عزل متبادل
عندما اندلعت الأزمة في مدينة ووهان الصينية، كنت أتابع أصداء كورونا كما أتابع أحداثا بعيدة نحن عنها في مأمن، أو أخبارا تُتداول في عالم افتراضي، قد تكون مجرد “فيك نيوز”، ولم أعِ تمام الوعي أن ثمة خطرًا محدقا يتهدد الناس جميعا، إلا حين تصدّر المشهدَ محللون وخبراء أوبئة وأطباء ورجال سياسة يتناوبون بانتظام متصل على البلاتوهات، ليؤكدوا أن ثمة عدوّا يتربّص بنا عند كل منعطف.
كان لقرار الحكومة الفرنسية غلق سائر المؤسسات وإيقاف كل الأنشطة الثقافية والتعليمية وقعٌ كبير في النفوس، بعضهم رأى فيه حدّا للحرية، وخرقا للديمقراطية، ولكن الأخبار التراجيدية القادمة من الجارة إيطاليا أخرست أكثر الأصوات ميلا إلى التمرد على ذلك القرار. وبانقطاع الأبناء عن المدرسة والزوجة عن العمل وركوننا جميعا في البيت، صرنا معنيين بما يجدّ، وتغير مفهوم البيت فلم يعد سكنًا بل ملاذٌ نعوذ به من شرّ مستطير.
بالحَجْر الصحّيّ تغيرت علاقتنا بالفضاء، فالذي هو في مثل حالي منغلقٌ داخل شقة، ليس له من سبيل إلى الهروب إلى الريف، حيث الخضرة والهواء النقي والطبيعة الغنّاء، صارت المدينة في عينيه أشبه بمكان قفر لا يشوب سكونَه حِسّ، جامدةٌ جمودًا يوهم بخلودٍ وقتيّ. مدينة تذكر بلوحات الإيطالي جورجو دي كيريكو، حيث الشوارع خالية، والساحات كئيبة، والزمن فيها معلّق، ساكنة سكونا يوحي بوَشْك زوبعة أو هجمة كائنات غريبة؛ أو بفيلم “على الشاطئ” (1959) للأمريكي ستانلي كرامر، الذي يصوّر مدينة ملبورن وقد خلت من سكانها بعد اندلاع الحرب العالمية الثالثة وتفشي إشعاعات الأسلحة النووية.
أمام هذا الوضع، ليس للناس إلا أن يرتدّوا إلى الداخل، أن يلوذوا ببيوتهم مرغمين بالقانون، أو بكورونا، هذا الوباء الذي لم يروه بعد، ولكن الأخبار المتلاحقة عن ضحاياه جعلتهم يدركون أنه هنا، يرود بالأماكن كالأرواح الشريرة. انسحبوا إلى فضاءاتهم الخاصة، يرتّبون حياتهم على قدر طاقتهم، كلّ على طريقته لا محالة، ولكنهم يلتقون في أشياء كثيرة لا تختلف عن نمط معيشهم اليومي المعتاد، حتى لكأن كل فرد منهم حمل معه قطعة من هذا العالم المشترك، الذي بات مهدّدا بخطر داهم، غامض لا يُدرَك، ملتبس لا يُفهَم، شبحيّ لا يُمسَك، سفّاحٌ يحصد الأرواح، حيثما حلّ، دونما شفقة ولا رحمة.
ومن عجب أن هذا الوباء الذي ألغى الحدود الطبيعية والدولية أوجد حدودا أخرى، فردية هذه المرة، حيث انعزل كل واحد في بيته، ليصون نفسه دون ريب، ولكن ليصون الآخرين أيضا، ويقيهم إصابة محتملة. أي أن انعزاله ليس لحماية نفسه فقط، وإنما أيضًا لحماية من يعرف، ولا يعرف، حَسْبُه أنهم بشرٌ مثله. ففي مناخ اجتماعي غلبت عليه الأنانية، جاء الفايروس يحمل رسالة مفادها ألا سبيل للنجاة إلا بالتضامن، والإحساس بالانتماء إلى مجموعة نحرص على حياتها كما تحرص على حياتنا. وبذلك نتمثل استعارة بليز باسكال عن “الغرف المنفصلة”، في حديثه عن مجالات النشاط العام كالتربية والصحة والعدالة والاقتصاد وما إلى ذلك، ليقيم غرفة خاصة به قصد الحفاظ على نفسه وأسرته، والحفاظ في الوقت نفسه على الغرف المنفصلة التي تشكل العالم، على أمل أن تساعده وسائل الاتصال الحديثة في إعادة نسج الروابط الاجتماعية ولو بطريقة مغايرة. فقد أثبتت وقائع التاريخ أن الأوبئة لا تفتك بالأرواح فقط بل تفتت النسيج الاجتماعي أيضا، وتفقد السلطات قدرتها على إدارة الأزمات، وكان المؤرخ اليوناني توسيديديس (465-395 ق م) قد لاحظ أن “طاعون أثينا”، وكان شاهدا على وقائعه، لم يصب الأجساد وحدها، بل أدخل اضطرابا على قواعد الحياة المشتركة وعمل المؤسسات، فالتوتر يبلغ أشدة زمن الأوبئة.
لتجاوز القلق والضيق في مثل هذه الحالات، يبتكر الناس ميثولوجيات شخصية أو جماعية، وبدل أن ينساقوا إلى الجزع والهلع، يجنحون لبناء عوالمهم، لأن الانكفاء على الذات وملاحقة الأخبار ليل نهار قد يفقدهم القدرة على الثبات، وخاصة القدرة على الحلم. في “شعرية الفضاء” كتب غاستون باشلار “لو يسألونني عن أنفَس نعمةٍ للبيت سأقول: البيت يحمي الحلم، البيت يحمي الحالم، البيت يسمح لنا بأن نحلم في سلام”. ولكن هذا يصحّ حينما يكون المرء وحيدا يرتّب حلمه كما يشاء ويوزع وقته كما يهوى، فما الحيلة إذا ألفيت نفسي مرغما على مقاسمة أفراد أسرتي الوقت كما أقاسمهم المساحة، على ضيقها، حتى هجعة الليل؟”.
في سكون الليل، يلتهب الذهن بتساؤلات لعلّ أهمّها كيف نحيا مع الشك، حين يفقد العالم تماسكه، دون أن نقع في الكآبة والخوف من المجهول؟ لا يكون ذلك إلا باتخاذ التجربةِ والعادةِ بوصلةً، الأولى تعلمنا تواشج الأشياء في ما مضى من حياتنا، والثانية تحثنا على توقّع الشيء نفسه في المستقبل، وكلتاهما تساعد على تنشيط الخيال وابتكار بعض الأفكار. فالأوقات الميتة، أي لحظات العزلة التي يسمّيها القدامى تحررا، ذات أهمية بالغة لإنعاش تجربتنا الحياتية، وربما نجد فيها انعتاقا من هذا النسق المحموم الذي طبع هذا العصر، عصر التسارع بعبارة الألماني هارتموت روزا. ولكن المفارقة أننا انشغلنا عن عيالنا وإخوتنا وأصدقائنا بالتواصل الافتراضي، لضيق الوقت وكثرة الالتزامات، فلما أحالتنا العزلة على البطالة (إلى حين)، حرمَنا الفايروس من إعادة الروح إلى تلك العلاقات واقعيا، فأقمنا بيننا وبينهم هذه المرة مسافة حقيقية، يصدق فيها قول فريد الأطرش “قدّام عينيّ، وبعيد عليّ”، لنعيش في عزلة.
أنا أحب العزلة، حينما تكون باختياري، أغنمها فرصة للقراءة، والكتابة على وجه الخصوص، فلي من المشاريع ما لا يفي به عمر واحد، ولكني أكره العزلة حين تُفرَض عليّ، وتُقيِّد حركتي، فأغدو حبيس فضاء لا أغادره إلا بترخيص. انزعجت في البداية، ثمّ أقنعت نفسي بأن الحَجْر لم يفقدني أدواتي ولم يحرمني ممّا أريد، فأن أكون معزولا بإرادتي أو بإرادة هذا الوباء أهوَنُ بكثير من أن أكون تحت قصف المدافع والصواريخ زمن الحرب، حيث تنعدم كل شروط الحياة الآمنة، ولا مجال عندئذ غير التفكير في تأمين سبل البقاء. عدت أمارس طقوسي المعتادة، وإن بشيء من التحوير فرضه الوضع العائلي الجديد، فلي التزامات مهنية لا يمكن أن أخلّ بها، أيّا ما تكن الظروف، ومشاريع في الإبداع والترجمة تنتظر الإنجاز أو الإنهاء. انشغلت بها لكونها من صميم عملي دون ريب، ولكن لكونها أيضا جدارا يقيني أصداء كورونا وما يحوم حولها من إشاعات. بعضها تتحدث عن حرب بيولوجية خفيّة بين القوى العظمى، وبعضها يردّ الفايروس إلى عمل مخبري تتنافس إثره مؤسسات تصنيع الأدوية العملاقة للهيمنة على السوق العالمية. وما هي في نظري سوى نتيجة حتمية لإساءة الإنسان إلى الطبيعة، فالاحتباس الحراري والتصحّر وتدمير الغابات وتلويث البحار والمحيطات واستنزاف الطاقات الجوفية نجمت كلّها عن جشع إنسان هذا العصر، وخاصة إنسان البلدان المتقدمة الذي جعل التنمية الدائمة ديانة جديدة.
ولئن عزلتني كورونا عن العالم، فإن الكتابة عزلتني عن الكورونا، ولم أشعر لحظة أن وجودي مهدّد، لأني أعرف أنها زائلة مهما طال بها الزمن، ونحن باقون أيّا ما يكن عدد الضحايا. والذين يهوّلون المسألة بذكر أرقام لم تتجاوز الثلاثين ألفا عبر العالم حتى الآن، يتناسون عدد ضحايا الأوبئة السابقة، فالإنفلونزا الإسبانية وحدها (وإسبانيا منها براء) خلّفت نحو خمسين مليون قتيل. نعم، لست خائفا، فالموت آتٍ بالكورونا أو بغيره، وإن داخلني خوف أحيانا فعلى أهلي في تونس، وقد حلّت عليهم المصيبة هم أيضا؛ بل أنا متفائل، واثق أن علماء هذا “الغرب الكافر” الذي ندعو عليه بالوبال في كل صلاة، سيتوصّلون إلى استحضار ترياق ناجع، مثلما توصل سابقوهم إلى القضاء على سائر الأوبئة. ولا تراودني أيّ صورة عن فناء العالم، التي تروجها الروايات والأفلام الديستوبية، فلست من أنصار “الكَلّوبسولوجيا”، ذلك التيار الذي ظهر في بداية هذا القرن، وتنبأ دعاته بانهيار الحضارة الصناعية وزوال العالم في صورته الحالية. قد أستخلص من هذه الجائحة عبرة، أو فكرة، ولكني لا أتخذها فرصة لمحاسبة الذات والنظر في ما مضى من مسيرتي الحياتية والأدبية، فأنا ممن يداومون ذلك كل ليل، قبل أن يكّحل الكرى أجفاني كما يقول الشعراء.
ولكن ينتابني أمل وخوف. أمل بأن يعي الإنسان أخيرا أنه سبب البلاء في هذا الكون، فقد رافق انتشار كورونا تراجع الأنشطة الصناعية والاقتصادية، وتوقفها في بعض الحالات عندما اعتكف كل فرد داخل بيته، فاستعادت الطبيعة بعض عافيتها، إذ تناقص التلوث وتحسن الهواء وخفَت ضجيج المحركات، حتى أنه يمكن القول إن أكبر مستفيد من الوباء هي الأرض. أما الخوفٌ فهو من تكذيب النيوليبرالية كل التوقعات المتفائلة، التي تتوهم أن هذه الجائحة ستكون حدّا فاصلا بين عهدين، ما قبل “كوفيد – 19” وما بعده، وأننا سنشهد نظاما عالميا جديدا يزيل الحدود ويقرّ بأن مصيرنا على هذا الكوكب واحد، فقد تعالت أصوات في بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وأميركا تؤمن بالفلسفة الأخلاقية النفعية، التي تقوم على النظر إلى الأشياء وفق المصلحة العامة، تدعو إلى التضحية بالفئات العمرية الهشة كالمرضى والمسنين، للحدّ من أزمة اقتصادية رهيبة سوف تتسبب مستقبلا في أموات أكثر، بسبب البؤس والجوع وتفشي أمراضٍ سوف تعجز المنظومات الصحية عن علاجها لغياب الموارد المالية. ففي زمن الأوبئة، “عادة ما توجه المجموعة الإصبع نحو الضحية، الذي يتحول إلى كبش فداء، فيتم عزله، ثم تدميره” كما يقول الأنثروبولوجي الفرنسي فريدريك كيك.
فكّرت أن أستغل العزلة في تجميع أعمالي الكاملة، وإرسالها إلى بعض الثقات كي تنشر من بعدي إن حان الأجل، ثم طردت من خاطري هذه الفكرة التي توحي بالنهاية، نهاية مشروعي الأدبي والفكري، ونهاية وجودي ككائن حيّ. ومضيت أرتّب أوقاتي على ضوء الوضع الجديد، فأدرّس ولديّ، وأساعد زوجتي في إعداد الأكل، وأسمع الموسيقى في الشرفة، وأرد على مكالمات الأقارب ورسائل الأصدقاء، وعندما يخلد الجميع إلى النوم، أنصرف إلى حاسوبي لأحرر مقالة جديدة، أو أضيف بعض الفِقَر إلى رواية لا تريد أن تكتمل، أو أعكف على ترجمة رواية من عيون الأدب العالمي.
ومن الصدف العجيبة أنني، عند اندلاع أزمة كورونا في الصين، شرعت في ترجمة رواية للفرنسي جوزيف كيسّل تتحدّث عن معزولين في مصحة بمرتفعات الألب السويسرية، أصابهم السّل في مطلع القرن الماضي. ورواية ثانية للروسي يوري بويدا عن قطار لا يعرف أحد من أين يأتي ولا أين يمضي، ولا طبيعة حمولته، حتى عمال المحطة التي يتوقف فيها فقط للتزود والصيانة. فهل تكون كورونا كهذا “القطار الصّفر” الذي لا تعرف له وجهة؟ ربّما. ولكن لكل شيء نهاية، وكل وباء إلى زوال.
وصيّة كاتب
عندما أصابني هذا العدوّ الغامض، وجاءت سيّارة الإسعاف تنقلني إلى مستشفى بومبيدو، تساءلت كيف أدركني وأنا منه في منَعة، ليس في جواري غير زوجتي وأبنائي. عزلت نفسي عن الناس، وامتنعت حتى عن القيام بمشيتي الصباحية المعتادة في حديقة الحي. تناسلت في ذهني تساؤلات لا تفضي إلى يقين، وأسلمت أمري للأطباء يفعلون بي ما يشاؤون، وقد باتت روحي معلّقة بين أيديهم.
في غرفة الإنعاش، كانت أنفاسي حشرجة. غرفة صغيرة بلا نافذة، تنير فضاءها أضواء خافتة، وتزدحم فيها آلات إلكترونية وأسلاك ووصلات كهربائية… لم أعد أتساءل عن سبب إصابتي، صرت أسأل نفسي، بين سَعلة وأخرى، عن هذا الفايروس الذي ليس بيني وبينه عداوة، ولا أحسب أنه يعرفني أو أعرفه. تساءلت أيضا عمن أرسله إليّ، وليس لي في الكون كلّه من يضمر لي الشرّ، ثم ماذا سيكسب حين يزهق روح رجل مسالم، يحبّ الخير لكل الناس، على اختلاف أجناسهم وأديانهم. تساءلت أيضا هل هي نقمة إلهية عن خطيئة اقترفتها دون وعي، أم هو عقاب عن معصية ارتكبتها في شبابي؟ وإذا كان الفايروس تعبيرا عن غضب من الطبيعة، فما ذنبي وأنا الذي يعشق الخضرة والهواء الطلق شأن كل من نشأ في الأرياف، أتألم لوردة ذاوية، وغصن مقطوع، ودوريّ تدعسه سيّارة.
استبدّت بي الوساوس والهواجس والخوف من ترك أبنائي بلا عائل، وبتّ ليلة عسراء يجفو فيها جنبي عن موضعي. لم أدر هل نمت أم غُشي عليّ. كانت الأوجاع قد سكنت قليلا، وأنفاسي تتردد عبر جهاز التنفّس في نسق ضعيف، حين فتحت عينيّ. تراءى لي الرواق خافتَ الإضاءة. رواق يزفر رائحة أدوية وأمصال يدركها وعيي وتخطئها حاسّة شمّي، يشهد حركة في الاتجاهين تنبئ باستفحال الكارثة. ولم يمض وقت طويل حتى أقبلت ممرّضة في بدلة صحية بيضاء تلتم على جسدها القصير، وواقية ورقية تغطي شعرها وتنحدر على جبينها، وكمامة تستر الوجه فلا تبدو منه غير عينين زرقاوين محوّقتين. خلعتْ عن وجهي جهاز التنفّس، ووضعتْ بدلها كمامة. وما كادت تغادر الغرفة حتى دخل طبيب في بلوزة بيضاء مستور الرأس والوجه. جاء يعلمني بأن حالي ميؤوس منها، وأن نهايتي وشيكة.
ألجم الخبر لساني، فغمغمت من بين أسناني: “ما شاء الله كان.”
نظر إليّ من خلف كمامة لا تبين منها غيرُ عينيه الضيّقتين، وبدا متردّدا قبل أن يضيف في لكنة توحي بأصول آسيوية، فيتنامية أو كمبودية، لست أدري:
– يؤسفني، قال. يؤسفني إعلامك أن دفنك… أنّك ستدفن مع كل من قضى نحبه خلال هذين اليومين.
غصصت بما تبقّى في حلقي من ريق ناشف، وانتابني سعال حادّ وهو يقول:
– دون حضور أحد.
أزحت كمامتي رغمًا عنه وسألت:
– حتى أسرتي؟
– حتى أسرتك. توقّيًا للعدوى.
قال ذلك وتراجع نحو متر، وربما أكثر. لمحت في عينيه ما يشبه الحدّة وهو يقول في غضب جهد في كبحه:
– من فضلك، أعد الكمامة.
تجاهلت أمره وسألت:
– وأين سيكون الدفن؟
– في… في حفرة جماعية… خارج باريس، ردّ وهو يتراجع خطوة.
“حفرة، قلت في نفسي. وهل القبر إلا حفرة؟ … جماعية؟ يعني أنها تحوي موتى من كل الملل والنحل؟ … إلهي، ألا أجد الراحة حتى في موتي؟”.
– لي وصية، قلت أباغته قبل أن ينطق. ووصية الميت… في كل الثقافات… تُحترم.
التفت خلفه كمن يبحث عمّن يساعده، وأراد الكلام فسبقته إليه:
– أنا كاتب، أتفهم؟ ولا يعقل أن… أن أعامَل كسائر الموتى.
– ليس في هذا الظرف، رجاء، ردّ بجفاء.
قلت في صراخ واهن مبحوح:
– إذا لم يكن من الحفرة بدّ، فأنا… أريد… أن تكون لي حفرة وحدي.
كنت قد بذلت في الصّراخ كلّ جهدي، رغم أنه كان من الضّعف ما لا يتجاوز مسافة شبرين. انتابني الألم من جديد، وتسارعت أنفاسي، وأدركت أنها ستنقطع، فقلت في همس وكأني أحدّث نفسي، وربما خيّل إليّ أني نطقت، وما فاه لساني بحرف:
– أريد أن يكتب على شاهدتها: هنا… هنا يرقد من تحدى الكورونا. الكورونا إلى زوال … وهو باقٍ.
بدا أنه لم يسمعني، أو لم يفهمني. وقبل أن أعرف رأيه، غامت الأشياء أمام ناظري، وضاقت أنفاسي، وشهقت شهقة فاضت معها روحي.