عزلة البيت فرصة للصمت
هل يكتب الشعر في لحظة الخطر؟ ستكون إجابتي من دون تفكير: نعم. بل لا يكتب الشعر من دون خطر، الخطر وقود الشاعر، به ينطلق إلى عوالم مجهولة ويعرّيها لقرائه.
لكن ما هي ضريبة ذلك؟
ما علينا في الضريبة، كثيرون دفعوا أجسادهم، وعقولهم، ضريبة لذلك، آخرون اختاروا الحذر، لكن في رأيي لا الحذر ولا الاندفاع هما الأجدر بالاتباع، بل الذكاء والإفادة مما سبق من شعر ونثر وسرد وأفلام ولوحات وموسيقى وغيره من فنون ومن معيش يومي ومن جغرافيا وبيئة وكائنات وتلفزيون وكل ما له وجود مادة أو فكرة. كلها أدوات لكتابة القصيدة بروح مغامرة في زمن تقلصت فيه المغامرة.
إذن القراءة، المشاهدة، الإصغاء، كلها محامل قد يستفيد منها الشاعر في دخول أعتى العوالم وأكثرها انغلاقا وضبابية وعتمة، هي أعماق الإنسان وأعماق الكون المتباعد.
تمر تونس بحجر صحي عام في مواجهة فايروس ركّع العالم، لكن كيف سأتفاعل معه، في ذاتي، وفي عائلتي وصحبي ومعارفي.
في رأيي وكتبت هذا مرارا، المبدع له بالضرورة موقف سياسي واجتماعي، لذا أيّ مبدع ينفصل عن دوره السياسي والاجتماعي هو في رأيي مجرد تقني.
لا أحب أن أكون “تقني معرفة” أحب لنفسي دورا أكثر تأثيرا وفاعلية وصدقا، ولو في شخص واحد هو أنا.
وجدت نفسي بمفردي حقيقة، فرّ الجميع إلى قراهم ومناطقهم الأمّ، فيما بقيت أنا، لأنني بلا منطقة أمّ ولا قبيلة ولا غيره من الانتماءات الضيقة، بل أعتبر الجميع أمهاتي الجغرافيات، لا تفاضل بين أمّ سابقة ولاحقة أو حتى أمّ متخيَّلة.
إذن وحدي أواجه الفايروس بعزلتي. أعمل عن بعد. وأرتب مؤونتي حسب ما يحدث وما أتوقع أنه سيحدث، كأنها لعبة نجاة.
كثيرون يتشدقون أنها فرصة للقراءة والكتابة. أما أنا فأرى العكس. إنها فرصة للصمت.
كيف تقرأ بضمير مرتاح في زمن خطير. وكيف تكتب إذا أنت أهملت الموت وهو يحاصرك؟ هذا نوع من الرياء والكذب.
أي نعم بدأت من أن الخطر وقود الشاعر والكاتب أو المبدع عامة، لكن نحتاج أن نعي الخطر قبل الكتابة، لذا لا تمكن الكتابة في نفس الزمن الذي يحدث فيه ما يحدث إلا بعض التوثيق. فحدوث الخطر واستيعابه ثم الكتابة.
تخيل كاتبا يحارب شعبه فيما ينزوي هو ليقرأ ويقلد ما كتبه غيره ليكتب بدوره جمالية مقلَّدة.
أنا ضد هذا. لا أصر طبعا على أن الكتابة صدق بالضرورة، بل أؤكد على أن ما يهم هو الإنسان قبل النص. من الإنسان الحقيقي يبدأ النص الخيالي. والنص الخيالي سيعود حتما إلى الإنسان الحقيقي.
إن تقنيي المعرفة كثيرون، كتاب موسيقيون شعراء وفنانون..إلخ هؤلاء الذين ينطلقون من خيال مقتبس إلى خيال مقتبس آخر، وإن كان هذا حقهم، فإنه ما ليس من حقهم أن يحتقروا المتلقي في هذه اللعبة الكاذبة.
ما الذي أفعله في زمن الحجر؟
أقرأ أشياء متنوعة. أصغي إلى الأخبار، أشاهد البرامج والأفلام. وأحاول كتابة منشورات فيسبوكية، رسائل، نصوص.. إلخ. نوع من التكامل الذي أحاول أن أجعله طبيعيا. لا يمكن أكتب لا أكتب.
مؤخرا سمعت قصة، حقيقية، تصلح أن تكون قصة أو رواية. فتاتان ماتت أمهما في إيطاليا. ولا يمكن دفنها، ولا إعادة جثمانها إلى تونس، ولا حتى أخذ جثتها من البيت.
فتاتان تعيشان مع جثة أمهما لمدة ثلاثة أيام، المدة التي قضتها الجثة حتى تاريخ كتابتي لهذه الأسطر.
أيّ أدب، أيّ سينما وأيّ لوحة أو موسيقى سترافق فتاتين تعيشان بجانب جثة أمهما. إنه الواقع الذي لم يكن الخيال في أكثر درجاته تطرفا قادرا على التنبؤ به.
إذن فليتوقف المبدعون عن اعتبار خيالاتهم أكثر قوة وقدرة وحبكة من الواقع، فليتوقفوا عن إخفاء وجوههم الواقعية ببعض التزويق والتذاكي والمعرفة التي تشتغل كتطبيق القص واللصق.
الأمر يتطلب نوعا من التكامل. لا تضاد ولا تعارض ولا تفاضل، كل جزء في هذا العالم له دوره، من أصغر بكتيريا إلى أضخم حجر إلى أكثر الكائنات توحشا (الإنسان) ولا شيء نقيض لشيء.
في هذه العزلة، فليفكر كل كاتب ومبدع ومفكر بعزلة، ووسط مجتمعه الصامت في بيوته، فليكن الفكر هو الضوء الكاشف.
ثم تأتي بقية المشاعر لتسير في ما خطه أو تعيه وتخرج عنه.