في ذلك إنما تسير على خطى الأوائل، فالمعروف أن الأوبئة عبر العصور مثلت حلقات مفصلية لتوسيع نفوذ الدولة وتعميم الأساليب البوليسية في تعقب المصابين أو المشتبه في إصابتهم.  ذلك أن الجائحة رافقتها في شتى أنحاء العالم إجراءات تبدو في العادة من ديستوبيات الخيال العلمي، فالبرلمانات مدجّنة، وأحزاب المعارضة مكمّمة، والتجمهر محظور، والاقتفاء الرقمي لتعقّب الأفراد والأماكن التي يترددون عليها جارٍ على قدم وساق، والتنقل ممنوع إلا بترخيص من الحكومة، كل ذلك صار أمرا مقضيا بدعوى مقاومة الكورونا، وحماية الأفراد، في جو يرين عليه غياب الاحتجاج.

تتت

وقد تعالت أصوات شعبوية تزعم أن السلطة القوية هي وحدها القادرة على تقديم إجابة مناسبة عن الجائحة، وفرض القرارات التي تحدّ من الحريات وتراقب مجتمعاتها عن كثب بحجة منع انتشار الفيروس، ويضربون مثلا على ذلك بالصين التي استطاعت منذ فبراير/ مارس السيطرة على الكورونا، بينما ظل جانب من أوروبا ثم الولايات المتحدة نهبا للفيروس بسبب ترددها ومراكمة أخطائها. ويستنتج أصحاب ذلك الرأي أن الحوكمة الرشيدة ليست في الأنظمة الليبرالية بل في الأنظمة ذات القبضة الحديدية، ويأملون أن تقتنع الشعوب بطرحهم وتصوّت لصالحهم عند الاقتراع. غير أن الباحث السياسي ياشا مونك لاحظ أن البلدان التي يقودها شعبويون فشلوا في تقديم الجواب المناسب، يستوي في ذلك الشعبوي اليساري المكسيكي أندريس مانويل لوبيس لابرادور، والشعبوي اليميني البرازيلي جايير بولسونارو، والشعبوي المعتدل البريطاني بوريس جونسون، والشعبوي المتشدد الأمريكي دونالد ترامب.

وبصرف النظر عن الصين والبرازيل وأغلب بلدان أوروبا الشرقية، فإن الديمقراطيات الأوروبية العريقة تشهد هي أيضا تآكل أسس الديمقراطية الليبرالية، ذلك أن ثنائية سوق الشغل والأسواق المالية أوجدت تفاوتا في الدخل والممتلكات، وتراجعا في وزن الطبقات الوسطى. فالديمقراطية الليبرالية التي لا يعيش فيها سوى من يملكون الثراء الفاحش ومن هم في فقر مدقع لا يمكن لها الاستمرار ما دامت مصالح الطرفين متناقضة، لأنها في الواقع ليست سوى واجهة ماكرة لحكومة أثرياء (بلوتوقراطية).

وهو ما ولّد شعورا لدى شعوب تلك الديمقراطيات بأن أصواتهم لم يعد يُحسب لها حساب، وأن اللوبيات الاقتصادية والشركات متعددة الجنسيات تشتري من ورائهم القرارَ السياسي لمنتخَبين فاسدين يقومون بتعزيز الوزن الاقتصادي لتلك الشركات بفضل تشريعات تلبي أهواءها. أي أن الديمقراطية استحوذت عليها مصالح الأقوياء الاقتصادية لا سيما رجال المالية المعولمة. حتى أن عالم الاجتماع كولان كورش لم يتردد في وصفها بأنظمة "ما بعد الديمقراطية". بل إن الاتحاد الأوروبي نزع عن الديمقراطيات الوطنية جانبا كبيرا من إمكانيات اختيار سياساتها العامة، ولم يترك لها إلا الخيارات التي تسمح بها النيوليبرالية، أي تلك التي وردت في الاتفاقيات.

ياشا مونك -الشعبويون فشلوا في احتواء الجائحة
ياشا مونك -الشعبويون فشلوا في احتواء الجائحة

وأيّا ما تكن المنطلقات الأيديولوجية، فالثابت أن هذه الأزمة ستمثل اختبارا سياسيا للأنظمة الديمقراطية، لأن الأزمات هي التي تكشف للمجتمعات قوّتها وضعفها. وقد بدأت بعض الدول الأوروبية مثلا في تصوّر مرويات سياسية لتهيئة المستقبل، ثلاثة منها تتنافس في ما بينها: شعبوية واستبدادية وديمقراطية. تبدو المروية الأولى، أي الشعبوية، أكثر الثلاثة تضرّرا بالأزمة، كما أسلفنا، لأنها كشفت أهمية العقلانية ورأي الخبراء والمعرفة، أي المبادئ التي دأب الشعبويون على انتقادها وإلصاقها بالنخب كمآخذ وتُهَم، ولو أنهم قد يحمّلون الأجانب نشر الفيروس، وكذلك العولمة، وهما العنصران اللذان يقوم عليهما خطابهم الشعبوي، ويغتنمون الفرصة لتشديد الحواجز الحدودية وتأكيد عدائهم للمهاجرين.

وتبدو المروية الاستبدادية قريبة من الشعبوية من جهة تبسيط المشاكل واختزالها في تفسير واحد، فهي تعتقد أن الأنظمة المركزية الاستبدادية هي وحدها الكفيلة بقهر الجائحة من خلال استنفار كل موارد البلاد وطاقاتها، ولم تثبت صحة هذا القول حتى الآن إلا في الصين وروسيا، ولكنْ كلتاهما تمتلك الوسائل التقنية والعلمية اللازمة لمكافحة الفيروس، وهو ما لا يتوافر لدى الأنظمة الشمولية الأخرى. وأما الثالثة أي المروية الديمقراطية، فهي الأعسر بناء، لأنها تقوم على الشكّ والتساؤل والتداول والطعن، ما يعطّل اتخاذ إجراءات سريعة وفعّالة، غير أنها تتيح للشعوب أن تصدر أحكامها بعد انجلاء الأزمة لتثيب حكّامها سلبًا أم إيجابا.         

منذ ربع قرن رأى فرنسيس فوكوياما في تحالف الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية نهاية التاريخ، وأن رياح هذه الديمقراطية الليبرالية ستهبّ على كل مكان بفضل العولمة، ولكن الصين وبلدان ذات أنظمة شمولية أخرى أثبتت أنها يمكن أن تستفيد من العولمة دون قبول الديمقراطية. وإذا كان المتفائلون يعتقدون أن ارتفاع المستوى التعليمي لدى مختلف شعوب العالم سيؤدي إلى فرض الديمقراطية، فإن المتشائمين يرون أن تعزيز تكنولوجيات المراقبة والمعاقبة، التي طورتها الدول والشركات الخاصة حتى في الديمقراطيات الغربية، سوف تقودنا إلى كابوس أورويلي ليس له نهاية.                  

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.