عصر الشركات العملاقة
لقد انتهى عهد الأخ الأكبر وجاء عهد الأخوة الصغار! وهناك فرق بين العهدين، وكأنه انقلاب تام للمعادلة، فغدا المواطن العادي مُباهياً بأحداثه الشخصية، ويملك التحكم الكامل في نوع المعلومات التي ينتقيها ليخبر العالم عن نفسه.
صار بإمكان الفرد صنع صورته العامة بالطريقة التي تحلو له مكتسباً سلطة لم تكن له في السابق. في الماضي القريب جداً كانت أجهزة المخابرات تضخ إلى المجال العام الصورة التي تريدها عن المعارضين للنظام، وعلى وجه الخصوص المثقفين، وتصويرهم في صور نمطية سلبية منفرة.. إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي حطمتْ تماماً هذه الاستراتيجية فلم تعد مجدية، وفقد الأخ الأكبر التقليدي سيطرته على المشهد العام.
طبعاً يمكن لهذه الأجهزة أن تُحدِّث أساليبها، وتنشئ جيوشاً إلكترونية تعمل من داخل وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن حتى في هذه الحالة يمكن للمواطن القيام بإجراءات مضادة فعالة للحد من نشاطهم الخبيث.
نحن نعيش في حقبة الشركات العملاقة العابرة للقارات، وهناك وفرة معلوماتية لا يمكن محاصرتها، وعدم نجاح الأجهزة القمعية في محاصرة المعلومات هو دليل على ولادة إرادة جديدة كلياً، تتكون من مجموع إرادة ملايين الأفراد.
توظف الدول العربية قدراً هائلاً من اليد العاملة كـ”مخبرين”.. لقد حان الوقت لإرسال هؤلاء إلى المعاهد الفنية ليتعلّموا صنائع مفيدة لشعوبهم وأوطانهم.
يقولون إن الآلة ستحل محل الإنسان في الآلاف من المهن، وهذا ما سيحدث أيضاً بشأن مهنة “المخبر”، إذ ستحل محله وسائل التواصل الاجتماعي!
يُقال إنه في عهد الرئيس العراقي صدام حسين كان الرجل يشك أن زوجته تتجسس عليه، والأب يخشى من ابنه، والأخ يرتاب في إخوته، لأن النظام في ذلك العهد كان يُحكم قبضته على الشعب عن طريق توظيف عدد هائل من المخبرين. وهذه أساليب قبيحة وفظة في إدارة الشعوب، وينبغي التخلص منها ودفنها في مقابر القرون الوسطى.
البديل المتحضّر الآن هو التجسّس عن طريق متابعة حسابات الفرد في وسائل التواصل الاجتماعي. إنه تجسّس مهذب يتم عن بعد، وبأساليب لا تثير الانزعاج.
في السابق كان أجر الحصول على المعلومة يحصل عليه المخبر وحده، ولكن في عصر الشركات العملاقة فإن المواطن يتقاسم مع الشركة المُشغّلة للموقع الاجتماعي ثمن المعلومة، فهو يُزود الشركة بمعلومات شبه يومية عن نفسه، وفي المقابل يحصل على خدماتها مجاناً.
هذه الطريقة الناعمة في إدارة الشعوب تبدو لي أفضل من الأساليب التقليدية الخشنة.. في الماضي كان يمكن لمخبر حاقد تقويض حياة إنسان بسبب تقرير ملفّق، أو قد يستغل لحظة انفلات أعصاب ضحيته التي تفوّهت بكلمات غاضبة عن النظام في أحد المقاهي ويرسل وشايته إلى المخابرات فيتم اعتقاله.
وسائل التواصل الاجتماعي لديها ميزة أنها تعطي المرء فرصة للتروّي والتفكير قبل النشر، وفي حالة انقضاء الانفعال الظرفي يمكن حذف المنشور ومحاصرة تداعياته.
وسائل التواصل الاجتماعي هي “المخبر” الأنيق الذي يتجسس علينا دون استفزاز أو ضغط. وهذا المخبر أكثر رحمة وإنسانية من نماذجه القديمة السيئة السمعة.. ويكفي أنه يتعامل مع المواطنين الذين يجمع عنهم المعلومات كزبائن لا كضحايا، ويمنحهم الحق في التمتّع بمزايا السادة الذين يقضون وقتاً ممتعاً وهم يستجّمون في المنتجعات الفخمة.