عبدالسلام يخلف ذاكرة جزائرية

الثلاثاء 2019/10/01
يخلف: الصورة تتحدث إليّ بلغة العاشق وتقول ما لا تسعه الأبجدية

مصور فوتوغرافي وشاعر وأكاديمي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة قسنطينة، مسؤول التكوين في كلية الفنون والثقافة ومدرّس مقياس “التصوير الفوتوغرافي”. حاصل على شهادة ماجستير عام 1988 في العلوم السياسية والدراسات الدولية من جامعة ساوثهامبتن-بريطانيا. عمل صحافيا في عدد من الجرائد وصاحب حصة إذاعية سابقة عنوانها “سحابات الكلام” بمحطة قسنطينة الجهوية. ترجم عن الفرنسية نحو عشرين كتابا من بينها “الشقاء في خطر” لمالك حداد، “سيمورغ” لمحمد ديب، “بماذا تحلم الذئاب” لياسمينة خضرة. أقام نحو 20 من المعارض للصورة الفوتوغرافية، حاصل على جوائز، توجد صوره على أغلفة الكتب وبعض المجلات ومنها واحدة مختارة في كتاب جورج كانون “175 مصوّر”Georges Cannon, 175 Phoptographers. Blurp Books, USA, 2009.

عبدالسلام يخلف المقيم باستمرار في مدينة الجسور والنسور وحاملة اسم قسنطين الكبير،  من مواليد 1962 بقسنطينة/الجزائر، وهي المدينة التي حازت على القسط الأكبر من اهتمام عينه وكاميرته كمصور لا تفارق الكاميرا يده، ولا الرؤى الشاسعة للمكان خيالاته كفنان.

واكب كل تفصيل وحدث ولقطة بعين لا تهدأ كأنه يبث فيها روحا جديدة وعندما تنظر إلى تلك الصورة تخالها تتحدث إليك بألف صوت وصوت. عين كاميرته نص سحري فائض بالمعاني يكتبها بشفافية ويقربها لعينك الأخرى يشركك في الفهم والتأويل. الصورة عنده أبلغ، تختصر بكثافة في زمن يتلاشى. يقبض عليه مرات ومرات حتى لا يهرب أكثر، لتبقى الصورة عنده الشاهد الأكبر على هذه الوحدة بين العين اللاقطة والواقع الملتقط.

في هذا الحوار معه، يفتح عبدالسلام يخلف المصور والأكاديمي والصحافي سجله كمصور فوتوغرافي أساساً، وهي الهواية الأكثر جوهرية في حياته، ليتحدث عن الصورة وعوالمها والصورة والمجتمع، والصورة كفنّ ما يزال لم يرسخ في الثقافة العربية، رغم مرور أكثر من قرن ونصف القرن على ظهور أعمال المصورين المحليين في  الديار والمجتمعات العربية.

الجديد: مسارك في دروب الإبداع والكتابة متنوعة.. فقد كتبت الشعر وكنت ضمن كوكبة من الشعراء حاولت القطع مع ما كان يكتب خاصة في السبعينات.. ثم عززت هذا المسار بالكتابة بواسطة الصورة إن صح التوصيف، ومتابعة ما يحدث في المشهد الثقافي سواء بالنقد أو الدراسة أو غيرها. كيف تنظر إلى هذا المسار الآن؟

عبدالسلام يخلف: الكتابة أداة لمحاورة الحاضر وهمز المستقبل وأرى أن الفيلسوف إيميل سيوران على حق، فهو الذي كان دوما على حق، حين قال: “ينتهي الكاتب حين يكون معاصرا” (L’écrivain cesse d’être s’il est contemporain) أي أن الكتابة لا تقول الماضي والحاضر فقط بل تشير بالإصبع العارف (العرّاف؟) إلى الذي سيأتي ويأخذ الألباب ويصيب الناس بوباء النسيان الذي يفصلهم عن جذور المعنى. كل تجارب الكتابة في كل المجتمعات تأخذ مسارات وأنساقا متضاربة تؤثر عليها التيارات الأيديولوجية والسياسية واستراتيجيات التشجيع والنشر ولم تنجُ بلادنا من هذا إذ راحت كتابات السبعينات تجترّ خطاب الاشتراكية والتنمية والفكر الواحد الأحادي الأوحد الذي هدّم القدرات الإبداعية للجزائر وفتح الباب واسعا أمام الكثير من الكتابات الفجة والسطحية التي كانت تلقى “رواجا” في الدوائر الرسمية الضيقة وتتلقى بعض الجوائز التي تكرّس أسماء تتعثر في اللغة وتتلعثم في الكلام وتتقاتل في الخفاء. تغيّر العالم من حولنا وكان لزاما علينا أن نشحذ أدواتنا وندخل المعادلة بنفض الغبار وإضافة بعض السحر والتوابل للكتابة التي جاءت كي تقص علينا حكايات غير تلك التي نعرف.

كتبتُ الكثير في الصحافة ثم نشرتُ منذ زمن ديوان شعر عنوانه “أسراب الحجر/قوافل الريح – حين يعود الاختصار إلى حالته الأولى” (المكتبة الوطنية الجزائرية، الجزائر، 2005) جمع حالات إنسانية من مجتمعات مختلفة ومراحل تاريخية متعددة وشعوبا لا تذكرها الأخبار ولا تتذكرها الكتب مثل قبائل الكايابوس بالبرازيل رمز التحدي ومقاومة حضارة تدمير الغابات وأشكال الحياة البدائية ببساطتها التي لا تقبل البلاستيك والعولمة. أعتقد أن مشهد الكتابة في الجزائر معقد جدا لأسباب موضوعية كثيرة ومنها نوع الاستعمار الذي شهدته البلاد وهو الاستعمار الاستيطاني الذي تعرضت له ثلاث بلدان فقط في العالم وهي الجزائر وفلسطين وجنوب أفريقيا. من السطحي جدا مقارنة الجزائر بالدول العربية الأخرى التي كان الوجود الاستعماري فيها مجرد حماية أو انتداب بحيث لم يُحرم سكانها من استعمال لغتهم وممارسة شعائرهم وطقوسهم. قوانين كريميو الاستعمارية الجائرة كانت بداية لتدمير الذات الجزائرية التي ما زالت تعاني إلى حد اليوم من بقايا تلك المرحلة. الصورة هي جزء من هذه الحكاية باعتبار أنها توثيق لكل المراحل والتحولات التي شهدتها بنفسي. بكامرتي رأيتُ أن أحسن كتابة هي الذاكرة الميكانيكية باعتبار أن التصوير الفوتوغرافي الذي هو في الأصل باللغة اللاتينية “فوتو أي “الضوء” و”غرافيا أي الكتابة” (الكتابة بالضوء) والصورة الواحدة قادرة على جمع الكثير من الحالات في نفس الوقت، قد تقول التناقض بين الفقر والثراء، بين الجديد والقديم، بين الأسود والأبيض أو أن تقول الذي يحدث بكل عفوية مثل الهمس أو القهقهة ولعب الأطفال.

كان لي مشروع تصويري مع المصورة الفرنسية كاترين بونسان (Catherine Poncin) في مدينة قسنطينة والتي تعمل طبقا لمقاربة تسميها هي “الصورة بالصورة” (De l’image par l’image) وتقوم على تركيب صورتين أو أكثر لموضوعين مختلفين ومنها تأتي قراءة الصورة الجديدة. كان المعرض في قسنطينة ثم في باريس عام 2007 حيث رأيتُ الكثير من الأشياء التي زادت في اطلاعي على عمل المحترفين وتعاملهم مع المؤسسات الثقافية وخاصة قاعات العرض والمتاحف.

كانت الصحافة مرحلة هامة في حياتي لأن اهتمامي بالشأن الثقافي والكتابة عنه خاصة بالفرنسية (هذه نقطة معقدة جدا) سمح لي بالمشاركة في الملتقيات الأدبية الهامة في التسعينات (قسنطينة، العلمة، وهران، عنابة، الجلفة وغيرها) بلقاء الكثير من الفنانين والمثقفين والتعرف على أغلبية من ينتجون الفن التشكيلي أو يكتبون الأدب في الجزائر وكذا تقديم الكتب حديثة النشر أو ترجمة بعض الكتاب الكبار مثل مالك حداد “الشقاء في خطر” ومحمد ديب “سيمورغ” وياسمينة خضرة “بماذا تحلم الذئاب”. أعتقد أني كنت وفيا إلى حد ما لمبادئي في عدم تقديم الكتب التي لا تعلّم القارئ شيئا وعدم إجراء حوارات مع الكذابين والوصوليين الذين أساؤوا للكتابة أكثر مما قدموا لها.

دراسات أنثروبولوجية

واكب كل تفصيل وحدث ولقطة بعين
واكب كل تفصيل وحدث ولقطة بعين

الجديد: أنت من متابعي الواقع الثقافي بالجزائر، إشكالاته، تحولاته، وراهنه. ما هو برأيك جوهر ما يلفت الانتباه إلى هذا الواقع؟

عبدالسلام يخلف: بحكم عملي بالجرائد باللغة الفرنسية لاحظت أنه من بين الإشكالات التي يقول عنها البعض “قضايا قديمة تجاوزها الزمن” هي مسألة أعقد مما يتصورها المهتمون “السطحيون” لأن الشرخ يكمن ليس في اللغة كأداة للتعبير أو التواصل (غنيمة حرب كما سماها كاتب ياسين) بل هي وعاء للثقافة وبئر للحفر في ذاكرة المجتمع وهندسة أساسات وجوده. من يكتبون بالعربية يُطِلون من عواصم المشرق (بيروت والقاهرة) ومن يكتبون باللغة الفرنسية يطلعون من باريس وغدت تلك بوابات الشهرة ومن تكتب عنه جرائدهم ومجلاتهم يصل القمة ويتوّج ملكا على الكتابة وهذا كله طبعا يحدث على حساب الكثير من المبادئ والقضايا التي يتنازل عنها الكاتب لقاء التتويج. يجب أن يعرف هؤلاء ونعلم جميعا شيئا مهمّا: حين حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل تمت ترجمة أعماله ونشرها في فرنسا ليس كروايات بل كـ”دراسات أنثروبولوجية”. المشهد الثقافي والأدبي في الجزائر لخصه محمد ديب حين كتب “للجزائر أموال تمكنها من إقامة جائزة بحجم نوبل” لكنها لا تفعل ذلك وتترك كتابها يتسوّلون ويتوسلون الفتات على أبواب الآخرين وينتظرون الصدقات الهزيلة والجوائز البائسة التي نعرف كيف تعطى ولِمن. أظن أن الواقع الثقافي “فيه العنب وفيه الحصرم” (كما قال ميخائيل نعيمة عن كتابه “كرم على درب”) وخاصة إمكانات النشر التي وسّعت الآفاق وبعثت الكثير ممن يكتبون وأعتقد أن هذا سيدفع بالقرّاء (طبقا لنظرية أمبرتو إيكو) إلى الحكم على الكتّاب وبالتالي سيعرف الجميع أن ليس من يكتب كتابا ويدفع المال لنشره كاتبا حتى وإن وصلت مكتبته عشرات الروايات والدواوين الشعرية. الرواية ليست غانية تتسكع في الشوارع وتمنح بهجتها لكل العابرين بل هي راسية تعرف ربّانها، والقصيدة ليست “أيّ كلام” بل نبض القلب حين تخبو جميع الحواس.

غياب الرموز

ما لفت انتباهي في المشهد الجزائري هو صحوة الكثير من الكتاب في محاولة لتدارك ما فات، كأنهم تفطنوا إلى أن الوقت يمرّ مسرعا وأنهم لم يقدموا شيئا يشرّف المرحلة. مرّت الأهوال على الجزائر في مرحلة الإرهاب ولكننا لم نقرأ نصا عامرا بالمعنى يقدم التجربة للعالم قرينة مضيئة تحرض شهوة القراءة ومتعة الاكتشاف اللهم سوى رواية “إذا شاء إبليس” لمحمد ديب. قد يُغضب هذا الكلام بعض الأدباء الذين يرون في أنفسهم كافكا أو ماركيز زمانهم ولكن الرواية المعاصرة تحولت من مجرد سرد أحداث لقول حكاية يتوسطها أبطال إلى هندسة الحكمة وفتح باب في خاصرتها يفضي إلى الروح التي تقول الحياة في كل أشكالها ولغاتها ومراحلها: تقول لحظة من وجود البشرية في سطور قد تحكي فجيعة طفل مريض بالسرطان يتمدد على سريره ويمسك بيد أمه التي تعيد على مسمعيه كل لحظات الفرح التي عاشتها معه/أو قد تطول لتروي مسيرة عائلة بأكملها مرورا بأجيال متتابعة. المهم هو الألق الذي تبدو عليه الكتابة واليقين الذي ترسمه وترسّخه ثم تزحزحه وتعبث به مع كل كلمة. بالمختصر، أرى أن راهن المشهد الثقافي يكمن في غياب الرموز المحلية، رغم كثرتها، لدى المثقفين الذين يبحثون دوما عن رداء ينطوون تحته أو اللجوء إلى ظل تمثال يتشبهون به فيعجبهم أن يقال عن رسام أنه “بيكاسو الجزائر” أو عن شاعر “رامبو الجزائر”.

أدوار المثقف

الجديد: لكن ما الأدوار التي ترى أن على المثقف الإضطلاع بها اليوم؟ ما هي المطبات التي تراها تقف حاجزا بين مسؤوليات هذا المثقف وواجباته وحقوقه؟

عبدالسلام يخلف: يجب التعامل مع مفهوم المثقف بحذر لأن العالم تغير وكذا آليات العمل والتوعية والتغيير وكل ما دار في فلك الأدوار الكلاسيكية للمثقف التي حددها الفيلسوف أنطونيو غرامشي تحت تسمية “المثقف العضوي”. أرى أن المثقف هو جزء من المسارات والأنساق الثقافية والمعرفية التي يتعرض لها الفرد من خلال التنشئة الاجتماعية والسياسية إضافة إلى الدوائر التي يتحرك في فلكها هذا المثقف. الجزائر حالة خاصة بحيث أن السلطة لم تترك أمام المواطنين سوى التعليم فرصة للارتقاء المعرفي وبالتالي أصبحت الجامعة هي البوابة الوحيدة للحصول على الحظوة وفرص العمل الذي يدرّ المال دون الجهد الكبير وبالتالي أصبحت الجامعة عشا لنوع جديد من المخلوقات التي تدّعي كونها مثقفة ولكنها في الواقع أصبحت ضليعة في الدسائس عارفة بشؤون التآمر خبيرة في اقتسام الغنائم عبر رسم خرائط لمصالح ضيقة من خلال الانخراط في سلوكيات مشينة أو في أحزاب لم تقم بشيء سوى الموالاة للحاكم وتبرير أخطائه تماما كما كانت تفعل الكنيسة بوصف حروب ملوك القرون الوسطى في أوروبا “بالحروب العادلة”.

دون الكثير من التحليل أقول إن المثقف هو ذلك الفرد الذي يساهم في نهضة البشر من حوله، في وعيهم بالوجود وبتطوير آليات التعامل مع الواقع وجعله أكثر بهاء في مستقبل عامر بالحرية التي يتمتع بها الجميع دون فروقات اقتصادية كبيرة تجعل الفقير يصفق والغني يمرّ مسرعا بعربته رباعية الدفع. المثقف جزء من النضال الأخلاقي/المعياري الذي يساهم في إذكاء النقاش حول القضايا التي تهمّ الجميع والمساهمة في حلّ المشاكل التي يتخبط فيها الضعفاء. أرى ألا يتخندق المثقف مع الأثرياء لأنهم يملكون ما يكفي، عليه أن يكون الناطق الرسمي للألم والمعاناة “والحقرة” والتهميش والظلم وهذا لا يعني أبدا أن يكون إلى جانب القضايا الخاسرة أو إلى جانب الشيطان كما يوصف أحيانا من طرف أباطرة المال ووجهاء السلطة.

ما يعوق المثقف عن القيام بدوره اليوم هو المثقف ذاته أي أن له من الحدود في عقله التي لا يود تجاوزها، يعتقد أنها خطيرة وقد تُفقده ما امتلك من خيرات مادية إضافة إلى المنافسة الشرسة التي يخوضها ضد خصومه والتي تقوده في غالب الأحيان إلى التحالف مع الشيطان (السلطة) للقيام بذلك. الحقيقة هي أن المثقف قبل أن يكتسب ذلك الوصف هو مجرد فرد من أفراد المجتمع يتأثر بما يتأثرون به وإذا لم يكن يتأثر بالآلام والمآسي في محيطه هذا فهو ينتمي إلى عالم من اختياره ولا نلومه على ذلك لكن ما عليه هو عدم إدعاء الفحولة وتقديم البطولات الكاذبة. إن العملية دوما جدلية بين المثقف والسلطة باعتبار أن الفضاء الذي يتحرك فيه المثقف (الفضاء العام بلغة الفيلسوف يورغن هابرماس) لا يحصل عليه بنضاله بل بتنازل من السلطة التي تحسن التدجين والترويض. رغم ذلك فهناك مساحات صغيرة يحتلها المثقفون الهادئون الذين يعملون في صمت وفي كل المجالات لربط النجاحات ورسم خارطة الطريق بكل وعي.

الصورة وفضاؤها

الأطفال، النساء، الفرح، المقاهي، الجسور... لكل صورة حكاية ترويها
الأطفال، النساء، الفرح، المقاهي، الجسور... لكل صورة حكاية ترويها

الجديد: في أي سياق يمكنك أن تنظر إلى الحياة من منظور الصورة وأنت المتخصص في إبداع صور لافتة.. وألبومك لا يستهان به في هذا المضمار؟ كيف تصور هل من تقنيات هل من فنيات مضافة خاصة بك؟ كيف تتواصل مع ما حولك بالصورة؟ ماذا تقدم بالضبط؟ كيف تصف المشهد الذي تحوله إلى لقطة باهرة ومبدعة؟

عبدالسلام يخلف: من الصعب أن تمارس التصوير في الجزائر لسببين، الأول هو المواطن الذي لا يقبل رؤية صورته في الجرائد، لأنه يعتقد أن كل مصور هو بالضرورة صحافي، لأن الناس لا يصوّرون (عكس انتشار التصوير بالهاتف النقال)، والثاني هو الأمن الذي يمنع كل تصوير حتى لشوارع وحوانيت عادية، أو حتى المتاحف التي تعرض التاريخ والأشياء القديمة.

أحاول دوما أن أرى الأشياء بعين شاعرة، بعين مغايرة للعادي قد تخلق نكهة للمشهد المألوف. مدينة قسنطينة مثلا أصوّرها منذ ثلاثين سنة، وأقمت في التسعينات معرضا، صورت كل المدينة ليس من مستوى المُشاهد العابر، بل من المستوى الأدنى، لأن المدينة مبنية فوق الصخرة الكبيرة التي يحيط بها وادي الرمال، وبالتالي حاولتُ مقاربة الحيز الفيزيائي من الوادي والذهاب إلى أسفل الأخاديد كي تبدو البنايات شامخة وذاك ما منح المدينة أبّهتها والصور جمالها.

أصوّر الناس في حالاتهم العادية، أثناء أدائهم لأعمالهم اليومية بكل بساطة كما يحدث دوما مع القرويين. يحبّ الناس التأنق لالتقاط الصورة لأنهم اعتادوا على صور المجلات والتلفزة، لكني دوما أفضل الوضع الطبيعي الذي يعطي بعدا وجوديا للصورة كأداة لإيقاف الزمن وأرشفة اللحظات، من خلال إمكانية مساءلتها بعد مرور السنوات عن الذي حدث آنذاك حين يكون “الآنذاك” قد امتطى بساطه واستسلم للنوم.

بخصوص التقنيات أعتقد أنه على المصوّر أن يتحكم جيدا في الأدوات التي يستعملها ولا يعتقد، كما يفعل غير المتخصص، أن الصورة تصنعها الآلة غالية الثمن. إنها تساعد ولكن الموضوع الجيد لا تصنعه الآلة لأنه ينبع من الإبداع الذي أصله العين المتمرسة على رؤية الصور وقراءة سيميولوجية الألوان والأشكال والأضداد وديناميكية الخطوط والفرح وحزن الوجود، وهذا كله يأتي في لحظة خاطفة، لأن الصورة لا تنتظر. أتحدث هنا عن الصورة خارج الأطر التي يتحكم فيها المصور داخل الأستوديو. أنا لست مصور أستوديوهات.

الكاميرا والمفاجأة

أتفوق ربما هنا بحمل الآلة معي دوما في كل الأحيان والأماكن، وأصوّر كل شيء ما عدا الجنائز، لأن الصورة الجميلة قد تأتي في لحظة لم نتصورها أو نبرمج لها (أنا لا أتحدث هنا عن المصورين المحترفين الذين ينتجون صورا تجارية إشهارية مدروسة مسبقا). لا يتحرج الناس من وجودي، وأحاول دوما أن أكتسب ودّهم قبل تصويرهم، لأن الحميمية مهمة وقد تسمح للمصور بالذهاب إلى أماكن وتصوير أشياء لم يسبق له أن رآها. رؤيتي هي أن يكون دوما للمصور بعض الحلم الذي يقتات من الجنون لأنه يتعامل مع المجهول، مع الممكن وغير الممكن، مع قطعة من متاهة أو بعض المهزلة، مع الانبهار الذي يصاب به في كل منعرج وقد يفوته لأنه لا يحمل آلة تصوير.

فهمتُ من خلال دراستي في بريطانيا بجامعة ساوثهامبتن وانخراطي في نوادي التصوير الفوتوغرافي أن المصور المحترف ليس بالضرورة المصور الجيد والناجح بل هو المصور الذي يستطيع إثبات أن 45 بالمئة من إيراداته المالية تأتي من التصوير، فقط لذا أعتقد أن قوتي تكمن في عدم كوني مصوّرا محترفا، فأنا أستاذ جامعي أحاول أن أترجم الأفكار التي أدرسها في النظريات والمقاربات في الواقع الذي أعيشه وأفهم هذا الواقع عبر الأدوات الجمالية التي بقدر ما تخلّد اللحظة بقدر ما تقول بهاء العالم الذي نعيش فيه لأنه يتميز بالنسبة إلى المشاهد بخاصية الزوال سواء الزوال الآني مثل انتقال الفصول أو الزوال النهائي المرتبط بحياة الأفراد. كل إلى عدم ما عدا الصورة.

عوالم مختلفة

الجديد: ما هي  الموضوعات التي نجحت في إبرازها من خلال الصورة؟

عبدالسلام يخلف: لا أحاول أن أثبت شيئا للآخرين بقدر ما أريد أن أوثق للعالم الذي أعيشه، كي أسرد مسيرتي في عوالم مختلفة، حتى أن آلة التصوير غدت ذاكرتي التي لا أستطيع الاستغناء عنها. بواسطتها أستطيع أن أقول أنا الرجل الذي رأى كل شيء. أتفرج على صوري القديمة وأود أن أرسلها في مواقع النت كما تفعل امرأة مع ثيابها حين تضعها فوق حبل الغسيل، تطل عليها العيون من الشرفات البعيدة وهي تسرد على مسامعها ما رأته من قصص وحكايات وتدحرج أمامهم الوجوه التي كانت في اعتكافها لا تجاهر بالإصغاء منتظرة الصبح التالي، مفترشة أرواح الغائبين عن ولائم الفرح.

القضايا التي أبرزتها في صوري كثيرة وتذهب في اتجاهات عديدة، سحر المدينة وعنفوانها وعبث أهلها بما تبقى من جمالها، الآثار التي تصرخ وتموت في صمت. آخذ مثالا بسيطا وهو مسجد سيدي لخضر بالمدينة القديمة بقسنطينة الذي كان واقفا، صامدا أمام كل الأعاصير ولكن السلطات قررت ترميمه، فقامت بدل ذلك بتخريبه وتحضيره لنهاية مأساوية. ذنبه أنه المسجد الصغير الذي خلق شرخا بين اليهود والقسنطينيين في 5 أوت 1934 حين قام أحد اليهود بالتبول داخل المسجد وسب المصلين مما أدى إلى شغب كبير أدى إلى موت الكثير وتحطيم الكثير من ممتلكات اليهود بالمدينة. هذا المسجد شاهد على ما حدث وأظن المؤامرة تقوم بتدميره اليوم والصور هي جزء من الحكاية التي ربما سترويها للأجيال القادمة التي سيصبح هذا المعلم مجرد ذكرى أو حتى إشاعة يكذّبها المغرضون.

من خلال عملي كصحفي في الشأن الثقافي اهتممت أيضا تصويريا بالفنانين التشكيليين وبعملهم ومن أمثالهم عمار علالوش وبشير بوشريحة وعلي دعاس الذين حاولت تتبع مسارهم في الإبداع ومحاولة خلق المعنى. الأول عبر مسيرة طويلة بين الجزائر وتونس والانتقال من الفن الواقعي إلى النصف تجريدي، والثاني عبر الرسم الواقعي لمدينة قسنطينة وتقديمها بشكل شيق ينبض باللون، والثالث عبر ريبيرتوار مغاير تماما وهو التركيب من خلال عملية الاسترجاع التي تنطق قطع الدمى المهشمة وقواقع السلاحف والقارورات القديمة بلمسة ساحرة.

الأطفال، النساء، الفرح، المقاهي، الجسور، الشوارع، المجانين، الأسفار، الأسواق… لكل صورة حكاية ترويها لما قبل و ما بعد التقاطها لأن الصورة كائن حي، فهي تضج بالمعنى والاشتعال، تحكي المكائد وتكشف الطرق للتائهين، ترشد العابر إلى حتفه وتدله على الأفق الرحب، تربّت على كتف البيوتات المتراصة وتمنحها هدأة ناعمة ورئة تتنفس بها حين ينساها المسؤولون المرتشون الذين يفضلون الفيلات الفاخرة والأحياء الراقية. قسنطينة مدينة لها تاريخ علينا أن نحافظ عليه بكل فخر لأنها مدينة كوسموبوليتانية عبرت الحضارات والزمن وساهمت في بناء تاريخ البشرية.

رحلتي مع محمد ديب

الصورة كائن حيّ
الصورة كائن حيّ

الجديد: رافقت صورك بعض نصوص كتاب جزائريين كمحمد ديب خاصة. كيف ساهمت صورك في تتبع هذه النصوص؟

عبدالسلام يخلف: لقد رأيت التكامل الجميل بين التصوير والكتابة فأعدتُ للعلاقة نسقها العادي وزاوجت بينهما. بدأت الحكاية ببعض من حياة مالك حداد التي سردتها بالصور وبعض الموسيقى ونص يرافق الديابوراما بطريقة فنية، هي شريط يحكي بطريقته حياة الرجل الذي قال “حين أموت أكتبوا على قبري شاهدة تقول: هنا يرتاح مالك حداد” لأنه يكره “هنا يرقد”. الشاعر لا يموت، يرتاح قليلا، يأخذ غفوة ثم يطير بالجناح ملامسا سقف البلور، محيّرا العين التي تراه للتو عائدا إلى بيته وهو يحمل باقة ورد للجالسين حول طاولته.

من محطة “لا ديفونس” بباريس ذهبتُ لزيارة قبر محمد ديب وكتبت نصا عنوانه “من ممر الأيائل إلى شجر الكلام”، و ممر الأيائل (Le passage des cerfs) هو اسم الحي الذي يقطن به، أما “شجر الكلام” (L’arbre à dires) فهو عنوان أحد كتبه وهي الكلمات التي نقشت على شاهدة قبره بمقبرة لاسيل سان كلو بضواحي العاصمة الفرنسية. حكيتُ الزيارة بالكلام ولكن أساسها الصور التي رصدتُ فيها محطة القطار والمسافرين والعابرين والبنايات والشوارع واللافتات والأشجار والقبور والنباتات والأبواب والصمت والحركة، كل شيء من شأنه أن يقول كلمة تضاف إلى الملحمة لأن محمد ديب كان ملحمة جزائرية نسيها الوطن.

بعد انتشار الأصولية الإسلامية قال الناشر لمحمد ديب “كتبك يا سيدي لم تعد تباع كثيرا، هلا نزعنا من أغلفة الكتب القادمة اسم “محمد” ونترك “ديب” فقط، فردّ محمد ديب قائلا “أخذتم كل شيء من بلدي الجزائر مدة 132 سنة وها أنتم تلاحقونني في الاسم. ما أوقحكم”.

ديابوراما كاتب ياسين تحمل عنوان “بربكم قولوا: من أين طلع هذا المارد المتمرد؟” وهي حكاية زيارة قمت بها إلى قرية “عين غرور” وهي قرية أجداد الكاتب والمكان الذي كتب فيه مخطوط روايته العالمية “نجمة”. قمت بمحاورة المكان من خلال الشواهد الموجودة ولكن عبر الشعر والكتابة. أبدأ النص بكتاب “أسماء” (Names) للشاعرة الأميركية مارلين هاكر (Marilyn Hacker) التي أهدت إحدى القصائد في كتابها هذا لكاتب ياسين. في القرية وجدتُ امتدادا لروح كاتب ياسين والكثير من التفاصيل الجميلة التي لم يقلها كاتب في “نجمة” على غرار تلك الشجرة التي قيل لي من قبل سكان عين غرور أنها شجرة لا تشيب وقد وجدها أجداد أجدادهم على الحالة التي هي عليها الآن. كانت تلك الشجرة التي تخفي الغابة في عالم الصورة الفوتوغرافية. الشجرة “البطومة، كما يسميها أهل القرية، التي تنام في خاصرة المقبرة حيث تظلل ياسين ما زالت عشا للعب الأطفال. الصور هي الشاهد على الكلام.

الصورة العربية

الجديد: ما هو حال هذا الفن، فن التصوير، في العالم العربي كيف تتابعه هل يمكن أن نقول إنه متقدم بالنظر إلى مثيله في العالم الغربي؟

عبد السلام يخلف: الفنون وكل أنواع الإبداع هي صورة وفية للمجتمعات التي تولد بها ليس بالمعنى الماركسي للكلمة ولكن بمنطق الفيلسوف أدورنو ومصطلح “صناعة الثقافة” (Culture industry) في عرف كتاب اليسار الجديد. فالتصوير الفوتوغرافي في الدول العربية حديث النشأة وعموما يحاول تقديم صورة شيقة وجميلة عن البلاد التي يعيش فيها المصور. وهنا يحدث للمصورين العرب ما حدث للرسامين في أوروبا في القرن الثامن عشر حيث أن قاعات العرض الوحيدة المتوفرة آنذاك هي القصور وبالتالي قاموا برسم لوحات تجمّل الواقع وتقدمه في أبهة كي يرضى عنهم أصحاب الشأن وضيوفهم ويقومون بمكافأتهم. هذا ما يحدث في العالم العربي حيث يتهافت جلُّ المصورين على المشاركة في الجوائز والبحث عن الشهرة، وليس في خزائن البعض منهم مئة من الصور الجميلة التي تروي حكاية.

بدأت تظهر هنا وهناك تجارب طيبة لمصورين قدّموا أشياء جيدة للنظر مثل المصري محمد شرف المختص في المناظر الطبيعية، والمغربي يونس الرامي المختص في تصوير الطيور رغم قصر تجربتهما. الملاحظة هي أن هذا الفن ما زال لم يجد المساحات الكافية كي يثبت قدرته على المشاركة في ترسيخ القيم وخلق حوار بناء بين الإنسان ومحيطه.

المفارقة هي أنه في الوقت الذي يتبادل الناس فيه ملايين الصور في مواقع التواصل الاجتماعي ما زالت الصورة لها شأن يسير ولم تصل بعد إلى قيمتها الخارقة للعادة. صالونات ومعارض التصوير الفوتوغرافي عارضة ولا توجد متاحف دائمة للصورة الفوتوغرافية ومؤسسات قارة تساهم في ترقية هذا الفن.

تعاملت مع صديقي الفنان التروبادور غايتان فياريس (Gaëtan Viaris de Lesegno) الذي يكتب الشعر ويقيم حلقات الرقص في بلاد “الدوقون” (Dogon) بدولة مالي ثم يصوّر آثار التراكيب المؤقتة التي يقيمها على الرمل. يلقي محاضرات في المؤسسات الفرنسية عن كيفية النظر إلى لوحات فناني القرون 16 حتى 19 الموجودة في المتاحف الأوروبية والأميركية.  أثمر التعامل معه في ترجمة نصوصه الشعرية من الفرنسية إلى العربية وتلحينها بنغمات المالوف القسنطيني وتقديمها أمام جمهور عارف في 2009 بدار الثقافة بقسنطينة.

فرادة الصورة

الجديد: كيف هو في الجزائر هل هناك اهتمام خاص بفن الصورة؟ أم أن الأمر ما زال يقتصر على أفراد يهوون هذا الفن؟

عبدالسلام يخلف: أعتقد جازما أن وجود هذا الفن في الجزائر يعود إلى هواية متجذرة لدى بعض الأشخاص الموزعين على خارطة البلاد. شخصيا أقمت أكثر من عشرين معرضا للصورة الفوتوغرافية الفنية كان منها أربعة فقط من المعارض الجماعية في صالونات الصورة التي تنظم هنا وهناك دون مداومة، وهي هواية مرتبطة أيضا بالأشخاص المسؤولين على مستوى المؤسسات الثقافية وخاصة دور الثقافة. أرى أن هناك بعض المصورين الذين يحاولون جمع الشتات لكن تبقى النشاطات على مستوى الفايسبوك والمواقع الأخرى. قام بعض الشبان في قسنطينة مثلا بتنظيم خرجات إلى الطبيعة يصاحبها تصوير لكنني لا أحبذ هذا النوع من التصوير الذي يحصل فيه كل الفريق على نفس الصورة. الصورة واحدة، متفردة، لا تشبهها صورة أخرى باعتبار أن الصورة هي الضوء وهذا الضوء متغير من لحظة إلى أخرى والناس متحركون أيضا في حيزهم وذاك ما يخلق الجمال المتفرد.

يوجد أشخاص لهم علاقات في الإدارات وفي دور النشر وبالتالي تمكنوا من نشر كتب، لكن ذلك يدخل في عداد النجومية التي لا تؤسس لفن حقيقي قادر على مجاراة ما يحدث في المجتمع. كتاب عن قسنطينة مثلا به مئة صورة التقطت كلها في نفس اليوم بنفس الإضاءة: جريمة في حق المدينة التي ترقص تحت ضوء الفصول المتغيرة بحيث في الخريف تطلع الأحراش في جنبات الأخاديد، وفي الشتاء يأتي الثلج من مخبئه كي يدثر القرميد والمنحدرات، وفي الربيع يلفّ الضوء الأخضر كل ربوع الصخر، وفي الصيف تأتي السماء كي تواسي الغربان المعششة في الصخور الكلسية، المستريحة في دفء الظهيرة. لا ألوم المحترفين الذين يصورون الطبيعة أو الأطفال أو الحيوانات أو الشوارع أو الهندسة المعمارية أو البورتريه أو أماكن العمل أو النساء، لأن ما ساعدني في هذا المجال هو وجودي في كل مكان والتقاطي للصور لكل ما يقع عليه النظر ومن شأنه أن يمرّر خطابا جماليا أو فلسفيا أو اجتماعيا أو غير ذلك. عدم تخصصي في موضوع معين ساعدني على التنويع في ريبيرتوار الصور التي أمتلكها.

لا يمكنني التحدث عن التصوير الفوتوغرافي في الجزائر دون الإشارة إلى رجل أفنى حياته في حب هذا الفن، في نشره بين الشباب ودعمه بتنظيم الصالونات واللقاءات لجمع المصورين من كافة أرجاء الوطن. رشيد مرزوقي (الذي توفي في 11 جويلية 2019) ابن مدينة قالمة، والجزائري المختص في التصوير الفني، قدم الكثير في مخبره إضافة إلى اهتمامه بالتطبيقات التي تتعامل مع الصورة الفوتوغرافية. لا متحف سيحتوي صوره و لا مؤسسة ثقافية ستحافظ على تراثه الفني.

الجزائريون والصورة

في الوقت الذي يتبادل الناس فيه ملايين الصور في مواقع التواصل الاجتماعي ما زالت الصورة لها شأن يسير ولم تصل بعد إلى قيمتها الخارقة للعادة
في الوقت الذي يتبادل الناس فيه ملايين الصور في مواقع التواصل الاجتماعي ما زالت الصورة لها شأن يسير ولم تصل بعد إلى قيمتها الخارقة للعادة

الجديد: كيف يمكن في نظرك أن يرتقي فن التصوير في الثقافة العربية كي يأخذ مكانته التي يستحقها بين فنون أخرى؟

عبدالسلام يخلف: لا يكون هذا الارتقاء إلا بمنح هذا الفن بإتاحة الفرص على مستويات عدة للمصورين المبدعين وهواة التصوير للتفاعل بين إمكاناتهم والمكان، لينطلقوا من دون قيود في مغامرات بصرية حقيقية تنجز ما يسمح لهذا الفن بشغل المكانة اللائقة به، لأنه بقدر ما هو إبداع شخصي بقدر ما هو أيضا صورة للمجتمع في محطة تاريخية معينة. إنه أرشيف الأبجدية والطقس والمدارج والخسارات والفسيفساء والملاحم والنبوءات وضحك الأطفال في منحدرات الشوارع. يجب إحداث قائمة وطنية للمصورين كي تنتبه المؤسسات الثقافية إلى نشاطهم وتدعو منهم من تحتاجه ولا يحدث ذلك طبقا للعلاقات الشخصية.

بين 20 و24 نوفمبر 2014 حضرتُ نشاطا تصويريا أشرف عليه الاتحاد الأوروبي ضمن مشروع “رؤى متقاطعة” (Regards croisés) بهدف تصوير التراث الثقافي بمدينة قسنطينة (قبلها كانت مدينة الجزائر وبعدها مدن أخرى). جاء المصورون الأوروبيون وعددهم 11 ومعهم مصورون جزائريون عددهم 10 ولم يكن من ضمنهم واحد من قسنطينة بحيث كلهم جاؤوا من مدن أخرى وحتى من فرنسا. أنا حضرتُ بالصدفة وكانت لي فرصة التجوال مع مصوريْن كبيرين هما جون كريستوف بالو (J.C.Ballot) من فرنسا وكيم نايلور (K.Naylor) من السويد، أخذتهما إلى أعماق المدينة العتيقة والبيوت المتراصة التي لم يكونا ليبلغاها لولا تجربتي في هذه الشوارع وعلاقاتي مع الناس. جاء الأوروبيون بتنظيم محكم وقابلناهم بمصوري الجرائد لأن في اعتقاد المؤسسات أن المصور بالجريدة مصور حقيقي وبأشخاص لا يعرفون المدينة حتى. التقطوا الصور لقسنطينة وكان المعرض في العاصمة. يا للسخرية. ما زالت الأشياء تحتاج إلى مراجعة كبيرة.

هناك بعض مدارس الفنون التشكيلية والأقسام في الجامعة التي تهتم بالتصوير وخاصة كلية الفنون والثقافة مثلا بجامعة قسنطينة التي تحاول مأسسة هذا الفن وإعطائه نصيبا من الاهتمام الأكاديمي وهذا ما سينقل مستقبلا هذه الهواية والتشتت الذي يعتريها إلى مستوى جديد كلل مؤخرا ببعض مذكرات الماستر التي لها علاقة بالتصوير. في الدول الغربية يختلف الموقف لأن لهذا الفن تاريخا طويلا وحضور آلة التصوير في يومياتهم كبير، إضافة إلى المتاحف والمجلات والكتب التي تدعمها مختلف المؤسسات، والجوائز والمسابقات والمواقع الإلكترونية، ودور النشر ووكالات التصوير وبنوك الصور، وهذا ما يخلق ديناميكية بعيدة جدا عن واقعنا. الصورة ما زالت تخيف المؤسسات وترى فيها شاهدا خبيثا على ما يحدث رغم أن ما يحدث لم يخترعه المصور. الصورة ليست شاهد زور.

ربيع عربي واستثمار غربي

الجديد: كيف تنظر إلى ثورات الربيع العربي؟ كيف تقرأ التحولات العاصفة التي يشهدها العالم العربي اليوم، وما الذي تراه في المسافة بين الوقائع الجارية والحلم والتطلعات؟

عبدالسلام يخلف: أنظر إلى “الربيع العربي” بعين المتخصص في العلوم السياسية والعلاقات الدولية. في موقع وكالة الاستخبارات الأميركية في نوفمبر 2008 نشرتْ وثيقة تحمل عنوان “المسارات العالمية 2025: عالم متغير” (Global Trends 2025 : a Transformed World) قدمت فيها الوكالة جملة من الفواعل والأحداث التي من شأنها أن تصنع المستقبل. كانت هناك خارطة جغرافية للعالم العربي وللتغييرات التي كانت تحضّر لها الولايات المتحدة الأميركية لاقتسام العالم العربي في سايس بيكو جديدة لكن دون تستـّر. طلب بوش الابن من الحكام العرب فتح ثلاثة أشياء: عقولهم للتيارات الجديدة الصديقة للديمقراطية وحقوق الإنسان، حدود دولهم للسلع والأشخاص والدخول في مسارات العولمة، أبواب سجونهم كي يخرج المعارضون ومساجين الرأي. يقول الرئيس الأميركي “إذا لم تفعلوا هذا في ظرف عشر سنوات، سنأتي كي نقوم بذلك مكانكم”. كان العرب في سبات ولم يستمعوا لما كان يأتيهم من تهديد. لم تفاجئني أبدا كل الأحداث من تونس إلى ليبيا لأن أميركا لم تكن تعمل في الخفاء بل أعلنت عن إستراتيجية اسمها “الشرق الأوسط الكبير” (The Great Middle East) ونشرت رؤيتها للعالم المستقبلي. “الربيع العربي”، رغم  فوران دم الشباب الحالم بالتغيير، ورغم الحقيقة الإنسانية العربية الرافضة للاستبداد، والمتطلعة الى مستقبل مختلف، ، ورغم حق الناس بالتظاهر والتحرك لأجل تجاوز نمط الحكم القروسطي المهيمن على المجتمعات، استعملته القوى الغربية أداة استراتيجية لتحقيق الاضطراب الذي يقود إلى الفوضى الخلاقة التي تحدث عنها الأميركان، الانقلاب على الأنظمة باستعمال المحاربين المحليين في كل دولة دون خسارة في أرواح الجنود الأميركان تحت ما سمي “الحرب دون ضحية” (War with Zero Casuality). من دون أن يسمح الحال الجديد للشباب الحالم بالتغيير بإنجاز خطوة حقيقية نحو المستقبل المنشود.

بعد نهاية الحرب الباردة أصبحت أميركا هي القوة العالمية الوحيدة المهيمنة وانتقلت من كونها قوة عظمى (Super power) إلى القوة المهيمنة (Hyper power) وبالتالي أصبحت تسيطر على الاقتصاد العالمي ولذا فإن الأنظمة الدكتاتورية التي كانت تخدم المعسكر الغربي أثناء تعارضه مع المعسكر الشيوعي قد أصبحت عالة وتضر بترتيبات النظام الدولي تحت إمرة أميركا القوة المهيمنة. كانت النظرية الليبرالية التي مهد لها المفكر فرانسيس فوكوياما في بداية التسعينات من القرن العشرين بكتابه “نهاية التاريخ” والتي قامت على مبادئ حقوق الإنسان ومبدأ “دعم الديمقراطية” (Democracy Promotion) قد أصبحت مطية للرئيس بوش الابن لخوض حربه على العراق وتم تدعيم ذلك بنظرية “صراع الحضارات” لصاموئيل هانتنغتون مدير معهد الدراسات الاستراتيجية التابع للبنتاغون والذي ملخصه أن القضاء على المعسكر الشيوعي لا يعني القضاء النهائي على الأعداء، لأن العدوين المتبقيين وهما الصين والعالم الإسلامي ما زالا يشكلان خطرا على الحضارة الغربية. أخطرها جميعا هو الإسلام طبعا.

لم أصدَم مثلا بقصة بن لادن من بدايتها إلى نهايتها، مثل فيلم هوليوودي، لأنني في 1988 أعددت مذكرة الماجستير بجامعة ساوثهامبتن البريطانية تحت إشراف البروفيسور فيل وليامس تحمل عنوان “التدخل السوفياتي في أفغانستان وعلاقته بمرحلة الانفراج الدولي”. عرفت أن بن لادن عضو في المخابرات الأميركية وصورته مع بريجنسكي مستشار الأمن القومي آنذاك تملأ اليوم الإنترنت. أميركا تتلاعب بالعقول وكأن سكان الأرض أصيبوا بالأمنيزيا/مرض النسيان. الجميل أن أميركا لا تكذب أما الحكام العرب فهم الذين يكذبون على شعوبهم وعلى مستقبل الأجيال التي ستلعنهم.

الأمل الجزائري

ملامح من مدينة قسنطينة
ملامح من مدينة قسنطينة

الجديد: كيف واكبت ما حدث في الجزائر من حراك؟ هل هي ثورة أم انتفاضة أم لحظة تاريخية للجزائر؟ ما هي برأيك أدوار المثقف فيها؟ والصورة كيف قبضت على اللحظة صورتك أنت بالذات؟

عبدالسلام يخلف: كنت من أوائل المعارضين للتلاعب بالدستور وترسيخ الدكتاتورية بالعهدة الثالثة وطلبتي بكلية العلوم السياسية بجامعة قسنطينة يشهدون على ذلك لأن رأيي ينبني على تلك المرحلة السوداء التي مات فيها 300 ألف من الجزائريين وتم تدمير البلاد عن آخرها وتدمير النفوس والأخلاق. مات الناس كي تخرج الجزائر من النفق إلى النور لكن للأسف وكأن شيئا لم يكن، تم بناء دستور على المقاس وجاءت عصابة استولت على خيرات الوطن. الحقيقة هي أن ما يحدث في الجزائر لا يشبه ما يحدث في دول أخرى من العالم، وبالتالي يجب أن نجد له نعتا جديدا غير متداول. إنه ليس بثورة ولا بانتفاضة لأن هاتين الظاهرتين تحدثان بواسطة العصيّ والصراخ والاستعداد للمواجهة مع قوات الأمن في كل لحظة. يكون الجو مكهربا وسبب الاقتتال واردا.

في الجزائر يقوم المواطنون بالاستعداد للحراك كما يستعد الناس عادة للعرس، إنها ظاهرة فريدة من نوعها في العالم يسقط اللصوص الذين رهنوا البلد لقوى ظلامية خارجية وداخلية راحت تعبث بثروات المواطن وترمي بأحلامه إلى المزبلة. إنها مسيرات للأطفال والعجائز والمعوقين ونصف المجانين والمهمشين من الشباب الذين كان النظام يصفهم بالمنحرفين، بالمجرمين، بالحراقة، بالحيطيست (البطالين الواقفين أمام الحيطان). شباب من ذهب ينفض الغبار عن الأكتاف ويخرج للشارع كي يقول كلمته الأخيرة بعد طول انتظار.

يجب أن نشهد بأن الشعب الجزائري صبور وقد منح النظام فرصا عديدة كي يقدم شيئا إيجابيا لكن الإخفاقات كانت كثيرة في الوقت الذي تودّ الدول رؤيتنا نحتل مناصب أعلى بفضل القدرات الاقتصادية والبشرية والجغرافية التي نمتلكها. أعتقد أن هذه الخصوصية الجزائرية تحدّث عنها عالم الاجتماع بيار بورديو (P. Bourdieu) الذي حين أراد كتابة “سوسيولوجيا الجزائر” في 1962 قال في مقدمة الكتاب “كي تدرس هذا المجتمع عليك أن تنسى كل مفاهيم ونظريات علم الاجتماع التي تعلمتها في الجامعة وعليك ابتكار أدوات جديدة لفعل ذلك”. أرى أن موقفه ما زال صحيحا فيما يخص ما يحدث اليوم.

دور المثقف هو أن يكون حاضرا بشكل فعال وهو الذي غاب عن الساحة طوعا أو كرها. عليه أن ينخرط بطريقة عقلانية في النسق الذي يقود البلاد إلى أفق رحب وأن يخلق لنفسه حيزا في الخندق الذي تقف وراءه القوى المناوئة للعصابة.

كل جمعة يخرج الناس في قسنطينة في مسيرات حاشدة لكن الطلبة وأساتذة الجامعة يخرجون يوم الثلاثاء وكأنهم يريدون لأنفسهم رواقا خاصا باعتبارهم النخبة وهذا في رأيي خطأ استراتيجي كبير لأنه يؤدي إلى عزل هذه الجماعات عن المجتمع. حصولنا على شهادات جامعية وتعلمنا للغات أجنبية وممارستنا لمهنة التدريس لا يمنحنا الحق كي ننفصل عن باقي سكان البلاد. هنا  يأتي الدور الحقيقي للمثقف وهو الاحتكاك بكافة طبقات وأشكال الوجود البشري وتقديم ما عنده من وعي للشباب الذي لم يحصل على تعليم كاف والذي قد يصبح لقمة سائغة للقوى الخارجية التي تكتب الشعارات وتمررها عبر قنوات معروفة لا يعرفها من لا يطلعون على التقارير الأمنية التي تنشر في الإنترنت والمحاضرات التي تلقى في كبريات الجامعات العالمية.

البحث عن صورة

أحضر كل جمعة بكامرتي، أصوّر الناس كجماعات تمشي في كتل، أصوّر الأفراد وهم يصرخون ويرفعون الأيادي، أصوّر مختلف اللافتات التي تحمل شعارات تتغير كل أسبوع وتتطور حسب الأحداث وكلما مرّت الأيام أصبحتُ صديقا للبعض منهم فيقفون أمامي مبتسمين أو ملوحين بالأيادي أو ينضمون إلى جلسة الأصدقاء بعد المسيرة. أحاول أن أبحث عن الصورة التي تلخص الغليان محترما رأي المصور العالمي روبرت كابا (Robert Capa) القائل “إذا لم تكن صورتك حسنة بما فيه الكفاية فأنت لم تكن قريبا بما فيه الكفاية” (If Your Pictures Aren’t Good Enough, You’re Not Close Enough) ولذا أقتربُ من الناس ولا ألتقط الصورة من بعيد كاللص. هي صور حميمية بالرغم من أنها تحدث داخل جماهير منطلقة كالسيل ولكل فرد حكايته مع النظام والألم. لكل فرد في النهاية سببه في الخروج إلى الشارع والتشبث بالمطالب. أفضل دوما الصور التي تحكي القصص التي نحتاج إليها جميعا كي نزرع في أرواحنا نبضا جديدا يمر عبر حكايا الآخر الذي لم يكن أبدا في مخيلتنا ولم نهتم لما حصل له. الصورة لها القدرة على جعل الحكاية الخاصة حكاية جماعية نتعاطف معها أو نبتسم لرؤيتها. مثلا صورة الرجل الذي كان جنديا يحرس الشركات الكبرى وهو اليوم معوق لا يحصل سوى على الفتات. لم يفرّط في العلم الوطني.

إني أصوّر

الجديد: ما هي أجمل صورة التقطتها وما زالت تلعب في ذاكرتك.. هل هناك مثل هذه الصورة التي لا تستطيع الفكاك منها؟

عبدالسلام يخلف: إيييييه… التقطت آلاف الصور لأفراد عائلتي وأصدقائي، للكباش والطيور والأبقار والمنازل المعزولة والبيوت المهجورة والفيلات الجميلة والأكواخ الحقيرة ووجوه الناس والأعراس والرحلات والخيبات وتوزيع الجوائز والجبال والرجال والصحارى والبحار والدشرة والدوّار وأماكن في دول أخرى والأطعمة والمشروبات والقوارير الفارغة والأشجار والفراشات والدموع والصراخ والنوم والظلمة والضوء والغروب والشروق والمهن… معظم الصور لا تعني الشيء الكثير للمشاهد لكنها تتحدث إليّ بلغة العاشق وتقول ما لا تسعه الأبجدية، لأنها تحكي لحظة قد ولت وغدت بعضا من الذاكرة. فعلها رولان بارت حين رأى صورة محكوم عليه بالإعدام يساق إلى المقصلة فقال “لقد مات وها هو سيموت” (Il est mort et il va mourir). بعد أن نموت، تمنحنا الصورة فرصة لمواصلة الحياة. هذا فضلها الراقي علينا.

لكل مرحلة أو حالة صورتها الأجمل التي تختصرها لكن إذا كان ولا بد أن أختار صورة من المئات التي أمامي الآن فسأقول إنها صورة للمصوّر الأميركي العالمي وليام كلاين (William Klein) عام 2009 أثناء الاحتفالات بالمهرجان الأفريقي حيث صوّرته منذ دخل الساحة حتى غادرها. الصورة ليست فنية بقدر ما هي تاريخية لأن الرجل هو الذي استقدمه الرئيس بومدين عام 1969 كي يكون مسؤولا عن تغطية الاحتفالات بجملة من فرق التلفزيون وطائرتي هيلكوبتر وها هو في سن الـ81 يأتي إلى نفس المكان بعد 40 سنة بآلة “لايكا” حول رقبته يصوّر فرقة فلكلورية وهي تؤدي بعض المقاطع الموسيقية المعتقة من التراث. الجميل في الحكاية هو أنني حين سألته عن قطعه المسافات رغم المرض (وكان قد أجرى عملية جراحية قبل أسبوعين فقط) وعما يفعله هنا قال مبتسما: “إني أصوّر”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.