عزيزة الطائي.. السرد العماني
تعتبر د. عزيزة الطائي شخصية أساسية في الحياة الثقافية العمانية، فهي ناقدة ومؤرخة أدبية وأديبة تكتب الرواية والقصة القصيرة. من إسهاماتها الأساسية التأريخ النقدي للتجارب والظواهر القصصية والروائية ولأشكال السرد الحديث في عمان، منذ نشأة هذا الأدب وظواهره في ثلاثينات القرن الماضي وحتى اللحظة الحاضرة، وآخر ما قدمته على هذا الصعيد كتابها النقدي الصادر مؤخراً عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” في بيروت تحت عنوان “الخطاب السردي العماني: الأنواع والخصائص” وتدرس فيه الأعمال الأدبية التي أنتجها الكتاب العمانيون ما بين 1939 وحتى 2010. قبل هذا الكتاب صدر للكاتبة العديد من الدراسات منها “الكتابة في مرآة الذات: قراءات في نصوص عمانية معاصرة”، ومن أعمالها الأدبية بين روايات ومجموعات قصصية نجد “ظلال العزلة”، “أرض الغياب”، “خذ بيدي فقد رحل الخريف”. تشير الطائي في قراءتها للأدب السردي العماني إلى وجود علاقة مرجعية بالثقافة العربية مستمدة من تأثير دول المركز على الكتّاب العمانيين فهي تشير إلى أن البدايات المؤسسة للخطاب السردي العماني برزت وترعرعت مع الأدباء العمانيين المهاجرين وأندية الطلبة العمانيين في العواصم العربية المراكز مثل القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت. تجدر الإشارة إلى أن عزيزة الطائي سليلة بيت أدبي وسياسي في عمان، فهي ابنة عبدالله الطائي، الأديب والمناضل ضد الاستعمار البريطاني. وهذا الحوار معها انطلق أساساً من موضوعات كتابها الأخير والمنهج الذي اعتمدته في تحليل النصوص السردية، والنتائج التي توصلت إليها في دراستها، مرورا بالحديث عن اتجاهات النقد الأدبي في العالم العربي وتياراته واعتمادها مناهج نقدية غربية. وهي في هذا السياق ترى أن النظريات النقدية مشتركة في كل الثقافات، وهي بالتالي قابلة للتطويع على أيّ نص مدروس إلى أيّ ثقافة انتمى. وترفض الطائي أي كلام عن عزلة اللغة العربية أو انغلاقها، وترى أنها لغة واسعة وقديرة ومطواعة ولديها قابلية على استقبال المصطلح النقدي الغربي وتقديم مقابل له، وقد قامت بدورها بجهد في هذا المجال في كتابها الأخير.
الجديد: ما هو المنهج الذي اعتمدته في تحليل النصوص السردية العمانية وقراءتها في دراستك المنشورة مؤخرا حول الخطاب السردي في الكتابات العمانية الحديثة؟
عزيزة الطائي: المنهج الذي اتبعته في هذه الدراسة منهج الخطاب السردي من خلال الجمع بين نظرياته وآلياته المتحققة عند منظريه الفرنسيين والشكلانيين الروس. وهي دراسة قصدنا منها تناول الخطاب السّرديNarrative Discourse) ) في الكتابات السّردية العُمانيّة الحديثة في الفترة الممتدة من (1939 – 2010)، وقد شئنا لها أنْ تكون شاملة للسّرد التّمثيليّ التّخييليّ، وما يمثّله من قصة قصيرة، ورواية، وقصة قصيرة جداً، ورواية سيرذاتيّة والسّرد الذاتيّ الواقعيّ، وما يمثّله عامّة من سيرة ذاتيّة، ومحكيّ طفولة، ويوميّات خاصّة، ومذكّرات، وبورتريه ذاتيّ، ومقال ذاتيّ؛ ورسائل خاصّة، لما تمثّله هذه الكتابات المتنوّعة من روافد دالّة على خصائص تبلور الخطاب السّردي العُماني ومظاهر تطوّر آلياته الكتابيّة الفنيّة والمضمونيّة على مدى حقبة من الزمن غير قصيرة تسمح نسبيا بتقويمه ورسم أهمّ تضاريسه الأدبيّة، ذلك أنّ كمّ الدّراسات الأحادية المتفرقة التي تعنى بجنس ما من أجناس الأدب العماني بات يسمح اليوم بالانتقال إلى مرحلة في البحث جديدة وضروريّة هي مرحلة التّقويم التّأليفي، وتبيّن الخطوط الكبرى وأهمّ المنعرجات الّتي آلت إليها مسيرة الكتابات الأدبيّة العُمانية لمدّة تناهز سبعة عقود من السّنين.
قدّمنا للبحث بتمهيد تحدثنا في جزئه الأول حديثاً موجزاً عن تعريف الخطاب السّردي وتطرقنا لآراء مجموعة من النّقاد لمصطلح الخطاب (Discourse) معرِّجين على أبرز تيّارين سرديين اهتمّ بهما الباحثون: أولهما، السّرديّة الدّلالية، ويمثل هذا التيار: بروب (Propp) وبريمون (Bremond) وغريماس (Greimas). وثانيهما، السّرديّة اللّسانية. ويمثل هذا التيّار، عدد من الباحثين من بينهم: بارت (Barthes) وتودروف (Todorov) وجينيت (Genette). ولم نغفل عن الإشارة إلى محاولات النّقّاد وجهودهم للتّوفيق بين منطلقات هذين التّيارين، إذ حاول جاتمان (Chatman) وبرنس (Prince)، الاستفادة من معطيات السّرديّة في تياريها الدّلالي واللّساني، والعمل على دراسة الخطاب السّردي في مظاهره بصورة كليّة.
ثم عرّجنا على أنواع الخطاب السّردي العُماني الذي مهدّنا له بمقدمة تنظيريّة تناولنا فيها أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، وخطّته، ومنهجنا الذي سنسير عليه، وأهميته مستندين إلى منهج تحليل الخطاب دون التنكّر للمضامين لصالح أشكال السرد متتبعين مسار الخطاب السّردي في عُمان وأبرز الأنواع السّردية التي كتب فيها الكاتب العُماني، وكيف تجلّت اتجاهاتها عبر مراحل زمنية تخوض التّجريب، وتنشد التّطور بهدف الوصول إلى النضج الفني.
معيار الاختيار
الجديد: ما المعيار أو المعايير التي لجأت إليها في اختيار النصوص، وما هي الاستجابات التي كنت تتوقعينها من النصوص، وما الذي فاجأك فيها، ولم تكن تلك المفاجآت في توقعك؟
عزيزة الطائي: المعيار كان معتمدا على: الأسبقية، والجودة، والتطور الذي أحدثته هذه النصوص في مسار النص العماني، وهي عَيِّنَة ممثلة جداً، إذ ضَمَّت الدراسات المنشورة ضمن كتب إصدارات المنتدى الأدبي، والدراسات الأكاديمية المنشورة أو غير المنشورة. فإنّ ما لمسناه من تنوّع النّصوص السّرديّة العمانيّة في فترة مبكّرة من ظهورها فضلا عن ثرائها الفنّي والمضموني يعدّ من أهمّ العوامل الّتي جعلتنا لا نكتفي بدراسة منظومة السّرد التّخييليّة، ونعمل على توسيع دائرة الدّراسة لتشمل منظومة أدب الذّات المرجعيّة أيضا، إذ لا يكتمل النّظر في الخطاب السّرديّ الأدبيّ ولا تتشكّل أبعاده الإنشائيّة تشكّلا عامّا إلّا باجتماع المنظومتين المذكورتين، وتظافرهما على تكييف ملامح الخطاب السّردي الكبرى.
وقد كان بالإمكان أن تقتصر هذه الدّراسة على درس نوع أدبيّ واحد مثل الرواية أو القصّة القصيرة، ومتابعة مختلف أطواره الفنيّة، ولكنّنا طمحنا إلى تحقيق مغامرة نقديّة شاملة تستقرئ بتأنٍّ ما ترسّب إلى يومنا هذا من عديد الدّراسات النّقديّة الناضجة التي تتابع باستمرار ما يصدر من كتابات سرديّة عمانية متنوّعة، التخييلية منها والذاتيّة المرجعيّة على حدّ سواء، ولكن أحادية هذه الدّراسات وتراكمها اللّافت جعلنا نعي اليوم أنّ الأدب العُماني بات في حاجة أكيدة إلى استجلاء ملامحه العامّة ومنعرجاته الفنيّة الكبرى عبر تحقيق دراسة نقديّة جامعة تجمع شتات ما أنجز من أجل رسم الجغرافية العامّة للمنجز الأدبي العماني، وطرح إشكالياته ورهاناته الكبرى، فضلا عن مزيد التّعريف بنصوصه وأهمّ مبدعيها.
مقدمات فاتحة
الجديد: أشرت في مقدمة دراستك للسرد العماني إلى أن “أغلب ما كُتِب من دراسات نقدية في أنواع السّرد العماني متناثر في مواضع شتّى من الصّحف والمجلات والدّوريات المحليّة”. هل تعتبرين أن الكتابات النقدية التي أشرت إليها كانت منتجة لمعرفة عميقة بالنصوص وفاعلة بالتالي في القراءة العامة؟
عزيزة الطائي: بالنسبة إلى المادة النّقدية العُمانية الّتي مثّلت الأرضيّة الّتي انبنى عليها مشروع البحث كانت غزيرة وموزّعة في مظان مختلفة، ولئن لم يقارب أيّ منها الخطاب السّردي العماني في شموليته لأجناس عدّة، فإنّنا نرى من الضّروري أن نعرّف بأهمّها محيلين بذلك على جهود من سبقنا، ومهّد لنا الطريق لنواصل الجهد المبذول، ونقرّ بفضل السابقين علينا في ما نحن ماضون في إنجازه حتّى يتّخذ الأدب العمانيّ المكانة الّتي تليق به في حقل الأدب العربيّ عامّة، رغم قلّة التّعريف نسبيا بمنجزه المحترم إلى اليوم.
فهذه الجهود المتناثرة كانت بمثابة العين المفتوحة لنا، وهي جهود تحليلية بعضها تحليلات وقراءات ماثلت النقد الفاعل، وبعضها كالدراسات الأكاديمية وغيرها مثّلت القاعدة النّقديّة التي انطلق منها مشروع هذا البحث حتّى تتكوّن للقارئ فكرة نسبيّة عن صيرورة النّقد العمانيّ الحديث. وقد آثرنا أن نبدأ بالإحالة على النّقد الذي يعنى بالمتخيّل الأدبيّ لأسبقيته على النّقد المتعلّق بالكتابات الذّاتيّة المرجعيّة الّتي جعلناها لاحقة له.
ورأينا أن كلاّ من القصة القصيرة والرّواية في عُمان لم تتحركا منذ نشأتهما بعيداً عن النّقد، فقد كان النّقد حاضراً يواكب خطوات القصّة القصيرة؛ بالأخصّ منذ بداياتها الأولى رغم اتّسامه بشيء من البطء قياسا بتسارع وتيرة حركة الإصدارات القصصية، وتتابعها المكثّف في الزّمان.
أما بالنسبة إلى أدب الذّات في عُمان تندر حوله الدراسات النقديّة المنهجيّة بالقياس إلى ما هو متوفّر من دراسات نقديّة تعنى بالمتخيّل الأدبي؛ إلّا إذا استثنينا دراسة نصيب الصّبحي “السّيرة الذّاتية في الأدب العماني الحديث – دراسة وصفيّة تحليليّة -“. تنطلق هذه الدراسة من فرضية مفادها أنّ المفهومَ المعياريَّ للسّيرة الذّاتيّة لم يعد قادراً على تمثيل نصوصها التي تكتب اليوم في الأدب العمانيّ المعاصر، كما أنّ تواري الكتّاب خلف رواياتهم للحديث عن حياتهم يجعل الحدود بين السير الذاتية والرواية متداخلة، علاوة على أنّ السّير الذاتيّة في عُمان تستمدّ أسلوبيّتها من الرّواية.
قابلية النظرية
الجديد: غالبا ما يلجأ دارسو النصوص الأدبية الحديثة المكتوبة بالعربية إلى مناهج نقدية غربية وهذه المناهج ومصطلحاتها هي منتج فكري ونقدي هو خلاصة تتصل بتاريخ الثقافة الغربية وتوجهاتها، هل ترين أن النص العربي يحمل في جيناته اللغوية وميزاته الجمالية القابلية على القراءة والتحليل انطلاقا من هذه المرجعيات النقدية الغربية؟
عزيزة الطائي: من وجهة نظري المتواضعة فالنظريات النقدية واحدة، وقابلة للتطويع على أيّ نص مدروس حتى وإن كانت من ثقافات أخرى، فالحكم على فنيات النص وبنيته من خلالها كون النص الأدبي مبناه متشكل ومنتزع من متعدد وهي التي تتناولها هذه النظريات، أما المضامين الموضوعاتية هي التي تختلف من بيئة إلى أخرى؛ علما بأن هناك الكثير من الأسماء العربية بدأت بصياغة آليات نقدية من خلال النظريات المطروحة فعلى سبيل المثال لا الحصر في السرد المتخيل تتفاوت الأصوات بين نقاد المشرق كعبدالله إبراهيم، خليل الشيخ، جابر عصفور؛ صلاح فضل، عبدالفتاح كليطو، محمد القاضي، محمد الخبو، عبدالرحيم جيران، يمنى العيد، سيزا قاسم وغيرهم، أما على صعيد كتابات الذات أعتقد إسهامات جليلة الطريطر في كتابها المرجعي الذي أطرت فيه لنظريات مهمة من خلال تطبيقها على بعض النصوص العربية.
الجديد: هناك من يعتبر أن الثقافة العربية فقيرة في المصطلحات النقدية ومتخلفة عن إنتاج هذه المصطلحات هل توافقين على هذا الرأي؟
لا أتفق كليا، لأن الترجمات ومرونة اللغة العربية واتساعها فتحت أبوابا منافذها مشروعة عند ترجمة هذه المصطلحات وما يقابلها في اللغة العربية، وهذا ما قمت به في أحد فهارس كتابي الذي اجتهدت فيه فكل مصطلح أجنبي له ما يقابله في اللغة العربية؛ وقد أفادني كتاب معجم السرديات الذي أشرف عليه الدكتور محمد القاضي مع مجموعة باحثين ومنظرين قديرين من تونس، ومعجم مصطلحات التداولية الذي اشتغل عليه مجموعة باحثين تحت إشراف عزالدين المجدوب، والمعجم الموسوي في علوم اللغة الذي ترجمه عبدالقادر المهيري وحمادي صمود.
عالم السرد
الجديد: ما هي أبرز الخلاصات التي خرجت بها من دراسة النصوص السردية العمانية؟
عزيزة الطائي: حين نتحدث عن النصوص السردية في عمان لا بد أن نميز بين مراحل ظهورها من جهة، ومراحل تطورها من جهة أخرى. ويتطلب منا ذلك الوقوف عند دعامتين سرديتين، هما: الأدب المتخيل (القصة القصيرة، الرواية، القصة القصيرة جدا، الرواية السيرذاتية) وأدب الذات (السيرة الذاتية، محكي الطفولة، المقال الذاتي، اليوميات) فهذه الأجناس بأنواعها حاضرة في عمان حسب مرجعية وتاريخ حضورها.
وأبرز ما خرجت منه دراستي:
أولا: السرد المتخيل
إنّ تطور القصة القصيرة العُمانيّة متواشج، ومتفاعل مع تطور الأحداث والمخاضات التي حدثت للمجتمع منذ سنوات الانغلاق السّياسي، التي اتسمت بالبحث عن الهويّة الوطنيّة، إلى سنوات الانفتاح التي اتسمت بالبحث عن الهويّة الاجتماعيّة.
إنّ التّمرحل الذي قطعته القصة القصيرة العُمانيّة، يكاد يناظر ويماثل ذاك التّمرحل الذي قطعته القصة القصيرة العربية بعامة، مع فارق أساسيّ، وهو أنّ القصة القصيرة العُمانيّة كانت مشمولة بسطوة الواقع المعيش، فجاءت تعبر عن الحالة الاجتماعيّة والسّياسيّة التي مرّ بها الإنسان العُماني.
إنّ عدم الاستقرار الفني الذي تعيشه القصة القصيرة العُمانية، كما هو بدهي، جزء لا يتجزأ من عدم الاستقرار النّفسي والفكري والاجتماعي، ومؤشر عليه. بيد أنّ هذا لا يمنعنا من اعتبار الواقعيّة هي السّمة الغالبة على القصة القصيرة العُمانيّة، ومهما تعددت، وتقنّعت طرائق وتجليات هذه الواقعيّة. هذه بعض المؤشرات الناتئة عن التّحوُّل الذي طرأ على القصة القصيرة العُمانية، وهي كما نلاحظ، تشكّل خلخلة واضحة للبنية التّقليدية، كما أنّها تبرز احتقانا فكريا يشُّفّ بدوره عن احتقان اجتماعي وتاريخي، وأول ما لاحظناه في هذا الصدد، هو تكرار الموضوعات والمضامين القصصية واجترارها، إلى المدى الذي تبدو فيه النّصوص القصصية على اختلاف لغاتها وبُناها تنويعات على وتر واحد، بالنّسبة إلى القاص الواحد أو بالنسبة إلى المتن القصصي عامة. وهنا نضع أيدينا على أول شرخ في جسد القصة القصيرة العُمانية، وأول مؤشر على أزمتها.
سيادة البناء التّقليدي على بناء الرواية العُمانية، يبدو ذلك واضحاً من خلال سيطرة نسق التّتابع في بناء الأحداث، وغلبة الحبكة التّقليدية، وسيطرة البناء التّقليدي في بناء الشّخصية، وبناء المكان من حيث العناية بهما وتقديمهما تقديماً كاملاً شبه تفصيلي، وسيادة النّسق الخطي الأفقي في بناء الزّمن، وسيطرة اللغة الواضحة، وسيادة الراوي الخارجي – كلّيّ العلم – الذي يأتي عبر ضمير الغائب.
هناك محاولات جادّة للتّجديد في الرّواية، وسعي دؤوب للخروج من أسر البناء التّقليدي، عبر استخدامها لبعض الأساليب الحديثة، خصوصاً فيما يخص الزّمن الروائي، والرّاوي، حيث عمدت بعض الرّوايات إلى كسر التسلسل الأفقي، من خلال توظيفها لتقنية الاسترجاع أو الاستباق بصورة متكررة فكسرتْ نمطيّة السّرد التتابعي، وجمعت بعض الروايات بين التناوب الزماني، وتعدد الرواة، وفئة ثالثة جمعت طريقاً جديدة منها التّناوب الزّماني، وتعدّد الرواة، وتعدد الحكايات وتداخلها، وتكثيف اللغة، والاعتماد على الاستبطان بصورة كبيرة، وغيرها من الأساليب الحديثة التي حملتْ في ثناياها ميلاً واضحاً إلى التّجديد ممّا أدى إلى ارتياد عدد قليل من هذه الرّوايات لآفاق التّجريب في محاولة جادّة ومركّزة لدى (علي المعمري، وعبدالعزيز الفارسي، وجوخة الحارثي، وحسين العبري) ألحقت الرّواية العُمانية بركب الرّواية العربية والعالمية في خوض هذا الميدان.
تتلون القصص القصيرة جداً بتلاوين متعددة، فعند اصطدامنا بعناوين المجاميع القصصية العُمانية القصيرة جداً، يتبين اختلاف تراكيبها الجُملية والنّحوية، فبعضها يقدم عبارة عن مفردة، وأخرى عبارة عن جملة، وأخرى عبارة عن تركيب ثنائي إسنادي يتشكل من نعت ومنعوت، أو من مضاف ومضاف إليه. وفي اختلافها التّركيبي هذا اختلاف من حيث المحمولات والدّلالات، بعضها صريح وبعضها مباشر، وبعضها ضمني ومضمر.
إنّ مقاربة مدلولات العناوين تفيد أنّها توحي أكثر مما تحيل أي تسمح بتأويلات متعددة ومفترضة، تغرق في المفارقة والغرائبية، تعيد الاعتبار لكلّ ما هو منسي وغابر في الذاكرة الجماعية العالمة. كما أنّ مضامين القصص القصيرة جداً لا تتردد في اتخاذ رؤية نقدية اتجاه العالم إذ تشخّص عبر عوالمها يقظة الفكر الذي يشهّر بالقيم الدونيّة التي أنتجتها قساوة الحياة، وظنك العيش، وصراع المثقف مع المبتذل من القيم، والمشاعر؛ مما حدا بالحكايا القصصية إلى التّمرد على الواقع فجعلها تشتغل بالعجائبي كوجه تؤسطر به الواقع، وتكسر به كل منطق عقلي ينتج مطلقا أو قيمة ثابتة.
إنّ التّداخل بين الأجناس الأدبية، وخاصة تلك التي تدخل في نطاق الأدب الشّخصي تفرض علينا الانطلاق من النّص والبحث في جماليّاته، والاستناد إلى خصائص تقنية، ومعايير علميّة حتى لا يفقد النّص أدبيته، فالسّاحة الثّقافية العُمانية تحضر فيها نصوص متنوعة، انفتحت على فضاءات متنوعة بين السّرد والشّعر، وهي بحاجة إلى تجنيس ودراسة معمّقة؛ خاصة إذ أكدنا أنّها ما زالت تتمحور في سردها وإيقاعاتها حول الذّات الكاتبة ومحيطها. فأدب الذّات خطاب مفتوح يتداخل مع الأجناس الأدبية والمعرفية، يتأثر بها ويتماهى معها.
بالنسبة إلى أدب الذات في عمان تندر حوله الدراسات النقدية المنهجية بالقياس إلى ما هو متوفر من دراسات نقدية تعنى بالمتخيل الأدبي
تبين لنا من خلال الدّراسة أن الكتابات الذّاتيّة بوصفها نسقاً مغايراً للكتابات السّرديّة التّخييلية، تستند إلى ركيزتين التّاريخ والأدب، فهي قصة تسرد حياة صاحبها، وتتوافر فيها عناصر التّشويق الفني، والإمتاع البياني، فكتابة الذّات مهما كان نوعها وشكلها ما هي إلّا رواية المرء لحياته، أو جزء منها بأسلوب أدبي.
ومن المفيد ذكره أنّ معظم هذا النّتاج السّردي (المرجعي الذّاتي) كانت عناية أصحابه بالمضمون أكثر من عنايتهم بالشّكل؛ ولذلك يمكن القول إنّ قيمتها التّاريخية قد تفوق قيمتها الفنيّة، ولكي نتجاوز هذه المرحلة إلى مرحلة أكثر تجويداً وإتقاناً – بات لزاماً – التنّبيه إلى أنْ تتجه جهود الباحثين والنّقاد للتّعريف بهذا الجنس من الخطاب السّردي، والكتابة فيه، وتوجيه الكتّاب إلى نقاط القوة والضّعف فيما صدر من أعمال، سعياً وراء التنوع والجودة في كتابات الذّات.
تتبّعنا في هذه الدراسة نشأة السّرد الحديث في الأدب العُماني، وتبيّنّا كيف حبكتْ أنواعه المختلفة. وقد ظهر لنا أنّ هذا السّرد اتّسم بمقوّمات أسلوبية مخصوصة كالخاطرة، والعبارة المتخففة من القاموس المسكوك والزّخرف البلاغي، وسلك من ناحية أخرى نهج التّعبير عن روح الإصلاح الاجتماعي والتّصور الوطني للمرحلة الأولى، أي ما مثّل رؤيته كأدب تبشيري ورسالي.
لقد مكنتنا متابعتنا للخطاب العماني من رصد التّطور الفني لكتابة أنواع السّرد وخصائصه، خاصة في مضمار القصة القصيرة التي كانت آخذة في التبلور المطّرد بداية من الثمانينات وامتدادا إلى التسعينات. ولا شك أنّ العقد التّسعيني في عُمان يعد المجال الزّمني الذي تفتّحت فيه أقوى الأصوات تعبيراً ودلالة، سواء في القصة القصيرة أو الرواية، وانطلق الحكي الفني عبره يحفر مجراه راسماً مساراته الكبرى في أبنية فنيّة ستتهيكل وتتنضد تدريجياً لتؤكد ما يماثل “هويّة” سرديّة خصوصية، وتفصح عن خصوبة الرؤية والوعي الفني.
أمّا بداية الألفية فقد مثّلت النّضج الحقيقي للقصة القصيرة والرواية، فمن جهة بدأنا نلحظ مداومة شبه منتظمة على الكتابة السّردية، وهو ما سمح بتنامٍ لا بأس به لعدد من النّصوص القابلة لتشكيل مرجعية في السّرد ملائمة، ومن جهة ثانية نزوع هذه الكتابة إلى تمثيل التّجربة الاجتماعية والحياتية في التّعبيرات القصصية، وطرحها في قوالب متماسكة ذات إهاب متناسق، وهو ما يعتبر دليل تطور في حصيلة الكتابة المعنيّة، بلا منازع.
المرجعية العربية
الجديد: هل يمكن الحديث عن علاقة بنيوية للنصوص العمانية الحديثة بالسرد العربي الحديث الذي أنتج في المراكز المؤسسة له معه مطالع القرن العشرين في القاهرة، بيروت، دمشق، خصوصا أم أن مرجعياته موجودة في احتمالات أخرى؟
عزيزة الطائي: نعم فهناك علاقة مرجعية مستمدة من تأثير دول المركز على هذه النصوص لاسيما إذا أدركنا أن البدايات المؤسسة لهذا الخطاب السردي برزت وترعرعت من هذه الدول مع المهاجرين وأندية الطلبة العمانيين في هذه البلدان، لعل أبرزهم رائد السرد العماني عبدالله الطائي، تلاه بعد ذلك بسنوات طويلة الطلبة المبتعثون والدارسون في هذه الدول كالقاهرة والشام كسيف الرحبي، وأحمد الزبيدي، وسعود المظفر، ومحمد القرمطي وغيرهم وبإمكاننا أنْ نجمل مقوّمات خطاب الأجناس السّردية التّخييلية العُمانية في ثلاثة:
1- منهج يعتمد على فاعليّة العين الرّائية (الفوتوغرافية)، حيث تقترب الكتابة القصصية من الكتابة السّينمائية، وتغدو اللغة وصفية إخبارية، في الدّرجة الأولى. ويحضر القاص عبر هذا المنهج، راوياً ومحوراً، بضمير المتكلم أو الغائب، وقد يتلاشى من فسحة النّص، وهي حالة نادرة، محوّلا العين القصصية إلى كاميرا محايدة.
2- منهج يعتمد على فاعلية الذّاكرة كعين باطنية (المنولوج). أي ما يمكن أنْ ندعوه بكثير من التّحفظ تيار الوعي، حيث تقترب الكتابة القصصية من الكتابة الشّعرية.
وينزل الأنا بثقله عبر هذا المنهج، كاملا، بضمير المتكلم غالباً وبضميري الغائب والمخاطب، أحياناً.
3- منهج ثنائي تركيبي، يوائم بين الفاعليتين، فاعلية العين وفاعلية الذّاكرة، حيث تغدو الكتابة القصصية كولاجاً أو مونتاجاً من اللغات والأصوات.
أسماء وأصوات
الجديد: من هم أبرز الساردين والساردات في التجربة العمانية الحديثة الذين يمكنك إفرادهم والتنويه بهم على نحو خاص لكونهم مؤثرين في هذه التجربة؟
عزيزة الطائي: بدءا من النّصوص الرّائدة التي مثّلها عبدالله الطائي، فمرحلة التّأسيس التي مثّلها أحمد الزبيدي وسعود المظفر ومحمود الرحبي وعلي المعمري ومحمد سيف الرحبي، مروراً بالنّصوص الأخرى وصولا إلى ما تراكم في العقد اللاحق الذي أبرز لنا كتابات سرديّة قاربت النّضج عند عبدالعزيز الفارسي، ويحيى سلام، وسالم آل تويّة، وعبدالله حبيب، ومحمد عيد العريمي، وبشرى خلفان، وحسين العبري، ومحمد اليحيائي، ويونس الأخزمي، وجوخة الحارثي؛ هي الّتي وضعت الأسس القويّة للالتزام بالقضايا الاجتماعية والوطنية. هذه الكتابات السّردية قد اختطّ لها أصحابها مساراً واحداً لا تكاد تحيد عنه رغم ما قد يتعرض له من اختراقات أو يطوله من انزياحات؛ نعني مسار اندراج كل الأنواع السّردية تقريباً، في خط رسم الواقع ومحاكاته، ثمّ تشكيل تصوّر معين عن هذا الواقع إمّا يوازيه كمرآة له، أو يحاول أنْ يتخطاه ليصير احتمالاً وحدساً بما هو أعلى منه. وفي جميع الأحوال فإنّ الرؤية الواقعية بتنويعات وتلوينات متباينة – كما رسمناها – هي الشّريان الرئيس في هذا الأدب، وفي القسم الروائي منه خاصة.
كان صوت التّاريخ/الأيديولوجيا حاضراً على الدّوام، منذ مرحلة البدايات الأولى الموسومة بالبحث عن الهويّة، إلى مرحلة التّحديث الرّاهنة الموسومة بمساءلة الهويّة. يتأدّى إلينا هذا الصّوت بطرائق وأساليب مختلفة، فجاءت النّصوص القصصيّة تمثل تنويعات مختلفة على وتر التّاريخ. في المرحلة الأولى، كان “الوطن” محوراً للنّص القصصي. كانت النّصوص جهيرة بالهم الوطني والاجتماعي، هذا ما وجدناه عند عبدالله الطائي، ومن تلاه كأحمد بلال ومحمود الخصيبي اللذين أخلصا للهمّ الاجتماعي. وفي المرحلة الثّانية، حيث انطفأت جذوة الحميّة والحماسة، كان الإنسان محوراً للنّص القصصي.
فجاءت النّصوص معبرة عن الحالة الاجتماعية وخيبتها، هذا ما نلقاه مثلاً، عند بدرية الشحي، هدى حمد، سليمان المعمري، حمود الشكيلي، مازن حبيب، يعقوب الخنبشي، أحمد الرحبي، ومحمود الرحبي، سعيد السيابي، فاطمة الشيدي… إلخ. وفي المرحلة الثّالثة، حيث تعمّقت الخيبة، وطنياً وقومياً، أصبح “الأنا” أنا المثقف المأزوم المحبط، محوراً للنّص القصصي، وهذا ما نلقاه عند جُل قصّاصي المرحلة، واللائحة الطويلة.
وفي الفترة الأخيرة برزت أسماء لها محاولاتها الجادة كبدرية البدري، وخليل خميس، ورحمة المغيزوي، عزة الكيمياني.
المرجعيات العربية
الجديد: ما الذي يفيد الناقد العربي الحديث عودته إلى المفاهيم النقدية القديمة التي طورها العرب كحازم القرطاجني وقدامة بن جعفر وغيرهما في تثاقفهم مع الافكار النقدية اليونانية وغيرها في عصرهم؟
عزيزة الطائي: في رأيي المتواضع أراه مهما جدا ويحتاج إلى دراسة ونقاش لنطور مفهوم النقد من خلال الاستناد على مرجعياتنا النقدية التي أضاءت لنا مسارات عدة في تاريخ الأدب العربي، فالنقد القديم ضروري بما يعتمده من نقاش فلسفي، وأطروحات نقدية لتفسير القبح والجمال في النص والكشف عن مواطن القوة والضعف. فالأدب ونقده فن وذوق قبل أن يكون معرفة وعلما. ونحن بحاجة ماسة إلى تيار نقدي حديث مستوحى من النقد القديم حتى نستطيع أن نغير الأنماط الثقافية السائدة بعيدا عن المفهوم التقليدي للنقد؛ لنطور هذه الأنماط ونستحدثها دون الوقوع في الارتجال النقدي، وهكذا يتطوّر النص الأدبي في تنامٍ موزون ومتّزن مع تطور نظرياتنا المؤسسة
والمستمدة من المرجعيات النقدية القديمة.
نقاد وأشباه نقاد
الجديد: هناك من يرى أن حركة النقد الأدبي العربي متخلفة عن النص الأدبي.. كيف تنظرين إلى حال النقد الأدبي العربي اليوم؟ هل ترين أنه حقق شيئا من المطلوب منه في قراءة وتحليل ومواكبة النصوص الإبداعية العربية الحديثة، أم أنه متخلف فعلا عن لعب دوره في تفكيك النصوص والإضاءة عليها؟
عزيزة الطائي: لا أحبّ التشاؤم مطلقا، ولا التقليل من جهود الآخرين النقدية. فالنقد العربي حقق الكثير على يد مشتغلين أخلصوا له وهناك أسماء عديدة تتلمذنا على يديها، وننهل من إنتاجها وجهودها النقدية التي واكبت النصوص الإبداعية الجديدة بدراسات جادة مضيئة اشتغلت على النصوص وفكّكت بنيتها وفحواها، وهذه فئة اجتهدت وأطرت وأنتجت ولها كتاباتها ودراساتها تأطيرا وتحليلا وقراءة. ولكن لا تخلو الساحة الثقافية لدينا من أمراض يعاني منها النقد، فظهر لدينا أشباه النقاد، وهم الذين ضلوا طريق النقد فشوهوا مراميه ومبتغاه وحادوا عن الصدق إلى المجاملة الأمر الذي أسس لوبيات بغيضة تجامل، ولا تشتغل إلا على أعمال محددة وكتّاب معروفين، وهؤلاء ليسوا نقادا بل مرتزقة.
الجديد: من هم نقاد الأدب في العالم العربي الذين تعتقدين بكونهم مؤثرين في الحركة الأدبية العربية؟
عزيزة الطائي: هناك فئة متناثرة منهم في البلدان العربية أذكر منهم سعيد يقطين، عبدالله إبراهيم، عبدالفتاح كليطو، محمد القاضي، محمد الخبو، يمنى العيد.
الجديد: شاع في العقدين الأخيرين نشاط نقدي قدم نفسه بوصفه نقدا ثقافيا، هل تعتقدين بوجود؟
نقد ثقافي عربي؟
عزيزة الطائي: أعتقد أن هناك محاولات جادة عند الدكتور عبدالله الغذامي، ولكن ما زلنا بحاجة إلى التعمق في نظريات هذا النقد وفنونه والتباساته ونظرياته؛ كون النقد الثقافي يحتاج إلى مراس وفهم وقراءة ودراسة المجتمع بما فيه وما عليه. وأن تكون لدينا مقومات مبعثها الثقافة السائدة في المجتمع ومعالجتها. لذلك النقد الثقافي عندنا بحاجة إلى تأطير وتحديث بما يتماس مع فحولية المجتمع نفسه وما به من أعراف ومعتقدات علينا تشذيبها.
أجرت الحوار: يسرى أركيلة