عبدالقادر الجموسي.. هايكو عربي مجاورة الآخر

الثلاثاء 2019/01/01
 

بين الشعر والفكر والترجمة والنقد تنوس تجربة الشاعر والناقد المغربي عبدالقادر الجموسي، وهي تجربة تميزها علاقة بالأمكنة لا تستقر على حال، وبالثقافات الأخرى لا تهدأ. فالجموسي سافر في جغرافيات أوروبية وآسيوية، وأقام بفعل عمله في السلك الدبلوماسي لسنوات طويلة في هولندا وبريطانيا وأستراليا واليابان، احتك بالثقافات وتواصل مع أدبائها ومفكريها، وهو ما انعكس على نشاطه الإبداعي والفكري. فأصدر العديد من الأعمال الشعرية والنقدية والترجمات التي عكست طبيعة اهتمامه وانشغالاته خلال إقامته في ظهراني الآخر. فارتبط كتابه “حياة سبينوزا، من الطائفة إلى الدولة” بالتجربة الهولندية، كمحاولة لفهم مرتكزات الدولة الديمقراطية الحديثة من منظور فلسفي. وارتبطت ترجمته لـ”رباعيات أربع″ لتوماس إليوت بلندن، التي يصفها بمدينة المفارقات المستعصية، فيما ارتبط ديوانه “أرض الكنغر” بأستراليا ومحاولة فهم ثقافة الأبوريجين التي تعرضت للإبادة من طرف الرجل الأبيض. وارتبطت ترجماته ومؤلفاته حول “شعر الهايكو” بتجربته اليابانية، ويعتبره الجموسي درة أدب بلاد الشمس المشرقة والمعبر الأصيل عن ثقافتها. من طوكيو حيث يقيم اليوم الشاعر والناقد المغربي كان هذا الحوار المعمق معه، وتركز خصوصاَ حول شعر الهايكو وطبيعة انشغاله به.

قلم التحرير

الجديد: بداية يهمنا أن نسأل حول الكيفية التي توفق فيها بين نشاطك الإبداعي والنقدي وحركتك الدؤوبة في المدار الثقافي الذي تتحرك فيه في اليابان، وبين عملك في السلك الدبلوماسي؟

الجموسي: الكتابة هي شاغلي الأساس. هي فعالية يومية ومكوّن أساسي في شخصيتي وتطلّعاتي. لعلها الناظم لما أحاول اجتراحه، في تعدّده، كإسهام في ثقافتي المغربية والعربية عامة استلهاما وإغناء. لذا أعتبر نفسي كاتبا دون تحديد بصفة شاعر أو ناقد أو مترجم. ما يحدد جنس الكتابة عندي هو جدوى الفكرة وطبيعة الرسالة الإنسانية التي تحملها هذه الفكرة. بعد ذلك يتم البحث عن الشكل الأمثل، بالنسبة لي، لتوصيل الفكرة سواء شعرا أو نثرا، أدبا أو فكرا. وراء كل هذا يحضر إيمان قويّ بجدوى ومسؤولية الكتابة والأدب في صوغ الوجدان الإنساني وتهذيب الذات والمجتمع والارتقاء بالذوق العام. بالفكر المستنير والأدب الجميل تتميّز الشعوب وتنتج فضاءها المدني السليم والمتسامح مع العالم.

في ما يتعلق بالشق الثاني من السؤال، لا أَجِد في الأمر أي تناقض. بل تفاعل مخصب بين الكتابة والدبلوماسية. ومن خلال كليهما أحاول، قدر المستطاع، أن أقدم أجمل ما تتميز به ثقافتي الوطنية والعربية وأن أستفيد من عطاءات الثقافات الأخرى وتحويلها إلى طاقة خلاقة. وفِي هذا الصدد، يجدر الذكر بأن هذه الدينامية المزدوجة، دينامية الأخذ والعطاء، تحتاج مشاريع وجهودا فكرية جماعية لتحويل الفكر والجمال إلى طاقات إيجابية للذات في صلاتها بالآخر المختلف المغاير.

الثقافة والمكان

الجديد: ما الذي أتاحه لك عملك في السلك الدبلوماسي واحتكاكك بثقافات مختلفة، بدءاً من هولندا فبريطانيا، فأستراليا، فاليابان أخيراً.. ما هي الميزات الأساسية التي ميزت حياتك وتطلعاتك الثقافية خلال هذه المنعطفات، وما الآثار التي تركتها في الشخص والنص؟

الجموسي: الإقامة في بلد أجنبي تتيح إمكانية فهم واستيعاب الغير. الزمن مهم للإحاطة بالمظاهر المختلفة للثقافة، وأبعادها. والعمل الدبلوماسي يوفر عامل الزمن كما يفتح آفاقا رحبة للتواصل مع ثقافة البلاد المستقبلة بنوع من الهدوء والعمق والسعة بما يتيح النفاد إلى ما وراء الصورة (الصورة السياحية والدعائية) وتجاوز مرحلة الذوق العام أو الصدمة الثقافية، إلى طور الاستكشاف واختبار مدى مطابقة الصورة للواقع ومن ثمّ امتلاك آليات أفضل لبلورة صورة أكثر موضوعية وفهما لثقافة الآخر. دون هذه المغامرة الفكرية لا نستطيع حقيقة تشكيل صورة واضحة عن ثقافة الغير بأبعادها المتعددة والمعقّدة التي يتداخل فيها التاريخ والمؤسسات والأحكام المسبقة والصورة الموضبة، ناهيك عن حجب المعرفة الأخرى، الأيديولوجية والفلسفية والسياسية، التي تؤطر عادة تصوراتنا ورؤيتنا للعالم الذي من حولنا.

فضلا عن معرفة العوالم الجديدة، تعلمنا هذه الكشوفات نسبية القيم وأهمية احترام الآخر، كما هو، مهما بدا غريبا ومغايرا لنا في سلوكه وعاداته ورؤيته للوجود والطبيعة وغايات الإنسان. إن السفر والإقامة في جوار الآخر أو معه هي التي تخلق حالة التعايش وتحقق درجات متفاوتة من المثاقفة بوصفها فعالية تتم من خلالها هجرة الأفكار والأشكال والخبرات من وسط ثقافي إلى آخر ومن مدار حضاري إلى آخر.

والدبلوماسية تمنح أيضا فرصة لاكتشاف العالم والحضور في العالم. فإذا كانت الدبلوماسية هي فن التفاوض بامتياز، فإن الكتابة والإبداع هما أيضا نوع من المفاوضة، مع الآخر: مفاوضة الصورة والرؤية معا. مفاوضة يؤطرها نزوع إلى التعارف والمثاقفة كفعالية تقوم على الاعتراف بعطاءات الآخر واحترامها والسعي إلى استدماج الكوني منها، قيما أو جماليات أو تقنية، ضمن أنساغ الذات المتجددة.

بهذا النوع من الفضول من الأكيد أن تترك التجربة آثارا في الفكر والنص معا، آثارا تتخذ أحيانا شكل صدمات ثقافية تربك سلم القيم، لكنها تغني التجربة بحيث تقدم لك صيغا جديدة للتعبير، ومنظورا للحياة والفن مغايرا لمعهودك. وكلما كان الاشتباك أعمق مع ثقافة الغير وجمالياته، كلما تبدلت حساسية التلقي، وطرائق الإبداع. هذا ما يحدث لي في المرحلة اليابانية التي استغرقت، حتى الآن، أربع سنوات من المعايشة والقراءة والتجريب والتفاعل. أعتقد أنني لست القارئ نفسه، ولا الكاتب نفسه الذي كنته من قبل سواء من حيث اختيار الموضوعات، والأشكال وطرائق التعبير عنها أو الرؤية المحددة لها. التجربة الحقيقية هي التي تحقق لك حدا من الانزياح في الأطر والمرجعيات والذوق والرؤية.

لقد ارتبطت الكتابة لديّ بالأمكنة كحامل لروح المجتمعات وصوت ثقافتها. وهي تتحول بتحولات المدن. هكذا ارتبط كتاب “حياة سبينوزا، من الطائفة إلى الدولة” بالتجربة الهولندية، كمحاولة لفهم مرتكزات الدولة الديمقراطية الحديثة من منظور فلسفي. وهكذا ارتبطت ترجمتي “رباعيات أربع″ لتوماس إليوت بلندن، مدينة المفارقات المستعصية. فيما ارتبط ديوان “أرض الكنغر” بأستراليا ومحاولة فهم ثقافة الأبوريجين التي تعرضت للإبادة من طرف الرجل الأبيض. ومع ذلك فهي تحيا. كما ارتبط “شعر الهايكو” لديّ بالتجربة اليابانية. فهو درة أدب بلاد الشمس المشرقة والمعبّر الأصيل عن ثقافتها. ولا أنسى منجزي عن الكاتب المغربي الكبير، “حلقة أدباء القنيطرة في مرآة زفزاف” تعبيرا عن انتمائي إلى فضاء هذه المدينة وشخوصها ومبدعيها. ومحاولة للإنصات لصوتها الجماعي وحلمها الجماعي من خلال أدبائها. ففي الأدب تكون صورة وثقافة المجتمع عاريتين وعفويتين بلا زخرف أو ادعاء.

ترجمة إليوت: ضوء القصيدة

الجديد: ترجمت رباعيات أربع لتوماس إليوت، ما الذي حملك على اختيار هذا النص تحديداً لترجمته إلى العربية، علما أن هناك ترجمة سابقة له على يد الشاعر توفيق صايغ؟

الجموسي: عندما ذهبت إلى لندن للعمل هناك كمستشار إعلامي لم أحمل معي سوى كتابا واحدا كان عبارة عن نسخة من ترجمة “رباعيات أربع″ لتوماس إليوت من إنجاز الشاعر توفيق صايغ. لكنني لم أقترب منها إلا بعد مواجهة مع عبارة محرضة لإليوت كانت مكتوبة في نفق محطة قطار بيكاديلي سيركس تقول “إن الجنس البشري لا يقوى على تحمل قدر كبير من الواقع″. وهي من صنف العبارات التي تحفر مجرى خاصا في الذات، وتدفع الكائن إلى التأمل واستغوار عتمات نفسه. ولما دخلت غرفة مسكني انهمكت في قراءة ترجمة توفيق صايغ للرباعيات الأربع، واكتشفت أن العبارة موجودة في هذا النص. هكذا بدأ الاشتباك مع نص إليوت.

في بعض مواطن النص المترجم كنتُ أجدُ صعوبة في استشفاف ضوء القصيدة. كان نصّا بقدر ما يتوهّج في مقاطع منه، بقدر ما يخبو ذلك الوميض في بعض أقسامه. ما دفعني إلى شراء نسخة أصلية بالإنكليزية، فبدأت مغامرة ترجمة آخر ما كتبه إليوت شعرا، وسكب فيه جماع خبرته الشعرية بهدف تحقيق أقصى درجات الصفاء في اللغة، ذاك المرتقى الذي تلامس فيه لغة الإنسان تخوم الموسيقى المسكونة بالضوء والصمت.

هذا الإغراء أو الغواية التي قدح شرارتها توفيق صايغ، هو الذي دفعني إلى إعادة الترجمة، وكأنني أريد القبض على معناي الخاص للنص وللمكان (إنكلترا) الذي كنتُ وافدا جديدا عليه. أي تحويل التجربة إلى معنى. وبدافع تقديم نص أكثر تواصلية وإمتاعا مع ذائقة وحساسية القارئ الجديد، انخرطت في عمل الترجمة. لعل ما يميّز ترجمتي أنها كانت قريبة إلى مناخ القصيدة وبيئتها وعوالمها. لقد ساعد هذا التماس المباشر مع المكان واللغة والثقافة على استشفاف جوانب من قصيدة إليوت بشكل مغاير عن ترجمة الشاعر المبدع توفيق صايغ التي أنجزت من بعيد. في سياق مختلف منذ عقود من الزمن. والزمن كما تعلم نحات ماهر ينحت الذائقة والحساسية جيلا بعد جيل. لذلك نحتاج إعادة ترجمة أمهات الكتب أو الكلاسيكيات كل عشر سنوات على الأقل. خصوصا في عصرنا المتسارع في تحولاته وتبدلاته الجذرية. لقد ترجمت رباعيات إليوت ليقرأها جيل جديد بلغة جديدة.

الجديد: لديك اهتمام استثنائي بشعر الهايكو. وفي العام 2016، نظمت، انطلاقا من إقامتك في اليابان، ندوة كبرى عربية -يابانية لشعر الهايكو تخلّلتها عشرة إصدارات بمثابة مختارات ودراسات وترجمات من الهايكو الياباني والعربي والعالمي، وقد صدرت هذه النصوص باللغات العربية واليابانية.. هل لك أن تنير لنا هذه التجربة؟

مغامرة الهايكو

بعض الأعمال التي حققها وترجمها الكاتب
بعض الأعمال التي حققها وترجمها الكاتب

الجموسي: أشتغل منذ سنة 2014، تاريخ انتقالي إلى اليابان، على مشروع يتوخّى بيان وتحديد سمات “شعر الهايكو”، الياباني الذي بات تدريجيا مكوّنا من مكوّنات المشهد الشعري العربي اليوم.

في عام 2015 قدّمت محاضرة باللغة الإنكليزية في جامعة ميجي بعنوان “هل الهايكو العربي ممكن؟” وذلك ضمن فعاليات “مؤتمر الهايكو العالمي” الذي شارك فيه شعراء من جهات العالم الأربع، وصدف أنني كنت العربي الوحيد. وفِي نفس العام، ولاختبار الخلاصات التي وصلت إليها، نظمت “ندوة الهايكو العربي الأولى” دعوت إليها شعراء ومفكرين مغاربة مع مساهمات من شعراء هايكو عرب ويابانيين. وكان موضوعها “المثاقفة العربية اليابانية”. احتضنها “مركز تواصل الثقافات” بالرباط يوم 9 يوليو 2015. لعلها الأولى من نوعها في عالمنا العربي. وفِي عام 2016، نظمت الندوة الثانية بمدينة وجدة دعوت إليها شعراء من المغرب واليابان وبلغاريا والدنمارك وإيطاليا وتونس والجزائر والعراق. احتضنتها “جمعية الموكب الأدبي” بوجدة. توجت بإصدار عشرة منجزات في شعر الهايكو ترجمة وإبداعا وقراءة.

لكن الأهم، بالنسبة لي، وفي سياق سؤالك هو إصداري “أنطولوجيا الهايكو العربي، الحقل والمدار” من 446 صفحة عرّفت فيها بعمل 80 شاعراً وشاعرة ومترجماً ومترجمة وناقداً وناقدة من العالم العربي الذين ارتادوا أو جرّبوا الكتابة على طريقة الهايكو تجريبا وإبداعا وترجمة.. قدّمت فيها أكثر من ألف قصيدة عربية وعالمية.

اعتمدت في بناء الأنطولوجيا مفهومي “المدار” و”الحقل” لتشكيل متن موثق. وقد تبيّن لي في هذا الطور أن الشعراء العرب تفاعلوا مع “شعر الهايكو”، كاقتراح جمالي جديد، بشكل منتظم منذ ستينات القرن العشرين.

من خلاصات هذا العمل الأركيولوجي، يمكن التأكيد على ما يلي:

أولا: عرف ديوان العرب أطوارا من النشوء والتبلور والركود والتجدد. وعلى مدى تاريخه الطويل، دأب الشعراء على مد القصيدة بأنساغ وروافد جديدة وفتحها إلى طرائق تعبير مختلفة، بأشكال ومضامين وإيقاعات تلائم رهانات كل مرحلة. ضمن هذه السيرورة من المراجعات، شكّلت الحداثة أفقا لبلورة “بلاغة جديدة”، نجمت عنها قصيدة التفعيلة والشعر الحر وقصيدة النثر التي استطاعت، على مدى عقود من الزمن، أن تترسّخ في أرض الشعر وتقدّم منجزها كأفق أو بديل لجماليات القصيدة العربية الكلاسيكية.

ثانيا: تمر “الشعرية العربية” اليوم بمنعطف جديد بسبب متغيرات الواقع الكبرى، وتبدل الذائقة الأدبية، وضمور التصديق بجدوى الشعر، وضعف حضوره ضِمن أولويات المؤسسة الثقافية. ولتجديد صلات الشعر بواقعه واستعادة وضعه الاعتباري ضمن أنماط التعبير الأدبية الأخرى، يخوض الشعراء العرب، على مختلف مرجعياتهم الفكرية وحساسياتهم الفنية، أشكالا من التجريب والمثاقفة مع شعريات العالم مستلهمين بعض أنماطها وأساليبها.

ثالثا: يشكل شعر الهايكو، الياباني النشأة والعالمي الانتشار، ظاهرة لافتة للنظر في مشهدنا الشعري العربي الآن. يكتب في مداره، أو على منواله، العديد من شعراء القصيدة المعاصرة، فيما يتداوله اليوم، كتابة ودرسا، جيل جديد من المبدعين والمترجمين والنقاد بمستويات متفاوتة من الاهتمام والدقة والعمق.

رابعا: ابتدأ التوجه عربيا نحو اليابان مدفوعا بهاجس التعرف على النهضة اليابانية التي دشنها الإمبراطور ميجي ومعرفة أسبابها. ثم اتسعت دائرة الانتباه لتشمل عدة مجالات علمية وفكرية وأدبية. وقد شكّل شعر الهايكو، بالمقارنة مع الرواية والمسرح والموسيقى، أحد أهم مفاصل الثقافة اليابانية التي شدّت اهتمام الشعراء العرب بشكل منتظم ومتواصل إلى اليوم.

خامسا: بدأت الإرهاصات الأولى منذ سنوات الستينات من القرن العشرين، بحيث تناولت بعض المقالات تاريخ الأدب الياباني، ثم بعد ذلك فن الشعر وتحديدا شعر الهايكو. ولعل لجوء الشعراء العرب في هذه الفترة لتجريب منجزات الحداثة الشعرية الغربية كان له بالغ الأثر في شدّ الانتباه إلى الهايكو الذي أصبح آنذاك مكوّنا أساسيا من مكوّنات المشهد الشعري في أميركا وأوروبا.

سادسا: في سنوات السبعينات وعبر الوسيط اللغوي الإنكليزي والفرنسي، بدأت تنشط عملية ترجمة الأشعار اليابانية. إلا أن نمط الهايكو ظل يحظى باهتمام متزايد من طرف الكتّاب والدارسين والمترجمين بوجه خاص. ولم يلتحق الشعراء العرب بهذه الدينامية إلا في الثمانينات من القرن الماضي مع ظهور مجلاّت أدبية تعنى بالحداثة الشعرية الغربية والآداب الأجنبية. وقد شهدت نفس الفترة أولى المحاولات لكتابة نصوص شعرية على طريقة الهايكو بمضامين عربية. وفي عقد التسعينات، أخذت عملية المثاقفة تعرف نضجا متزايدا، حيث اتسع الاهتمام ليشمل السياقات الثقافية والروحية التي نشأ وتطور فيها شعر الهايكو. كما نشطت حركة محدودة لنقل الكتب النقدية والنظرية إلى اللغة العربية عبر اللغتين الإنكليزية والفرنسية. كما انطلقت المحاولات الأولى لترجمة الشعر ومتون الثقافة عن الأصل الياباني. ما شكّل تحوّلا ملحوظا في مسار تمثّل الشعر الياباني المعاصر لدى الشعراء العرب.

سابعا: في العقد الثاني من الألفية الثالثة، أصبح التفاعل مع شعر الهايكو يأخذ مسارات متشعبة، قراءة وترجمة وإبداعا ونقدا. وأصبح شاغل الشعراء بالهايكو مسكونا بهاجس البحث عن لغة شعرية مغايرة يشتغلون بها للتعبير عن حساسيتهم ورؤيتهم الجديدة للعالم.

ثامنا: يشكّل “الهايكو العربي” اليوم أكثر من فضاء افتراضي للتجريب، وأكثر من حقل إبداعي للمغامرة. إنه “قصيدة” لها مرجعيتها الثقافية، تكتب بمختلف لغات الأرض وفي مختلف المدارات الشعرية في العالم. وهو “موجة عمق” قيد التبلور يساهم في صوغها اليوم جيل ناهض من الشعراء والشاعرات والمترجمين والمترجمات على مدى ربوع العالم العربي وخارجه. وهو أيضا “تقنية شغب” تكشف عن وضع ثقافة على حافة السؤال. تقنية تحرك أسئلة اللحظة التاريخية المسائلة لمسلمات طبع ثقافي ووعي جمالي يعيشان على إيقاع أزمة واقع وتعبير.

الحرية والنظام

الجديد: ما أسلفت فيه يعطي تصوراً ممتازاً عن ظروف وصول موجة الهايكو إلى الثقافة العربية. في ما يتعلق بشعر الهايكو الذي يكتبه العرب، نحن نعرف أن الهايكو نظام شعري في لغته اليابانية، ولتقطيعه وصيغه وموضوعاته وتطلعات شاعره صلة عميقة ووشائج تتصل بالحياة والطبيعة والطقوس اليابانية. وهو، كما نعرف، يقوم على نظام فني صارم، كما هو الحال بالنسبة إلى النظام الصارم للقصيدة العربية التقليدية. السؤال هو: ما الذي يحمل شاعراً عربيا هجر النظام العروضي التقليدي في ثقافته وتبنّى لغة وأساليب تحرره من الضوابط الصارمة لهذا النظام، على تبنّي نظام تقليدي آخر في ثقافة أخرى؟

الجموسي: لعل الهايكو أشهر أشكال التعبير الشعرية اليابانية في العالم. لكنه ليس الشكل الشعري الوحيد الذي أنتجته الثقافة اليابانية. صحيح ان القصيدة – الهايكو تغذّت من تاريخ شعري عريق وهي تحمل تاريخا من الانضباط الروحي والإيقاعي واللغوي. لكنها، وَيَا للمفارقة، لم تتبلور بلوازمها الشكلية المتعارف عليها اليوم إلا بعد اشتغال طويل على فن القول ومراجعات كثيرة وجذرية أحيانا اجترحتها أجيال من الشعراء والنقاد على مدى قرون متتالية. كانت أهمها اجتهادات شيكي ماساوكا، أحد شعراء ميجي، نهاية القرن 19، الذي منح هذا الشعر اسمه ورسم له أفقه كفن من الشعر الحديث الموازي والمجاور للتشكيل والتصوير وفنون السرد الحديثة.

منذ مقترح شيكي المجدد، عرف الهايكو تطوّرا كبيرا واندمج مع متغيّرات الحياة اليابانية، الفكرية والأدبية وحتى السياسية، لينتج نصا متعددا ومتحررا إلى أبعد الحدود. نفس المغامرة أجدها في تجربة الشعر العربي الحديث، مع وجود الفارق طبعا. لقد قدّم شعراؤنا الروّاد جهودا رائعة في تجديد القصيدة العروضية، فتم الانتقال إلى قصيدة التفعيلة، والشعر الحر، وقصيدة النثر، ناهيك عن أشكال من التجريب الذي يزاوج الشعر بالنثر. دعني أقول لك بأن مغامرة التحديث في شعريتنا العربية كانت أكثر جرأة وجسارة من نظيرتها اليابانية. لكن كلاهما يلتقيان عند هاجس التحديث، والتحرر من الأشكال التقليدية التي لم تعد قادرة على نقل صبوات الذات والتعبير عن رؤى العالم المتجدد.

من هذا المنظور، لا أعتقد أن الشاعر العربي يطلق تقليدا ليعتنق آخر، من خلال تقدمه تجاه الهايكو. بالعكس فهو اختار مدخلا آخر من مداخل التجديد الشعري التي استفاد منها معظم شعراء العالم الغربي والآسيوي الحديثين والمعاصرين من عزرا باوند، أكبر مجددي الشعر الأميركي، مرورا بجاك كرواك وبورخيس وبول كلوديل وجورج سيفيريس وتوماس ترانسترومر. وفِي عالمنا العربي، هناك كوكبة من الشعراء الذين استلهموا الهايكو أذكر منهم فؤاد رفقة، وديع سعادة، شاكر مطلق، عدنان بغجاتي، عبدالكبير الخطيبي، محمد الأسعد، إدريس عيسى، عبدالكريم كاصد، أمجد ناصر، وعبداللطيف حسين. وغيرهم من صنّاع الحداثة الشعرية على مدى ربوع العالم العربي.

إن استلهام شعر الهايكو لا يمنع شاعرا عربيا من أن يجد لنفسه أسلوبه الخاص وطريقة معالجة مبتكرة، حتى داخل النوع نفسه، لأن الهايكو بدوره تطوّر وتبدّل باستمرار من طرف أهله.

بل وعلى العكس مما يظنه ويتوقّعه البعض ممن يخافون على حفنة الرماد في يدهم، يمكن للحظة الهايكو، في احتفائها بالجوهر الشعري، أن تشكّل رافدا أساسا في مسار تطوير القصيدة العربية. ويمكن لشعر “الهايكو العربي” أن يمثّل أفقا لاختبار القصيدة وتطوير آليات كتابتها. وهو ما قد يشكّل حافزا في اتجاه “كثافة جديدة” تستلهم الخبرات الشعرية المتواصلة، كما تفتح محفل القصيدة على شلالات المستقبل الضاجة والهامسة.

يعلمنا الهايكو أن الشعر متعدّد، وجوهره في هذا التعدد نفسه. إنه اجتراح الانزياح عن القاعدة. الخرق الواعد للنمط. احتفاء بالمدهش والمختلف والبسيط. فنحن في المحصلة النهائية، لا نكتب الشعر لأنه هايكو، وإنما نكتب الهايكو لأنه شعر.

البيت الواحد

الجديد: قصيدة البيت الواحد في الثقافة الشعرية العربية يمكن أن تتناظر مع فن الهايكو، من حيث تمتعها بالكثافة والإيجاز والصورة أحياناً. هل يمكن أن تشكّل هذه المقارنة موضوعا من نوع ما للشاعر العربي؟

الجموسي: كلاسيكيا، الهايكو هو قصيدة بيت واحد بامتياز. يتألف من سبعة عشر مقطعا صوتيا موزعة على ثلاثة أشطر، تلفظ في مدة نفس واحد، يقدّم صورة شعرية مركزة تستلهم من عناصر الطبيعة، بلغة موحية خالية من المحسنات اللغوية الباذخة والمشاعر المحتدمة. تبتعد القصيدة – الهايكو، قدر الإمكان، عن تضخيم الذات وتذويت العالم. وتميل أكثر الى تصوير المرئي العابر والتقاط أرهف الأحاسيس الإنسانية. بنوع يبعث على البهجة وانشراح النفس على العالم.

الهايكو عودة بحر الشعر إلى جماليات بيت الشعر الواحد حيث تنبثق اللغة في لحظة بكارة. وتستعيد الكلمات سحرها من حيث تمتح طاقتها الحيوية ولغزها الأول.

يمكن أن تشكل “لحظة الهايكو”، إذا جاز التعبير، تحوّلا نوعيا في طريقة تمثّل الشعر وطرق كتابته. بحيث تعيد الشعر إلى مبتدئه. إلى حمضه النووي الأول (فلسفة وجماليات البيت الأول)، إلى سحر الحرف وجرسه، إلى موسيقى الكلمة وطاقتها الدلالية والإيحائية معا. وخصوصا إلى إعادة ربط الكائن عضويا بمصدر إلهامه الأول: الطبيعة حيث يتهجّى الأسماء في انبثاقها الأول، ويصبح للأسماء نفسها طعم الدهشة، دهشة اكتشاف العالم من منظور جديد.

 يمكن للهايكو أن يمثل أساسا لبداية جديدة بين بدايات عديدة يمكن اقتراحها للقصيدة العربية، حافزا للاشتغال على بلاغة جديدة تتغذّى من تراكم الخبرات الشعرية وفي نفس الآن تفتح على المستقبل. يصبح ذلك في عداد الممكن إذا استطاع شعراء الهايكو العرب مفاوضة الممكن الجمالي من مخاضات اللحظة التاريخية الراهنة المتوترة بوعي إمكاناتها. ومن ثمة صوغ “حقل” و”مدار” جديدين لشكل أدبي يمكن أن تنكتب فيه القصيدة العربية. يصبح الهايكو في هذه الحالة لحظة جمالية جديدة ومشتلا حقيقيا للإبداع والخلق.

شعر المستقبل

الجديد: ما الذي في جعبتك من المشروعات، ما الذي تشتغل عليه في هذه الأيام، وأنت على أبواب العودة من اليابان إلى المغرب في محطة على الأرجح استعداداً للانطلاق في سفر آخر عبر ثقافة أخرى؟

الجموسي: هناك جيل جديد من الشعراء والمبدعين الشباب يحاولون صوغ تصورهم للعالم بلغة جديدة وكثافة جديدة. أعتقد أنه آن الأوان للإنصات المرهف والمسؤول لهذا الصوت القادم من المستقبل. فهو القادر على حمل نبرات الواقع واستشراف عالم المستقبل. في كل عالم ينهار، يظل الشعر هو الأداة الوجودية الكفيلة بالتعبير وتسمية الأشياء. أي تحويل التجربة إلى معنى. أعتقد أن لا مناص للعالم اليوم من صوغ شعرية إنسانية كونية قادرة على إنقاذ الإنسان داخل الإنسان.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.