عزلتنا وهشاشتنا
لا أكاد أبالغ إن قلت بأنّني أشعر بأنّي في سباق دائم متجدّد مع الوقت، أدور في دائرته، أشعر بانسلاله من بين يديّ كأنّه نقطة ماء تنسلّ هاربة وأنا أحاول محاصرتها والتحصّل على ما أمكنني منها. أحياناً أمازح من حولي بالقول لو أنّ بالإمكان شراء بعض الوقت من أولئك الذين يشعرون بأنّ لديهم فائضاً منه، أو مَن يشعرون بالملل وأنّه ليس لديهم ما يفعلون. أغبطهم نوعاً ما، وأشفق عليهم في الوقت نفسه.
الزمن؛ هذا الذي يشكّل سرّاً من أسرار الكون، لطالما شغلني، وأسرني، وجعلني في لهاث دائم أرنو إلى خيط بداية جديد، أو خطّ نهاية مرحليّ، كلّ مرة، يظلّ سيّداً وحده، مهما حاولت فهمه، أو التكيّف مع تقلباته وأطواره، أو تطويع نفسي وفق المتغيّرات التي أجد نفسها واقعاً، أو ملقيّاً في أتونها..
ولا أدري إن كنت سأبالغ بالقول إنّه بالكاد تغيّر شيء بسيط في دورة حياتي في العزلة والحجر، فبرنامجي اليوميّ مليء دوماً بالانشغالات، وأعمل على سرقة بعض الوقت من نفسي حين أسترق متعة الخروج مع صديق من دون أن أشعر بأنّي مضغوط، وأنّ كثيراً من الأمور تنتظر منّي أن أنجزها.
أشعر بأنّي محاصر بالوقت، وبأنّي ملاحَق بأمور معلّقة تنتظرني، ولا بدّ لي من الالتفات إليها، وإيلائها بعض الاهتمام، وبعض الوقت الذي يفترض أن أقتطعه من دورة الزمن المنسلّة الهاربة التي ألهث وراءها في سيناريو يومي يكرّر نفسه منذ أكثر من عقدين من الزمن.
أشعر بالتوتّر، ينتابني القلق، أستوحش في كثير من الأحيان حين أكون ضمن الجماعة أو في مجالس عامّة، وأعود للهدوء والتصالح مع الذات والزمن حين أنفرد بالكتاب، وأنغمس في عوالمه، تتبدّد الوحدة حينها، يتبدّد الاستيحاش، ويتحوّل إلى عالم مزدحم بالجماليات التي أحاول التقاطها والتنعّم بها..
العزلة نعمة بالنسبة إليّ، تعني مزيدا من الوقت للقراءة والكتابة، ومزيدا من الترفيه المفقود، بمتابعة أفلام سينمائية أو الاستماع إلى موسيقى أشتاق إليها وأفتقدها، ناهيك عن إيقاف تيّار الحياة الجارف، والاستمتاع بساعات هدوء بعيداً عن ضجيج المدينة الذي لا يخلو من جماليات بدوره حين تكون قادراً على ضبط علاقتك معه، من دون أن تكون مرغماً على الغرق فيه أو الانسياق وراء جنونه.
أقضي ساعات طويلة في العمل، وبعدها أحاول التواصل بشكل يوميّ مع بعض الأصدقاء، ولاسيما أنّني مسكون بشعور دائم بالتقصير تجاههم، ذلك أنّي مقلّ في التواصل، أكره محادثات الفيديو، أملّ سريعاً من المكالمات الطويلة، أضيق ذرعاً بالتفاصيل، وأكره أن أبدو كمن يحاول التهرّب من التواصل والمهاتفة والمحادثة والاستمتاع.
في السنوات العشر الأخيرة، أشعر بأنّي كائن أونلايني، معظم حياتي أقضيها في عالمي، المنفتح على العوالم والأصدقاء من خلال التواصل عن بعد، وقبل ذلك أيضاً، حين كنت في مدينتي وبين أهلي وأصدقاء الطفولة ومحيطي الاجتماعيّ، كنت أشعر بأنّ الوقت ينسلّ بطريقة مرعبة، لذلك غالباً ما كنت ألوذ بالعزلة لأتمكّن من إنجاز ما أخطّط له وما ينتظر منّي إتمامه.
تفرض العزلة المستجدّة، كونها مفروضة، وليست اختيارية كما تعوّدت عليها سابقاً، طقوساً جديدة بدورها، ذلك أنّ عليّ أن أراعي متطلّبات الأسرة، ولاسيما أنّ بنتيّ؛ هيفي وروز، توقّفتا كغيرهما عن الذهاب للمدرسة، ودخلتا معنا في عزلة إجبارية، ولا يمكن للأطفال تفهّم موجبات العزل كما يجب، وتكون طفولتهما أكثر غلبة ومطالبة بأخذ حقّها من الوقت المفترض.
أتمعّن في الهدوء الإجباريّ الذي فرضه الفايروس على هذا الكوكب، وكيف أن التوقيف المؤقّت يخدم البيئة، ويمنح المناخ رئات للتنفّس، عسى أن تداوي الطبيعة بعض جراحها الناجمة عن عبث البشر بها، وأذكر كم كان إقناع بعض العابثين بالبيئة بتهدئة جزء من عبثهم ضرباً من الاستحالة، لكنّ إذعانهم لاجتياح الفايروس وهجومه يبدو لي تحطيماً لذاك الغرور الممجوج، وإيقافاً لهم عند حدّ كان يجب عليهم تفهّمه قبل وقت طويل.
مسافة الأمان التي أكرّر لنفسي الحديث عنها، والتي تشكّل تفصيلاً من تفاصيل السلوك الحياتيّ، تلغى في واقع العزل، فلا مسافة ولا أمان، يكون الذعر جاثماً على الصدور، وطائفاً في الأجواء، يحوم من حولنا مرعباً إيّانا وفارضاً شبحيّته التي تطغى وتستبدّ وتمحو أيّ مشاعر بالأمان وسط لعبة الذعر اليومية التي تسيّرنا بطريقة أو أخرى..
أفكر كم كشف لنا هذا الفايروس المستجدّ هشاشة عالمنا، هشاشة التكنولوجيا، وكيف عرّى التجبّر البشريّ، وأظهر ضعف الإنسان، وصغره، أمام هول ما تحمله الطبيعة له، وما يمكن أن يدمّره من مجهول لا يعلم كنهه، وفضح مزاعم البشر بالتفوّق والعظمة، أعادة ترتيب الأولويات، ووحّد البشر في سبيل هدف واحد، لأنّهم وجدوا أنفسهم معرّضين لحرب ضدّ البشرية، وأمام فايروس لا مرئيّ يغلق العالم، ويتسبّب بكوارث إنسانية واقتصادية عليه.
يبدو أنّ البشرية تكون بحاجة لهزائم من هذا النوع بين وقت وآخر، كي تدرك حجمها الحقيقيّ، ولا تبالغ في تألّهها وزعمها الوصول إلى قمم العظمة. الفايروس جرح الجبروت البشريّ وفضح عريه، أظهر للعالم أنّه عارٍ أمام المحن والكوارث، وأنّ عليه التأدّب أكثر حين يقف أمام الطبيعة وقوّتها المخفية وأسرارها المخبوءة.
يشعر الإنسان بنفسه أنّه مركز الكون، ولكن في حالات كهذه، يكتشف خيبته وضعفه، وأنّه مهما ظنّ بنفسه بأنّه عالم كامل، وجرم متكامل عظيم، إلّا أنّه يمكن أن يقع صريعاً على هامش الزمن، وفي دورة من دورات الحياة، بكلّ بساطة، ومن دون أن يشكّل وجوده أو غيابه أيّ علامة فارقة في رحلة الوجود الأزلية الأبدية التي لا يصمد في وجهها أيّ فرد مهما بلغ من قوّة أو جبروت.
التهديدات تحاصرنا كذلك بشكل دائم، فكلّ ما حولنا يمكن أن يكون مصدر تهديد لنا، وإن كان يوحي بأنّه موقوف أو موجود لخدمتنا وراحتنا، لكنّنا نحمل تهديداتنا الوجودية معنا، ما يبدو عامل أمان قد ينقلب إلى تهديد، وذلك في سياق الوجود الهشّ الذي يفتقر لمقوّمات الصمود أمام الكوارث المجهولة والتي يمكن أن تجتاحنا في أيّ وقت لتقلب مسار حياتنا وتسجننا في مخاوفنا القاهرة.
أقول لنفسي أحياناً غنّني فقدت شعور الخوف من التهديد بالموت في وقت سابق، وقبل أكثر من عشرين سنة، حين مررت بتجربة قاتلة، تجربة حرق كادت تودي بي أثناء خدمتي الإلزامية، أجبرتني على المكوث في المشفى حوالي عامين، وما تزال تداعياتها وتأثيراتها الجسدية والنفسية حاضرة معي يومياً، وكأنّ الحرق كان بالأمس، وليس قبل عقدين من الزمن.
بعد تلك التجربة أشعر أنّ أيّ لحظة أعيشها هي هدية من الحياة إليّ، وأنّ عليّ أن أكون ممتنّاً لأنّي ما أزال أعيش، وأنّي عدت من الموت لأحيا وأسترق ما يمكن من جماليات ومتع، بعيداً عن تعكيرها بالخوف الذي يسمّم الحياة، لذا فأحاول أن أقنع نفسي أنّ الخوف يشوّه النفس وأنّي عليّ ألّا أستكين لسلطته المدمّرة.
الرعب من المجهول المتربّص بنا شبح دائم، الخوف يعيد الاعتبار للحياة نفسها، والكوابيس الواقعية تكشف فداحة الخيبة الطاغية، والخسارة المعمّمة، وعسى أن يكون تفشّي الخوف أداة لتجميل الحياة وليس إنذاراً لتلويثها بالكراهيات والعنصريات والأحقاد والجرائم، وأن يفرض الفايروس سلوكيات جديدة تمضي بالإنسان نحو مزيد من المحبة للآخر، لأنّ المصير المشترك يجبر على التسامي على الخلافات والأحقاد، ويملي توحيد الجهود للإنقاذ، فمركب الحياة يمكن أن يغرق لأيّ سبب، ولن تنفع الذرائع التي يسوقها البعض بتلافي الخسارة أو تخفيف وطأتها..
وحدة المصير الإنساني تحدّ تاريخيّ وجوديّ أمام البشرية التي تواجه حرباً ضروساً من فايروس لا مرئيّ يمرئي لها صورها وتاريخها وخيباتها وكوارثها، ويساعدها على بلورة مسار جديد مختلف، عسى أن يكون هناك اعتبار ما، وتقدير لقيمة الحياة التي تمّ الاستهتار بها كثيراً في الحروب والأزمات المفتعلة.
أسأل نفسي: مَن أنا في هذه المعمعة، وأين يجب أن أكون، ما هو دوري، وما الذي يمكن أن أقوم به!
أقنع نفسي بعدها أنّني في هذه الحرب ألعب دوري بالبقاء معتزلاً، مستكيناً في الحجْر، مترقّباً ما ستبدعه العقول العظيمة في هذه المواجهة للتغلّب على الوحش الذي يفتك بالبشرية.
روائي وناقد من سوريا مقيم في لندن