عقابيل‭ ‬التحول‭ ‬العنفي‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬العربي

الثلاثاء 2015/08/18
الفنان: عاصم الباشا

يمكن أن نبدأ في تعبيد درب فلسفي ومعرفي، نسعى من خلاله إلى تحليل البنية الثقافية التي تحكمت، وما زالت تتحكم، في مسارات الفعل، ومدارات الفكر، وجملة التخوم التي تُسيّج مخيالنا العام‭.‬ وهو مسعى نجتهد في التأسيس له اعتماداً على نصوص مختلفة ومتنوعة، تتوزع بين الفلسفي والأنثروبولوجي، السوسيولوجي، والسيكولوجي، وغيرها من النصوص القادرة على تسييرنا في هذا الدرب الوعر‭.‬

منذ أن صدرت كتب محمد عابد الجابري "تكوين العقل العربي"1981،" بنية العقل العربي" 1986، "العقل السياسي العربي" 1990، "العقل الأخلاقي العربي"2001، بالإضافة إلى مؤلفات أخرى، حاولت أن تُخضع العقل العربي إلى دراسات تشريحية بمناهج متعددة، كالمنهج الماركسي "حسين مروة"، والمنهج الوضعي المنطقي لـ"زكي نجيب محمود" في كتابه" خرافة الميتافيزيقا"، والمنهج الظاهراتي عند المفكر "حسن حنفي"، والمنهج الطباقي عند "إدوارد سعيد" بطابعه الدُنيوي، وغيرها من المؤلفات التي اجتهدت في الكشف عما هو قابع في أعماق الفكر العربي، هل هو الدين " اللاهوت" أو القبيلة، أو الغنيمة، أو الخرافة، أو العجز الساكن في رؤيتنا لذاتنا، أو قابليتنا للاستعمار بحسب تعبير مالك بن نبي، أو الاقتصاد الريعي المتعفن، أو لعنة الكولونيالية، والتي لا نود أن نسردها في هذا المقام، ولكننا نتجه صوب الإقرار، ولو بصورة مؤقتة، بأنّ هذه الأعمال هي خطوة رائدة وطريفة في سياق التأسيس لفهم مستقبلي، نصنعه الآن، ولو على مستوى النصوص، إيمانا منا بأنّ النص هو الذي يصنع الواقع، وأنّ ما هو منتشر في الرؤى المكتوبة والمنطوقة، هو الذي سيكون واقعاً يوما ما‭.‬

العقل القاصر

على أساس ذلك، اكتشفنا، من خلال هذه الأعمال، أنّ الفكر العربي في مجمله، يحتوي في جوفه على عواضل كثيرة، منعت الفكر العربي من تحقيق الوثبة لكي يغدو عقلاً، فنحن لم نصل بعد إلى مستوى العقل في صورته النسقية أو في شكله الشذري، وبالتالي فنحن أمام فكر عربي يجتهد في أن يؤول عقلا، بحيث ما زال يمد يده إلى مناهج ومفردات ورؤى غيره، ويعني ذلك أنّه ما زال قاصرا عن صناعة ما يؤثث لذاته معرفيا ومنهجياً وتحليلياً، وأن هذا المنشود يحتاج، في قادم الأيام، إلى فارس لغوي، وثائر فلسفي، ومغامر يعشق الحقيقة‭.‬

إنّ التعاطي مع هذه المسألة الشائكة ينبني على مسلمة مؤداها أنّ التغيير العُنفي الذي "حدث" في الوطن العربي حدث في الفكر العربي الذي لم يتصيّر عقلا بعد، فكر يمتلك اكتفاءً ذاتياً من جهة المناهج والمفردات والرؤى، ومن جهة النصوص الكبرى التي تؤسس له، لأن أغلبها كانت نصوصاً تشريحية، وليست نصوصاً بنائية، فهذا التمشي في الفكر العربي قريب جداً من النزعة النيتشوية، وحتى التفكيكية، وبعيد عن المنجز الكانطي، لهذا كان الفكر العربي عاجزاً عن فهم واستيعاب ما حدث على مستوى التغير العُنفي الذي حدث في الوطن العربي، فظهر في أغلب التحليلات مهللاً، مبشرا، متسرعا في أحكامه، ولم يستطع أن يفهم معنى "الحدث"، لأن "كلّ النخب الهووية تساوت أمام ما حدث: فاجأها وكشف عن حدودها وربما عن زيف مشروعيتها أو عن حدود صلابتها المدنية أمام الحياة‭.‬ فهذه الثورات المدنية بامتياز إنّما تشكّل تحدّياً حقيقياً وغير مسبوق وغير منتظر أمام النخب السياسية التقليدية، أكانت جزءاً من السلطة أو كانت جزءاً من المعارضة‭.‬" (فتحي المسكيني، الكوجيتو المجروح، ص 230)، وتعني كلمة ثورة في قاموس لاروس Révolution الكبير: "tourner"، أيُّ تحول وتصيّر، وهو تحّول لم ينتج عن عقل عربي يحمل هموم ذات عربية قادرة على إنجاز مشروعها الحضاري، وإنما نتج عن فكر عربي ما زال في طور التشكّل أو في مرحلة البحث عن مقامه الخاص به، وعجز عن فعل الوصف والتسمية، فأطلق على هذا التحول اسم الحدث الثوري، دون أن يكون لديه معرفة مسبقة بأنّ الحدث له معنى مخصوص في الثقافة الفلسفية، فالحدث في الرؤية الريكورية هو: "قدرته على إحداث تغيير متميز، أو نقطة انعطاف في مجرى الزمن‭.‬ ما كان يبدو لي ذا أهمية هو إمكان توسيع فكرة أرسطو عن الحدث peripteia، ومدها بما يتعدى قصرها وفوريتها بغية مساواتها بفكرة التحول الدال المتميز في مجرى معين للأحداث"‭.‬ (مجموعة مؤلفين، الوجود والزمان والسرد، فلسفة بول ريكور، تحرير ديفيد وورد، ترجمة وتقديم : سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط1، 1999، ص 243)‭.‬

الفنان: عاصم الباشا

ونحن نسميه، هنا، التغيير العُنفي، الذي قارب حدّ الشطط، اعتماداً على كمية العنف التي رافقت هذا التحول في الوطن العربي، ونظرا لوجود تربص مسبق من طرف قوى لا تاريخية، ترى في نفسها الفئة المرشحة لامتلاك السلطة، بحسبانها وعداً ميتافيزيقياً، وبالنظر إلى كونها مالكة للحقيقة المطلقة، وفي هذه الحالة تصبح الوضعية صعبة أمام الفكر العربي، إذ يذهب إدوارد سعيد إلى القول بأنّه على: "المفكر أن يشتبك في نزاع مدى حياته مع الأوصياء على الرؤية المقدسة أو النص المقدس، فضروب عدوانهم لا يحصيها العد، وهراواتهم الغليظة لا تقبل أي خلاف ولا تسمح قطعاً بأي "تنويع" أو تعددية"( إدوارد سعيد، المثقف والسلطة ـ ترجمة محمد عناني، ص 151)‭.‬

ولا نغالي إذا قلنا أن مسارات التغير أخذت أبعاداً خطيرة خاصة عندما ركبت هذا التغيير العُنفي قوى من خارج الوطن العربي - دون أن يُقرأ ذلك على أنه سقوط في نظرية المؤامرة- واستطاعت أن تمسك بتلابيبه بغية تحقيق حلم لا تاريخي في زمن تاريخي، يقابلها عنف آخر استوطن في التجربة العَلمانية العربية، وتبنته نخبة يعقوبية خالصة، لم تنجح في استنبات قيم حداثية داخل مجتمعات تقليدية، أو في نشر ما هو كوني والتبشير به، باعتبارها قيما إنسانية مشتركة، مثل الفصل بين السلطات، واحترام حقوق الإنسان، وبناء ذات قادرة، "فالعلمانية غير ممكنة في الواقع إلاّ في أفق شعوب ذات قيم مسيحية عميقة‭.‬ أمّا في نطاق الشعوب غير المسيحية، من إسلامية أو يهودية أو غيرها، فهذه وصفة ستعترضها عراقيل نوع آخر من "الدنيوية" لم يقع التفكير فيها تفكيرا نظرياً جذرياً بعد" ( فتحي المسكيني، الكوجيتو المجروح، ص 232)‭.‬

أفق التفكر

في هذا الأفق الفكري الذي لم يرتق بعد إلى مستوى العقل، لأننا ما زلنا نقتات على ما ينتجه العقل الغربي، ونعيش في زمن هارب يجري مع الريح، وتأخذنا، في ذات الوقت، ملهيات تراثية كثيرة، وأصبحت الكائنات الميتة هي التي تنظم مسار تفكيرنا وطريقة تعاملنا مع الحاضر، وهي كذلك تحول بيننا وبين أن نرتقي إلى مرتبة العقل والبدء في تعبيد الطريق نحو العقل النظري والعملي والجمالي‭.‬ كلّ ذلك يفسر لنا، ولو بصورة بسيطة هذه الطريقة الفجّة التي تعاطى معها الفكر العربي مع التغيّر والتحوّل الذي حدث في الوطن العربي، بحيث عجز عن فهمه وقراءته والتحكم في مساره على الأقل، وفسح المجال أمام القوى العُنفية، سواء في صورتها المُعلمنة أو في شكلها السلفي، لكي تسطو على التغيير وتوجهه الوجهة التي تبتغيها، وهي بدورها تجتهد في أن تُبقي الفكر العربي على حاله، وكأنّه وضع سرمدي‭.‬ وهي حالة أشار إليها المفكر العربي "عبد الله العروي": " مستشهداً بحالة المجتمعات والدول المغاربية‭.‬ فقد أقرّ بأنّ الحداثة هي عملية غير مكتملة" (عزّ الدين الخطابي، أسئلة الحداثة ورهاناتها، ص 11)‭.‬

إنّ المسألة هنا والآن، هي تزامن التغيير العُنفي مع حالة الفكر العربي، وارتباطه بهذا الوضع القاصر عن بناء ذاته معرفياً ومنهجيا وحتى إشكالياً، ووفق المنظور الظاهراتي للمفكر التشيكي يان باتوشكا (Jan Patočka (1907–1977) فإن أي فكر يعجز عن صياغة إشكاله المخصوص به، والمتماهي مع طموحاته التاريخية والمنغمس مع هواجسه الكبرى، فإنه يبقى دوما خارج التاريخ، بالرغم من تواجده في الزمن، وهو سبب كاف يسعفنا في فهم هذا العجز، وهذا الانحناء للآخر، وهذا الانتظار المرضي لكل ما يصنع في شمال الكرة الأرضية، وهذا الكساح الفكري الذي ألفناه‭.‬

لذلك تجده يسمي التغيّر العُنفي حدثاً أو ثورة أو تحولا جذريا، ويبدأ في تقديم قراءات منقطعة عن سياقها، تنهمم فقط بما هو مصلحي مغلف بالإيديولوجي‭.‬

لا نريد أن ندفع القارئ إلى ميتافيزيقا الانتظارات الكبرى، أي التعلق بما ورائيات ترتبط بتكون العقل، أو قل الماقبليات التاريخية وفق التوصيف الرائع لميشال دو سارتو(1925-1986 Michel de Certeau)، والقطع أيضاً مع الفكر، ولكننا نجتهد قدر الإمكان في تبيان مدى خطورة المسألة من جهة التنقيب عن درب يقودنا إلى أفق التفكر في قضايانا بمناهج نبدعها نحن، وبمفردات نخرجها من صلب معاناتنا، وبرؤى أصيلة ومنفتحة على الآخر، وعلى قدر العزم تأتي الدروب المستنيرة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.