عرب وطليان.. الترجمة جسر الحوار بين ضفتي المتوسط
الجديد: لماذا قررت التخصص في اللغة والأدب الإيطالي؟
حسين محمود: يعود هذا الأمر إلى أكثر من 35 عاما مضت، وكنت في ذلك الوقت من هواة الأدب، وكان السبيل إلى دراسة فن الرواية والقصة والمسرح هو الدراسة الأدبية، واخترت كلية الألسن مكانا لهذه الدراسة، وفي الكلية اختاروا لي اللغة الإيطالية حسب المجموع الذي حصلت عليه في الثانوية العامة، ولذلك يمكن أن أقول إنها كانت محض صدفة. ولكنني يمكن أن أقول إنني قبلت هذا الفرض البيروقراطي بصدر رحب وتبنيته كأنه اختيار حر لي بعد أول أسبوع من دراسة اللغة الإيطالية.
الجديد:أطروحتك للدكتوراه كانت دراسة مقارنة بين الديكاميرون وألف ليلة وليلة.. فهل صحيح أن الديكاميرون هي النسخة الإيطالية من ألف ليلة وليلة؟
حسين محمود:هذا هو ما افترضه كامل الكيلاني عندما قدم لأول مرة ترجمة لبعض قصص الديكاميرون عندما أطلق عليها “ألف ليلة وليلة الإيطالية”. والحقيقة أن بوكاتشو، مؤلف المجموعة الإيطالية، كان متأثرا جدا بهذا القصص الشعبي، وقد بيّنت هذا في أطروحة الدكتوراه، وأثبت نقله لخمس قصص من المجموعة العربية، التي كانت مترجمة جزئيا في عصره. ولكن المجموعة الإيطالية مختلفة في التناول والترتيب والأسلوب. ولعل الفارق الأساسي هو أن ألف ليلة وليلة عمل مجموعة والديكاميرون عمل فرد، ولذا فإن الأسلوب في المجموعة العربية غير منضبط لتعدد مؤلفيها، على عكس المجموعة الإيطالية التي تعكس أسلوب مؤلفها. كما أن المجموعة الإيطالية تستمر عشرة أيام في فعل الحكي، والمجموعة العربية تستمر نحو ثلاث سنوات. وهناك أبعاد أخرى تناولتها بالمقارنة في الأطروحة التي تصدر ترجمتها قريبا من المركز القومي للترجمة.
الجديد:كيف تتأمل الوجود العربي الإسلامي في صقلية اليوم؟
حسين محمود:هذه مسألة ملغزة للغاية، فهو في نظر العرب كان فتحا، ومن نظر الغرب كان غزوا استعماريا. ولكن ما يهمنا في هذا الصدد، على المستوى الثقافي، هو أن الوجود العربي في صقلية كان مثمرا على كافة الأصعدة، فقد أنتج أدبا وشعرا جديدا على ما كان معروفا في أوروبا في ذلك الوقت. كما أنه فتح آفاقا علمية وفنية ومعمارية وتكنولوجية جديدة.
الجديد:لماذا لا يوجد كرسي للأدب المقارن في الجامعات العربية والإيطالية؟
حسين محمود:هناك كرسي للأدب المقارن في جامعة روما، وبدأ ينتشر في الجامعات الإيطالية الأخرى، وقد حصل عليه أستاذ هذا الكرسي أرماندو نيشي، بقرار من رئيس الجمهورية الذي كان في زيارة للجامعة ولبى لذلك الأستاذ مطلبه. ولكن هناك مقاومة من المتخصصين في الأدب لهذا الفرع من الدراسات، والذي يوصف من النقاد الكلاسيكيين بأنه بعيد عن الدراسة الأدبية الحقيقية، أو بعيد عن نظرية الأدب، ودراسة أدبية النص، ولا يعدونه من فنون النقد الأدبي. وهم يرون أنه أميل للدراسات التاريخية، ربما بسبب نشأته الفرنسية التي كانت تميل إلى هذا المنهج. ولكن تطور الدراسات المقارنة واقترابها من التحليل الأدبي المتعارف عليه، وخضوعها لمناهج النقد الأدبي، وتجاوزها للمدرسة التاريخية الأولى جعل الاعتراف بها سهلا ميسورا حتى وإن أطلق عليها “دراسات ثقافية”، وهو وصف أميل إليه في هذا النوع من الدراسات، وأحسب أن دارسي الأدب هم الأحق بهذا النوع من الدراسة عن غيرهم.
الجديد:ما فلسفة اختيار ترجماتك؟
حسين محمود: الاستشراق في أوروبا نشأ لأسباب عقائدية في البداية لدراسة الإسلام والرد عليه ثم تطور بعد ذلك لأهداف استعمارية كما هو معروف
حسين محمود:أترجم ما يحلو لي، وأترجم ما يطلب مني، وأترجم ما أراه يسد احتياجا للمعرفة، وأترجم ما أراه هاما ترجمته، وأترجم ما يراه غيري هاما ترجمته، وأترجم العشر لهواية عندي، وأترجم للاستمتاع بالتدريبات اللغوية والتعبيرية التي تنطوي عليها الترجمة.
الجديد:برأيك كيف يسهم الأدب في الحوار الحضاري بين ضفتي المتوسط؟
حسين محمود:عن طريق الترجمة، فهي وسيط حوار جيد، وهي التي تسهم في تكوين الصورة الذهنية لأمة لدى غيرها من الأمم. الترجمة هي نوع من الهجرة الأدبية، تحمل الأعمال الأدبية على كتفها وتمضي بها عبر الحدود. قد يكون من الصعب أن يجلس محفوظ مع لوركا وماركيز وتولستوي ليتفقوا على القيم الإنسانية التي يمكن أن يطرحوها في أعمالهم، ولكن الترجمة تجمع كل هؤلاء على رف واحد من رفوف المكتبة دون أن يحاول أحدهم أن يخاصم الآخر أو أن يزيحه من مكانه. أستطيع أن أزعم أن وجود عمل أدبي واحد في ثقافة غير تلك التي أنجبته له تأثير يفوق عمل السفارات الرسمية والملحقيات الثقافية مهما تضخمت.
الجديد:لديك كتاب بعنوان “نجيب محفوظ في إيطاليا”.. برأيك هل مازال محفوظ عقبة أمام انتشار الأجيال اللاحقة له في الخارج؟
حسين محمود:على العكس تماما، فقد فتح فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل الباب على مصراعيه أمام الأدب العربي ليأخذ مكانه الذي يليق به في العالم. لم يترجم الإيطاليون من الأدب العربي في الخمسين سنة السابقة على فوز محفوظ بنوبل إلا خمسة أعمال أدبية، وبعد فوزه انهالت الترجمات بالمئات، وشملت الأجيال الأدبية كلها.
الجديد:كيف تقيّم حضور الأدب العربي في إيطاليا؟
حسين محمود:أكثر كثافة. ولهذا أسباب عديدة، منها اهتمام الغرب بالإنتاج الأدبي العربي، والإنتاج الفكري عموما، بعد تفشي ظاهرة الإرهاب التي التصقت بالإسلام، وبعد كثافة حركة الهجرة من الدول العربية، وبعد فوز الأدباء العرب بجوائز دولية مرموقة.
الجديد:ما الذي يميز الاستشراق الإيطالي عن نظرائه الأوروبيين؟
طبعتان من "الديكاميرون" عربية وإيطالية
حسين محمود:الاستشراق في أوروبا نشأ لأسباب عقائدية في البداية لدراسة الإسلام والرد عليه ثم تطور بعد ذلك لأهداف استعمارية كما هو معروف. والاستشراق الإيطالي ليس غريبا على هذه الأهداف، ولم يتغير سوى في الآونة الأخيرة في اتجاه إيجابي. المستشرقون أو المستعربون الإيطاليون الآن مختلفون عن باقي المستشرقين في أوروبا وأميركا، وقادوا مسيرة أكثر تفهما في فترة مبكرة، لأن ميولهم الاستعمارية لا تقارن حتى بالإسبان والبرتغاليين، ناهيك عن الأمم الاستعمارية التقليدية، مثل إنكلترا وفرنسا. فهم أكثر اقترابا من تبني القضايا العربية، ودراسة الفكر العربي وتحليله بنظرة أكثر حيادية وموضوعية. ولا بد من الإشارة إلى أن فروع الاستشراق التي لا تتبع جامعات لاهوتية هي الأكثر تحررا من القيود التقليدية للاستشراق.
الجديد:ما مدى إقبال الإيطاليين على تعلّم العربية؟
حسين محمود:يزيد وينقص تبعا للظروف، وهو مرتبط بظروف الهجرة وما تمليه من احتياجات أمنية للترجمة، وكذلك الحوادث الإرهابية التي ضربت قلب القارة الأوروبية، وتتحسب لها كل دولها. وبمقارنة بسيطة نجد أن الإقبال على تعلم العربية قد زاد أضعافا في السنوات الأخيرة مقارنة بسبعينات القرن الماضي.
الجديد:بماذا تنصح المقبلين على تعلّم الإيطالية؟
حسين محمود:ليست هناك لغة صعبة، وإلا كانوا أهلوها هم أول من تخلوا عنها. والإيطالية لغة حية، وهذا معناه أنها تعكس حياة بشرية حقيقية. ليست هناك لغة ليس وراءها فكر، فتعلم مع اللغة ما تحمله من فكر وأدب وفن وحضارة.
الجديد:هل صحيح أن دانتي تأثر في الكوميديا الإلهية بأبي العلاء المعري أم أن المسألة مجرد توارد خواطر؟
حسين محمود:مثلما تحدثنا عن بوكاتشو وتأثره بألف ليلة وليلة نتحدث أيضا عن دانتي وتأثره بالمصادر الشرقية. لا يتعلق الأمر برسالة أبي العلاء المعري وحسب، ولكن العديد من المصادر الشرقية التي كانت متوافرة باللغة اللاتينية في عصره، مثل كتاب المعراج، وبعض المصادر الصوفية الأخرى. وليس عيبا في هذا ولا ذاك أنهما تأثرا، ولكن العيب، كل العيب، لو أنهما لم يتأثرا، فهذه المصادر الشرقية كانت هي عماد الثقافة في عصرهم، وكان لا بد لهما، باعتبارهما فنانين حقيقيين، أن يتأثرا بها. إذا كان الكاتب أو الفنان الحقيقي هو الذي يستطيع أن يكون ابن عصره، فما العيب في أن يتأثر بالثقافة السائدة في هذا العصر.