عدوّ المرأة
من الغريب أن تكون عقول الفلاسفة الأكثر تفتحا وحكمة في كل مجالات الحياة معادية للمرأة بشكل صريح وواضح إذ يجهر الفلاسفة الغربيون بتلك المعاداة للجنس اللطيف وكأنها من البديهيات. فالذين يعجب الناس اليوم بأفكارهم الرائدة وبحثهم الدؤوب عن الحقيقة وصراعهم ضد الأفكار المسبقة كانوا هم أنفسهم ضحايا فكرة نمطية جاهزة خطيرة هي النظرة الدونية للمرأة. والأغرب أن الفكر الغربي المعاصر لا يقف نقديا بما فيه الكفاية عند أفكارهم التمييزية والمستهترة بكرامة المرأة. وأكاد أقول إن الغربيين يحاولون عن قصد طمس الأفكار المتخلّفة لدى من يعتبرونهم ركائز حضارتهم الإغريقية-الرومانية.
يبدأ التمييز بين الرجل والمرأة بمعنى تفضيله عليها منذ العصور القديمة، ما قبل الميلاد، مع سقراط الذي وإن لم ينف فضل امرأة على جلّ تكوينه المعرفي هي السيدة ديوتيم دومانتيني كما جاء في مأدبة أفلاطون، فهو يرى أنه إذا كانت المرأة مُولّدة أجسام فهو الفيلسوف مُوّلد أرواح. ويوم موته بالسم طلب سقراط أن تغادر النساء كلهن الغرفة ليبقى مع أصدقائه الذكور.
أما أفلاطون، وإن طالب أحيانا بتحسين وضع المرأة، فهو يعتبرها أدنى من الرجل لأن الرجل وحده المخلوق مباشرة من الآلهة التي وهبته روحا ومن هنا فالرجال وحدهم الكائنات الإنسانية غير الناقصة التي يمكن أن تأمل في الوصول إلى الكمال. ولا يتحرج أب الفلسفة من القول في محاورة طيماوس إن أحسن ما تأمله المرأة هو أن تتحوّل إلى رجل!
ثم يأتي أرسطو ويغلق الأبواب في وجه المرأة لعدة قرون حينما يختصرها في مجرّد مادة بمعنى وعاء بينما يخصص للرجل صفة أنبل هي الشكل، والقصد هو الجوهر والكمال. وليس هذا فحسب بل يبرّر أرسطو دونية المرأة بوجود خطأ طبيعي فيها، هو عدم قدرتها على توليد المنيّ الذي يحتوي على كامل الكائن البشري. وليس هذا فحسب بالنسبة إلى الفيلسوف الكبير بل يعتقد أنه حينما يمارس رجل وامرأة الجنس فالرجل يجلب جوهر الكائن البشري ويعني الروح. أما المرأة فلا تقدّم سوى الغذاء، أي المادة. وفي النهاية فالمرأة عند الفيلسوف الكبير هي رجل مصاب بالعقم ومجرّد وعاء مبتذل لاستقبال جوهر الذكر الملقّح! فهي حسبه أقل شأنا من الرجل أنطولوجيا (بطبيعتها)، وهي أقرب إلى الطفل أو الحيوان وخلقت لتكون تحت حكم الجنس الأقوى.
تمرّ قرون ومعها بعض الثورات المعرفية ويتحفنا جان جاك روسو بمقولة في غاية الغرابة كيلا لا نقول السخف حينما يكتب أن “الحب قد ابتدعته النساء ليسمح لهذا الجنس الضعيف أن يسيطر بينما قد خلق ليذعن وينقاد”. و”المرأة كدوارة الرياح لا تهدأ إلا حينما تصدأ”، يقول فولتير، فيلسوف التسامح.
إمانويل كانط استيقظ من سباته العميق في مسائل الوجود كلّها إلا في موضوع الأنوثة. هذا الفيلسوف الشهير الذي يستلهم من أفكاره الكثير من المفكرين والأدباء عبر العالم، صاحب “نقد العقل العملي” و”نقد العقل النظري”، يكتب غير آبه بما جاء في كتابيه السابقين “في حالة التوحش، المرأة حيوان أليف: يسير الرجل في المقدمة والسلاح بيده والمرأة تتبعه محمّلة بأدوات الطهي” إذ الطبخ دور المرأة الطبيعي بالنسبة إلى الفيلسوف الكبير!
ونتعرف على الفيلسوف آرثر شوبنهاور، عقل ألماني يبدو مستنيرا في قضايا كثيرة، كان نيتشه معجبا به أشد الإعجاب ورغم كل ذلك كان يبدي كرها غير معقول للمرأة “لا يجب أن يكون في العالم سوى ربات بيوت، تحسن التنظيف والطهي، وبنات شابات لا يحلمن إلا أن يكنّ كذلك. ولا يجب تدريبهن على الغطرسة ولكن على العمل والخضوع″.
ربما هو أكبر الفلاسفة في العصر الحديث كرها ومعاداة للمرأة ويمكن تفسير ذلك وتفهمه لو كان الأمر متعلقا بشخص عادي غير متعلم فنقول إنه ضحية تاريخه أو وضعه الاجتماعي ولكن هذا شوبنهاور وهو ليس بالمفكر الهامشي بل هو مفكر كبير! قد يقول مدافع عنه إنه كان يكره أمّه كرها شديدا متهما إياها بأنها هي التي دفعت بوالده إلى الانتحار. فهل هذا يبرر اعتبار كل النساء كائنات حاقدة تمارس الكذب والنفاق والخضوع؟ في الحقيقة لم يفعل شوبنهاور سوى اجترار أفكار عصره المسبقة فقط.
ويذهب مواطنه نيتشه المعروف بمزاجه الشرس إلى أقصى حدود التطرف تجاه المرأة ويتعجب من سلبية الرجل تجاهها “لم يحدث أن عومل الجنس الضعيف بمثل هذا الاهتمام الزائد من طرف الرجال كما هو الحال في عصرنا. وهو ما أدى بالمرأة إلى فقدان حيائها وباتت لا تخشى الرجل”. لا لطف مع المرأة التي لا يعترف لها بأيّ دور ما عدا إسعاد الرجل كما نقرأ على لسانه “سعادة الرجل: أنا أرغب، سعادة المرأة: هو يرغب”. و”إذا زرت امرأة لا تنسى أخذ السوط معك”. هكذا تكلّم زرادشت! وليته لم يتكلم.
وحتى جان بول سارتر، رفيق فيلسوفة النسوية سيمون دي بوفوار، لم يكن مناصرا تماما لقضية المرأة. في آخر حوار منشور معه سنة 1975 قالت له سيمون إن كتاباته تزخر “ببقايا الذكورية والقضيبية” ويعترف صاحب “الوجودية مذهب إنساني” بذلك دون أدنى حرج!
و مع كل ذلك فليس كل الفلاسفة أعداء للمرأة. فقد نجحت بعض الأفكار المناصرة لها منذ العصور القديمة في كسر المعتاد. ففي حديقة أبيقور مثلا سيدات كنّ يتفلسفن وقد ترأست المدرسة واحدة منهن هي الجميلة ليونتيوم عشيقة أبيقور التي واصلت نشر أفكاره حتى بعد وفاته. وكان فيثاغوراس محبا للنساء ومحترما لقدراتهن العقلية.
ولكن كان يجب الانتظار طويلا لتطرح مسألة المساواة في الحقوق بين الجنسين صراحة وبجدية. وشيئا فشيئا أصبح بديهيا لدى أغلب الفلاسفة أن دونية المرأة كانت صناعة ثقافية وأن المساواة بينها وبين الرجل باتت أمرا طبيعيا.