محمد الأشعري لذّة الكتابة

الخميس 2021/04/01

يعتبر الشاعر محمد الأشعري من أهم شعراء المغرب المعاصرين ومن أكثرهم إنتاجا وانتظاما في وتيرة نشر أعماله الشعرية. من حيث الفكرة الأجيالية، الأشعري من أبرز أصوات جيل السبعينيات إلى جانب عدد من الشعراء بينهم محمد بنطلحة، محمد بنيس، عبد الله راجع، المهدي أخريف، مالكة العاصمي وأحمد بلبداوي.

تميز الأشعري بحس شعري مختلف في كتابته الشعرية ظل الأساس المائز فيه إمعانه في تسريد القصيدة حتى إنه زاوج بين القصيدة والسرد القصصي والروائي، وبرع في الخطابين معًا، إذ سبق له أن فاز بجائزة البوكر العربية عن روايته " "القوس والفراشة"، وتُوّج مؤخرا في المغرب بجائزة الأركانة العالمية للشعر.

سبق لمحمد الأشعري أن كان وزيرا للثقافة في بلاده، إذ تحمل المسؤولية ضمن فريق من الوزراء الاشتراكيين، واعتبر عبوره في هذا الموقع موفقا وذا مصداقية، ومن ثم أمكنه أن يسهم في جعل الثقافة في عمق المشروع التنموي الوطني، وكان له منجز جدير بالاحترام متوافق مع خياراته الفكرية والسياسية.

هنا حوار مع محمد الشاعر، إثر فوزه بجائزة الأركانة (Argana) يقترب منه ومن أفقه الشعري والإبداعي أجراه عبدالكريم الجويطي صاحب رواية "المغاربة" والمعدود اليوم واحداً من افضل روائيي المغرب.

قلم التحرير‎

الجديد: في مستهل هذا الحوار أود أن أعيدك للتفكير في منابع الرؤية الشعرية للعالم وتجلياتها، أين تراها: في علاقة مع اللغة؟ أحلام الطفولة؟ عذابات الاقتلاع؟ الافتتان بالطبيعة؟ أقصد ما هي الكيمياء التاي تجعل الواحد شاعرا؟

محمد الأشعري: ليس هناك منابع قارة، ونهائية. والمنبع الواحد هو في الآن نفسه منابع متعددة، ومتغيرة باستمرار. خذ اللغة مثلا، إنها ذلك المخزون البعيد المشترك بتجلياته الكلاسيكية كما هي في الشعر العربي القديم، وبأبعاده القدسية كما هي في الذاكرة الدينية والصوفية. ولكنها أيضاً ذلك المسار المتقاطع مع (لغات) الأم، ومع الرصيد الشعري الموجود في قلب المغامرة الشعرية، ولكن خارج لغة الكتابة، ثم إنها على وجه الخصوص ذلك التحوّل العميق الذي تحدثه تحولات المجال، وتلاقح التعبيرات الفنية والأدبية، وحيوية اليومي، والحياة التي ليست لغة فحسب، ولكنها لا تكون حياة إلا إذا تجلت في اللغة.

وكذلك كل الأشياء التي أشرت إليها. فالعلاقة هي علاقة دائمة التحول. إنها حتى اليوم ما تزال بالنسبة إليّ مرتعا للإمساك بلحظات شعرية أساسية، ولكنها تبعا لما أنا عليه في “الآن” طفولة مختلفة عن تلك التي استعدتها في مراحل مختلفة من حياتي. وبهذا المعنى فإن الطفولة ستبقى دائما منبعا أساسيا في علاقتي بالشعر، ولكنها أبدا لن تكون طفولة واحدة أو الطفولة نفسها.

أومن بمنبع جوهري، ولكنني لا أتصوّر التجربة الشعرية محكومة فقط بالاشتغال على اللغة. هناك دائما ضرورة قصوى لاشتغال صبور ومضن، للتحرّر من لغة الذاكرة. من التماثل والمحاكاة والاسترجاع وإعادة إنتاج المألوف والمتداول، وهذا التحرّر هو جوهر الكتابة الشعرية التي يهمها بالأساس حتى وهي تشتغل “بلغة تاريخية” أن تبتكر تاريخا جديدا للغة.

ومع ذلك فإنني غير مقتنع بحصول كل شيء في اللغة وحدها، هناك بُعْدٌ أساسي في بناء الرؤية الشعرية يتعلق بتفاصيل التجربة الشخصية، في علاقتها بالألم واللذة، بالرغبة واليأس، بالموت والطبيعة، وبالتداخل المستمر بين الممكن والمستحيل.

في ما عَبَرَهُ من شكوك ومن تفاصيل ومن يقينيات، في امتلائه وخوائه، في موت أوهام وميلاد أوهام أخرى. في استقرار نوع من الحدس في العلاقة مع الشعر، يقوم على الانتظار والتوقع والسعي إلى المرور (صدفة أو استباقا) من حيث تمر القصيدة.

ثم إن ما تغير بالأساس هو العالم الذي نعبره، يخترقنا في كل حين بتحولاته المذهلة، وبالمباهج والأوجاع التي يُرَسِّبُها في دواخلنا. وعند ذلك فإن الشعر نفسه يغادر كيمياءه القديمة، وقد لا نجده إطلاقا حين نطلبه.

لقد تغيرت تبعا لكل هذا علاقتي الشخصية بالشعر. لم أعد أطالبه بشيء، صرت أكثر انتباها لما يطلبه. لم أعد ألهث خلفه متوترا. صرت ألاحقه كطرائد متمنّعة، وإذا لم أظفر بها ظفرت بمشاعر المطاردة. أصبحت معه ” قلقا مطمئنا” ولم أعد أخاف منه أو أخاف عليه.

التفاوض الصعب

الجديد: بعد هذه الرحلة الطويلة مع الشعر، بعد كل هذا الوفاء، أسألك ما الذي بقي على حاله منذ أن كتبت أول جملة شعرية، وما الذي تغير؟

محمد الأشعري: ما بقي على حاله هو ذاك الإحساس بالوجود في لحظة انبثاق للحياة، كتلك التي يمنحها الوجود في حضرة ظاهرة طبيعية مذهلة. (شلالات أو براكين أو صحارى أو غابات) نكون أمام سخاء غامر للغة (هذه الظاهرة الطبيعية الأخرى!) ولا نعرف ما إذا كنا سننال منها شيئا قليلاً أو كثيراً، شيئاً سطحياَ أم جوهرياً، شيئاً عابراً أَم مقيماً.

ما بقي على حاله هو نوع من التوتر الموجود في كل تفاوض صعب، هل نحضر في الكلمات أم حولها، هل ننسج جسرا مع الواقع أم نخرّب كل الجسور، هل نركب المعنى، أم نفكك الصمت هل نكتب من داخل اللغة الواحدة، أم من داخل كل اللغات التي تخترقنا؟

هل نكتب بالتجربة أم بالانفصال عنها، هل نكتب بالتأمل أم بالمحاكاة، هل نكتب بالغبطة أم بالألم؟

في قلب كل مغامرة شعرية، يوجد هذا التفاوض الصعب، والإبقاء عليه ضد كل يقين مُهَدِّئ، أو مكسب نهائي، هو ما يبقي على الجذوة، يُبْقِيها على حالها أو يسافر بها من حال إلى حال.

أما ما تغير فقد تغير أساساً في حياة الشاعر، ثم إن بناء الرؤية الشعرية لا يتحقق خارج الزمن الذي نعيش فيه، بإعجازاته العلمية والتكنولوجية، وبنزعة التدمير الذاتي التي يمارسها الإنسان في الكوكب الذي يعيش فيه، وبالآلام التي تعصف بشكل لا رجعة فيه بالكثيرين من سكان الأرض.

من هنا أتصور أن تعدد المنابع هو الذي يوفر التربة الأولى لميلاد التجربة الشعرية، ففيها ينشأ التفاعل بين الأنا والآخر، بين المعيش والمتخيل، بين التفكيك والتركيب، بين الحدس والمعرفة. لا يكفي أن ننتج المعنى في الشعر، أو البناء التجريدي، أو المجازفة اللغوية، ينبغي أن يكون ذلك ضمن الأثر الذي نحدثه بالكلمات ولكن في مساحات أوسع للغة.

إدراك التحولات

الجديد: لا شك أن الشعر العربي يجتاز أزمة عميقة ومتشعبة.. هل توافق أولا على أن الشعر العربي في أزمة. وكيف ترى تجلياتها وكيف الخروج منها؟

محمد الأشعري: على افتراض أن الأزمة “طارئة” في الشعر، وهي ليست كذلك، فإننا مطالبون باستبعاد التجليات الكمية للأزمة (محدودية النشر والتوزيع والقراءة، والنمطية السائدة، والتجارب المكرورة، وندرة الانبثاقات الصاعقة لأصوات استثنائية..).

نحن مطالبون أولا، بإدراك التحولات العميقة التي تغير العالم من حولنا، بكل ما تعنيه من سوء فهم، وعنف، واغتراب، وبكل ما تعنيه أيضا من معجزات في إنتاج الجميل والمدهش والمفارق، وفي تكثيف الأزمنة وتسريع الانتقالات. وفي هذا الخضم طرأت تبدلات كبيرة في علاقتنا باللغة والخيال والمشاعر. وصار ممكنا أن نعثر على عوالم شعرية مُرَكَّبَة تبعا لتعدد التَّعبيرات ووسائط تداولها، مثلما صار ممكناً أن نتلقى الشعر من منافذ كثيرة وغير متوقعة أن نعبر صحراء شاسعة من “الغياب الشعري”.

هناك أزمة حقيقة في “صناعة الانتباه” إذا جاز هذا التعبير. حيث يبدو الانكفاء على “نثرية الحياة” نوعا من الاستعباد الجديد، لا يمنح للإنسان حرية الانفلات والتمرد والمغامرة. بهذا المعنى، نعم، هناك أزمة.

تحرر الشعر

----

الجديد: من متابعتك للشعر العربي في أبرز تجلياته وأهم أصواته، هل تطورت القصيدة العربية؟ هل تتحرك نحو أفق مغاير، أم أنها تراوح مكانها؟

محمد الأشعري: بشكل عام نحن اليوم أبعد ما نكون عن تجربة الرواد التي ابتكرت تحولاً أساسياً في الشعر العربي ليس فقط على مستوى اللغة والإيقاع ولكن بالأساس على مستوى الرؤية الشعرية.

لفترة ما، كانت هذه الطَّفْرَة الأولى مستقرة. تنوعت بأسمائها وتجاربها المختلفة. ولكنها ظلت موزعة بين “الصوت الجماعي” و”الصوت الفردي”، بين استنطاق القضايا واستدعاء الذات. وأثناء ذلك تكفّل التجريب والنقد والحوار بين التيارات الفية والأدبية، بتأطير تحولات القصيدة العربية. من الإيقاع العروضي إلى الإيقاع الداخلي ومن تلقائية التعبير إلى الاشتغال التركيبي على القصيدة.

عموما أعتبر أن تيار الحداثة الشعرية في الوطن العربي منذ بدايته إلى اليوم قد نجح في تغيير لغة الشعر، وبهذا المعنى فقد نجح في تغيير اللغة العربية التي استقدم إليها معجم اليومي والمجالات الحضرية المعقدة، وأوجاع الاقتلاع واليأس السياسي. ولعل أفضل ما حدث في التجربة الشعرية العربية هو تحررها من “الصوت المهيمن” صوت “الشاعر” الذي يعلو على كل الأصوات. هناك اليوم نوع من “الدَّمَقْرَطةِ الشعرية” سمحت ببزوغ أصوات متعددة ومختلفة، تعيش الكتابة والحياة في محيطهما المباشر، الذي تكتب منه وليس بالضرورة من “المرجعيات الشعرية” المهيمنة، ففي العراق وسوريا ولبنان والمغرب واليمن وفلسطين وغيرها من المجالات العربية، تجارب مفاجئة وأخرى متكرّرة، وكلها تساهم في بناء تراكم يتطلب القراءة المتأنية، والإنصات المتبادل، وهذا التراكم هو الذي يشكل اليوم تربة لقصيدة ملتصقة بجغرافيتها وبأمكنتها الحميمية، ولكنها تسافر كثيرا وتلتقي عبر المهرجانات الشعرية والنشر الإلكتروني، بما يشحذ الرغبة والشك، وهما معا ضَرُورَةٌ قصوى لاستمرار الشعر.

ربما يخدش هذه اللوحة المتفاعلة تفشي نوع من النمطية والسهولة، وانكسار روح المغامرة والتمرد. ولكن التحرر من هذا الوضع يقتضي حدوث تحولات عميقة داخل الشعر وخارجه.

كونية الشعر

الجديد: هل يقدم الشعر العربي صوتا شعريا مختلفا للعالم؟

محمد الأشعري: في قِرَاءَاتي “المقارنة” أعثر على كثير من الخصوصيات في القصيدة العربية، وأيضا على كثير من التماثل مع القصيدة الغَرْبية. قرأت مؤخرا أنطولوجية للشعر البرتغالي الحديث مترجمة إلى اللغة الفرنسية. وقد اندهشت لفَرَادَة هذه التجربة وقوتها وتنوع أصواتها. كما اندهشت للكثافة الشعرية التي تميزها والتي نادرا ما نعثر على مثيل لها في الشعر العربي. وَقرأت أَيْضاً كتابا شعريا صدر مؤخراً يضم قصائد لشعراء من الأندلس ومن المغرب (بالإسبانية والعربية) في هذه التجربة أيضاً ندرك بسهولة الخصوصية التي تنبع من لغة الكتابة ومن التجربة الشخصية والتاريخ الثقافي. ولكننا ندرك أيضا ما تسمح به “الكونية” في الشعر من تماثل التعبير والمشاعر.

بمعنى أن الصوت الخاص (ربما أكثر من الصوت المشترك) يحتاج إلى جهد كبير على مستوى البحث والكتابة. ومتى ما تحقق فإنه لا يشكل إنجازا كبيرا في الشعر الخاص، بل أيضا في الشعر الكوني. عدا ذلك فإن الكتابة عموما على ضوء التفكير في العالم مسألة في غاية الأهمية إذا انطلقت من قراءة المُنْجز العالمي واستحضاره في صوغ التجربة الخاصة. وهذا ما يسمح بإيصال صوتنا إلى الآخر، أن نكتب من تربة مختلفة ولكن من نفس الحياة.

غياب النقد الحر

الجديد: ماذا عن نقد الشعر عربيا. هل يواكب النقد حركية الشعر العربي بما يكفي من إحاطة وكشف وتوجيه؟

محمد الأشعري: لا أحب أن يُعْزَى أيّ تقدم في حركية الشعر، للنقد. فالنقد ينفع النقد أكثر مما ينفع الشعر. سألاحظ أولاً أن السائد اليوم هو الأبحاث الجامعية والدراسات الأدبية المرتبطة بها، بينما انحسرت حركة النقد “الوظيفي” إذا صح التعبير، كمواكبة للإنتاج الشعري، تعريفاً وكشفاً وجدالاً وحواراً يسمح بفرز التميز من الضحالة. وقد ازداد هذا الانحسار خطورة، بتراجع الصحافة الأدبية وعزوف ما بقي منها عن القيام بهذا الدور. لذلك تمر بعض التجارب الجيدة دون أن يلتفت إليها أحد، وتتساوى المطبوعات الشعرية، ويلجأ الكثير من الشعراء إلى تكوين “دويلات” شعرية لها سيادتها الترابية وأعلامها وجيوشها التي غالبا ما تنتصر في معاركها على جبهة الفيسبوك!

أتصور أن الحيوية النقدية (وليس تناسل الأبحاث الجامعية فقط) ضرورية لتطوير الحركة الشعرية ولكن هذه الحيوية مرتبطة بديناميكية الحقل الثقافي ككل وليس فقط بدينامية الإبداع الشعري.

لذة النص

الجديد: هل يقول السرد ما لا يستطيع الشعر قوله؟

محمد الأشعري: هناك أشياء أقولها في السرد وفي الشعر معا. ليس بنفس الكثافة وليس بنفس التركيب اللغوي ولكن بنفس الروح.

لديّ دائما شيء أقوله عن التجربة وعن تَعَمْلُقِ السًّلط، وعن معجزة الحياة والتبدل. عن التفاصيل الهاربة، وعن تلك التي تعود، في اندثار الأمكنة والملامح، عن بزوغ الأشكال الجديدة للاضطهاد واللاَّمبالاة… إلخ.. أقول ذلك في الشعر عندما تكون لي طاقة التكثيف والإيحاء الضرورية لذلك، وأقول ذلك في السرد عندما أحتاج إلى بناء حكايات، وإلى تفكيك العوالم المرتبطة بها وإعادة تركيبها. في كل جنس أدبي “لذة نص” خاصة به. في الكتابة كما في القراءة أحيانا أنا الذي لا أستطيع أن أقول شيئا، في الشعر كما في السرد.

أجري الحوار في الرباط

 

بيان جائزة الأركانة العالميّة للشعر 2020

محمد الأشعري يفوز بالجائزة

اِجتمعت، في الرباط، لجنة تحكيم جائزة الأركانة العالميّة للشعر، التي يمنحها سنويًّا بيت الشعر في المغرب بشراكة مع مؤسّسة الرعاية لصندوق الإيداع والتدبير وبتعاون مع وزارة الثقافة. تكوّنت اللجنة، هذه السنة، من الشاعر نجيب خداري رئيسًا، ومن الأعضاء: الناقد عبدالرحمن طنكول، والناقد خالد بلقاسم، والشعراء: حسن نجمي الأمين العام للجائزة، رشيد المومني، عبدالسلام المساوي، نبيل منصر ومراد القادري.

وقد آلت جائزة الأركانة العالميّة للشعر للعام 2020، في دورتها الـ15، إلى الشاعر المغربي محمد الأشعري الذي أسهمَت قصيدته، مُنذ أكثر من أربعة عقود، في ترسيخ الكتابة بوصفها مقاومةً تروم توسيعَ أحياز الحريّة في اللغة وفي الحياة، عبر ممارسة شعريّة اتّخذَت من الحُريّة أفُقًا ومدارَ انشغال.

عملت قصيدة الشاعر محمد الأشعري، التي يجسّدُ مسارُها أطوارَ وعي القصيدة المغربيّة المعاصرة بذاتها وبأزمنتها الشعريّة، على تحرير مساحات في اللغة لصالح القيَم ولصالح الحياة، وذلك بتحرير هذه المساحات من النزوع التقليديّ المحافظ الذي يشلّ الحياة بشلّ اللغة وتقليص مناطق مجهولها.

لقد ظلّت قصيدة محمد الأشعري وفيّة لما يُوسّعُ أُفق الحريّة في الكتابة وبالكتابة، باعتبار هذه الحريّة مقاومةً باللغة، بما جعل الانحياز إلى هذا الأفق، في منجَزه النصيّ، ذا وجوه عديدة؛ منها التصدّي بطرائق مختلفة للتقليد ولتضييق الحياة، والارتقاء باللغة إلى صفائها الشعريّ، وتمكين الجسد من حصّته الحرّة في بناء اللغة وفي بناء المعنى، وتهيئ الكلمة الشعريّة لأن تقتاتَ مجهولَ الجسد، احتفاءً به وبالحياة، وانتصارًا للحُريّة التي هي ما يمنحهُما المعنى.

في التفاعُلِ الشعريّ لمحمد الأشعري مع الحياة الحرّة في أدقّ التفاصيل؛ في اليوميّ وفي العابر وفي المتغيِّر بوجه عامّ، حرصَ دومًا على تحصين قصيدته من كلّ تجريد ذهنيّ، وعلى صون حيَويّتها وديناميّتها استنادًا إلى تجربة تُنصتُ لنبْض اليوميّ ولمُتغيّرات الحياة الحديثة ولانشغالات الإنسان وقلقه، وتنصتُ، في الآن ذاته، للمنجَز الشعريّ العالميّ، بما أمّن لقصيدته خلفيّتها المعرفيّة، دون أن تتحوّل هذه الخلفيّة إلى تجريد، لأنّ الشاعر محمد الأشعري انحازَ إلى شعر المعنى وفق تصوّر يرى أنّ الشعر يُقيمُ لا في اللامعنى بل بين المعنى واللامعنى، اعتمادًا على لغة عربيّة حديثة قائمةٍ على صفاء شعريّ.

انحيازُ قصيدة محمد الأشعريّ إلى المعنى تحقّقَ بالابتعاد عن المُباشر وبالتجاوُب الذي أقامتهُ بين الشعر واللوحة والمعمار والسينما. فقد نهضَت قصيدته على مُحاوَرات صامتة بين الكلمة والرّسم وفنون أخرى، وعلى تفاعلات حيويّة بين الشعريّ والسرديّ. عبر ديناميّة هذا البناء النصّي، كان المعنى الشعريّ يتخلّقُ، في منجز محمد الأشعريّ، مُنصتًا لنبْض الحياة ولمُتغيّراتها، برُؤية حداثيّة تنتصرُ للقيَم وللإنسان وللفكر الحرّ.

صدرت للشاعر محمد الأشعري المجاميع الشعرية التالية: “صهيل الخيل الجريحة” (1978)، “عينان بسعة الحلم” (1982)، يوميّة النار والسفر (1983)، “سيرة المطر” (1988)، “مائيّات” (1994)، “سرير لعزلة السنبلة” (1998)، “حكايات صخريّة” (2000)، “قصائد نائية” (2006)، “أجنحة بيضاء… في قدميها” (2007)، “يباب لا يقتل أحدًا” (2011)، “كتاب الشظايا” (2012)، “جمرة قرب عُشّ الكلمات” (2017.)

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.