عقبة القصور
هل حقا مازلنا نقف على عتبة القصور ولم نتخطاها؟ جميع الوجوديين الجادين (يجب علينا هنا التمييز بين الوجوديين المخلصين وبين دارسي الوجودية، كفلسفة ونظام رؤية وتفكير)، وكان آخرهم الفيلسوف البريطاني كولن ولسن قالوا هذا وأكدوا عليه بإخلاصهم المهيب.
ولعله من الضروري هنا أن نؤكد على أمر في غاية الأهمية بشأن الوجودية، وهو أن هذه الفلسفة لم تكن جهدا تنظيميا لطرق التفكير أو صياغة معرفية لآلية النظر، إنما كانت أسلوب عيش وتعامل داخل حدود هذه الرؤية، التي تقوم على فكرة عيش تجربة الحياة في داخلها وملامستها واختبارها في أدق مفاصل “وعيها” من أجل تحقيق الوعي بها وإدراك كنهها.. وهذا يعني أن الفلسفة الوجودية لم تكن ـ كباقي الفلسفات ـ مجموعة من الأفكار المجردة من أجل تحديد الرؤية وإنما هي أسلوب للوقوف على ماهية الحياة من الداخل اليومي واختبارها في مضمونها “العاطفي” ورؤيته بعريه التام وبكامل فجائعيته؛ ومن هنا قامت فكرة قيام هذه الفلسفة على الرؤى واعتمادها كأساس لتحقيق جهدها وقواعد بناها الفكرية.. وهذا ما صب عليه كولن ولسن جهده البحثي، وهو ما قاده إلى ما أطلق عليه “الوجودية الجديدة” التي تقوم على رصد والبحث عن طرق تحقيق وتكثيف الرؤى و”التجارب الغريبة”، وعن طريقها أو بوساطتها، على أمل الإمساك بالحقيقة، مبتغى وهدف الفلسفة النهائي والأخير.
ورغم أن كولن ولسن لم يكن أول من رصد اعتماد الوجودية الأجناس ـ الرواية على وجه الخصوص ـ الأدبية للتعبير عن أفكارها وطرح رؤاها، إلا أنه كان أول من أطر و”منهج” هذا الاعتماد أو درسه كأسلوب طرح أو وسيلة تعبير وكشف قائم بذاته، عبر سلسلة كتبه الفلسفية، التي بدأت بكتابه، ذائع الصيت، “اللامنتمي”، الصادر عام 1956 في لندن، والذي أتبعه بسلسلة من الكتب التي تابعت رصد الإنتاج التعبيري، في فنون الأدب ومختلف أجناسه، عن تطور ونضوج هذه الفلسفة، والتي أثبتت أنها كانت الوسيلة الأنجع لتوصيل الفلسفة من صيغة الأفكار المجردة التي اتّبعت منذ طلائعها اليونانية وإلى يومنا هذا.
تأتي أهمية دراسة كولن ولسن ورؤيته الفلسفية، التي أطلق عليها الوجودية الجديدة، من كونها جاءت كثمرة استقصائية لدراسة مستفيضة ومعمقة للآداب الأوروبية والأميركية، بصفتها كانت الحاضن والموصّل الحقيقي لأفكار ورؤى الفلسفة الوجودية، وخاصة في المراحل التي تلت مرحلة تأسيسها، كأفكار مجردة، على يد سورين كيركغارد ونورث وايتهيد، ومن سبقهم ومن تبعهم من فلاسفة الوجودية.
وقد تميزت دراسات ولسن للأدب الأوروبي، الرواية على وجه الخصوص، بطريقة تدلل بالدرجة الأولى على حسه النقدي المرهف، ومن ثم على جهده الدراسي الاستقصائي في تتبع مرض عصره الفكري، في أدب المرحلة التي ظهر فيها المرض وأكمل دورة حضانته وظهوره، باعتبار الأدب المرآة العاكسة لصورة المجتمع، والمشخص الأكثر رهافة لنموه الثقافي والأخلاقي ومسيرة تطوره الفكري.
ولد كولن ولسن في مقاطعة لستر، المملكة المتحدة، في 26 يونيو 1931 وتوفي في كونرول في 5 ديسمبر 2013. ورغم أنه ولد في عائلة فقيرة من الطبقة العاملة ولم يتمكن من إتمام تعليمه، إلا أنه، ولشدة ولعه بالأدب على وجه الخصوص، ثقف نفسه بطريقة ذاتية وبنهم مكنه من وضع كتاب “اللامنتمي”، وهو مازال في الرابعة والعشرين من عمره، والذي عد في حينه تشخيصا دقيقا لمرض أوروبا الفكري في أعقاب الحرب الكونية الثانية.
وقد دلل كتاب “اللامنتمي” ـ وهو عبارة عن قراءات نقدية تشخيصية لأهم الروايات الأوروبية والأميركية التي صدرت منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى مطلع خمسينات القرن العشرين، إضافة إلى مؤلفات بعض الفلاسفة الوجوديين، على أن كولن ولسن كان قارئا نهما واستقصائيا ويتمتع بحس نقدي من طراز فريد؛ وهذا ما مكنه من الإحاطة بأسباب وتشخيص مرض عصره الروحي/الفكري، والذي صنفه تحت يافطة اللاانتماء لمرحلة حياة مجتمعه والرافض لقيمها المادية، وأطلق على مريض تلك الأعراض (اللامنتمي).
تقوم الوجودية الجديدة ـ باختصار شديد ـ على فكرة البحث عن التجارب الغريبة التي تحقق الرؤى لـ”الإنسان الوجودي” والبحث عن وسائل وطرق تكثيفها من أجل تحقيق حالة مستمرة من يقظة الوعي والإدراك الذي يجعل الإنسان على تماس مستمر ومباشر مع حقيقة الوجود وحقيقة الأشياء، الأمر الذي يحقق لصاحبه حالة استشراف دائمة، وحالة تواصل وطفوّ على المتطلبات المادية التي تشد الإنسان إلى أسفل، أو متطلباته المادية.
وهذه الحالة، ورغم تشابهها فيما يسعى إليه المتصوفة في الكثير من جوانبها، إلا أنها تتميز عن مبتغى المتصوفة أو حالات إشراق لحظات التجلي التي ينشدونها، في كونها لا تعتمد طريق الدين في تحقيق الرؤى، رغم أنها لا ترفضه أو تتخذ منه موقفا (وهذا على عكس ما ظنه أو فهمه مشرقيو العالم فيها)، وهذا ما أفرز من الفلسفة الوجودية ما يصطلح عليه “الوجودية المؤمنة”، وبالمقصد الديني بالضبط.
ورغم أن كولن ولسن لم يفلح في تأطير وترسيم شكل واضح المعالم وملموس لفكرته هذه (حتى في الكتاب الذي أفرده لها، كتاب الوجودية الجديدة أو ما بعد اللامنتمي) إلا أن لا أحد يستطيع أن ينكر عليه اقترابه وملامسته الواعية لفحوى الفكرة، وشروعه ـ على أقل تقدير ـ في تحديد مقاسات جلباب مظهرها الخارجي، وأنظمة مداخله ومخارجه البحثية والاصطلاحية.
وإذا تجاوزنا جوانب الادعاء والتسرع عند كولن ولسن (وهي المسؤولة عن معاداة نقاده ومحرري الصحف البريطانية في اتهامه بالدجل والتزييف والادعاء الكاذب، وبأنه لم يكن أكثر من دعي نفخ بالون غروره أكثر مما يحتمل) فإننا لا نستطيع إنكار جهده في رصد جوانب أخرى من زوايا النظر والبحث في الفلسفة الوجودية، وأيضا رسم مدخل تحريرها من بعض قوالب التجريد الضارة التي لحقت بها، بتوالي جهود التنظير المتعسفة عليها من دارسيها وليس من فلاسفتها، وكذلك التحفيز باتجاه عودتها لقواعد انطلاقها، في كونها فلسفة وجود الإنسان وحياته، في أضيق حدود ذاتيته الكيانية ومفاهيميته الشخصانية، وليست فلسفة تنظير معرفي أو جهد رسم أنظمة وقوانين تنظيمية وتحكمية.
وبما أن كولن ولسن ينطلق من نفس منطلق الفلسفة الوجودية الرئيس، في كون الإنسان ملقى به في منتصف طريق لا يؤدي إلى أي مكان واضح ومغرر به ومخدوع، وسعيه بلا أفق منظور ولا جهة تعوضه، رغم استحقاقه لتعويض ما، فإن سعيه لإيقاظ وتطوير حالة من الرؤية المستدامة، التي تفتح آفاقا للبصيرة الخلاقة، كان جهدا لا يمكن إنكاره ولا بد من الوقوف أمامه… وتمييزه في أقل تقدير.
لا أحد ينكر ـ وكان كولن ولسن من بين المعترفين بهذا ـ على الفلسفات التي سبقت الفلسفة الوجودية في تحقيق حالة من الإشراق والجهد المعرفي والتنظيمي، إلا أن تجلي حالة الإشراق هذه (في رسم أطر وبنى هذه الحالة) جاءت أو تحققت بجهد الفلسفة الوجودية، وذلك لاهتمام أو تركيز هذه الفلسفة لجهدها على فردية الانسان وذاتية كيانه ـ باعتباره أو تمثيله لصولة عاطفية مغدورة الحقوق ـ كمركز أو محور رئيس لحركة وهدف الوجود ككل، والحياة في وجه ميكانيك معيشها أو دورتها الطبيعية.
وعليه، ومع تركيز جهد الفلسفات السابقة للوجودية على التنظير الموضوعي المجرد، وتمييزها لجهد العقل على حساب عواطف الإنسان وذاتيته، وإلغاء أو نفي بعض أنظمة تلك التنظيرات الجافة والمجردة (لميوعة عواطف الإنسان أو عدم مسؤوليتها “العلمية” أو الأخلاقية) كان هو المحرض لولادة جهد رد الاعتبار لتلك العاطفة وإعادتها إلى موقعها الطبيعي، الذي لم يستقم وضع العقل ونتاجه، بالذات، من دونها، لأن جهد العقل ونتاجه العلمي بالذات، هو الذي أثبت أن تجريداته قد ألغت ما يجب أن يكون موضع نظره الأول: الإنسان في كونه كيانا عاطفيا، متغير الحرارة، قد يبدأ شعوره بقيمته الذاتية وقيمة كينونته، من مجرد إلقاء حجر في قعر مكان ما أو بوجه جهة ما، وربما لا تنتهي بلحظة تشوّف لمجالسة إلهه ومناقشته في شؤون كونية وخلقية وخلائقية، لم تمر ببال هذا الإله من الأساس، رغم أنه كان قد “قرر”، منذ دهر ونيف، أنه ليس أكثر من “عاطفة غير مجدية” في بعض أحيانه وأو ضاعه، كما جاء على لسان جان بول سارتر.
ورغم أن كولن ولسن لم يكن أول من شخّص دور البصيرة النفاذة التي تحققها “التجارب الغريبة” بما تهبه من رؤى (فقد فاز بلحظاتها الإشراقية قبله الكثير من الفلاسفة والشعراء والمتصوفة)، إلا أن كان له فضل التنبيه لدورها والحث على البحث عن طرق تنميتها وسبل ديمومتها، كمخرج من حالة الجمود التي انتهت إليها الحياة والفلسفة من بعدها، وحالة التأرجح التي خلفتها حالة التيه التي أفرزتها الحالة المادية التي وضعتنا فيها مادية حضارتنا المادية الحديثة: أنا امتلكت قصرا كبيرا ورصيدا وافرا في البنك وسيارة فارهة وطيارة تضعني في قلب أي ناحية من العالم في سويعات… ولكن أين أذهب فعلا وأين الحجر الذي يجب أن أدق فيه رأسي في النهاية؟ فأنا مازلت أشعر باللاجدوى ومازلت أشعر أني عاطفة غير مجدية… ومازلت أستحق ذلك التعويض من نفس الجهة التي أجهل كل شيء عنها!
وجاءت لحظة الرؤية القصيرة التي رآها نيتشة على التلة، وهي نفسها اللحظة الكئيبة التي مر بها كولن ولسن نفسه (وكانت بمفعول معكوس أرته لا جدوى كل شيء وسماها محنة سانت نيوت) وهي اللحظة نفسها التي مر بها راقص الباليه “نجنسكي” ودفعته للصراخ “الله نار في الرأس”، وهي اللحظة عينها التي دفعت المتصوف المسلم، أبويزيد البسطامي ودفعته للصراخ “سبحاني ما أعظم شأني”، وربما هي التي صرخ فيها الحلاج “إني أنا الله”؛ إلا أن تلك اللحظات سرعان ما تبخرت وتلاشت وصار الإمساك بها حلما بعيد المنال.. فكيف نولد أو نستكثر أمثال تلك اللحظات؟ هذا ما بحث عنه كولن ولسن في وجوديته الجديدة ولم يسعفه الحظ أو عقله في الوصول إليه أو هدينا إليه حتى لحظة موته، في الخامس من ديسمبر من عام 2013.
يذكر لنا كولن ولسن في قصة حياته (وهي ترجمة ذاتية ذهنية رائعة وتكشف عن جهد عقلي غاية في التنظيم والتفاني) وبعض مقدمات كتبه ورواياته، بعض التجارب التي حققت الرؤى أو لحظات البصيرة، أو حالات من النشوة الروحية أحيانا، لأصحابها ويبذل جهدا جميلا في محاولة تحليلها والوقوف على أسرارها، إلا أنه لا يفلح، مثله كمثل كثير ممن سبقوه من الفلاسفة في الوصول إلى سرّ الأسرار الذي يقف خلف الظاهرة، ولكن هذا لا يعني أن ننبذه أو نتهمه بالدجل، كما فعل كتّاب الصحف البريطانية ونقاده من مواطنيه، وإنما أن ندرس جهده وأن ننظر إلى النقطة التي أضاءها لنا من الأمر وأن نطورها، إن كان من طريق لذلك، وإلا فحسبه أنه كفانا جهد البحث عن حل فيها فنشكره بكل احترام على جهده.
السؤال الذي يفرض نفسه علينا ونحن في معرض الحديث عن فكرة كولن ولسن حول التجارب الغريبة هو: أليست لحظات البصيرة أو النشوة أو التجلي، واستكثار أمثال هذه اللحظات، هي ما يبحث عنها الانسان وهو يصلي أو يدفع نفسه لحالة إشراق التصوف أو وهو يتعاطى الخمر أو المخدرات أو ينغمر في ممارسة الجنس أو يتسلق قمة جبل إفرست أو يذهب في رحلة تريض، بمنتهى الشقاء، إلى القطب المتجمد الشمالي أو يمارس هواية صيد الحيوانات المفترسة أو عملية ترويضها؟
المشكلة التي واجهت كولن ولسن، وواجهت الفلسفة والفلاسفة من قبله، وسعى هو لتشخيصها والبحث عن حل لها، تتمثل في التالي: ظلت الفلسفة طوال تاريخها الطويل دون إنجاز ملموس، على طريقة تمظهر منجز العلم الحديث..، فالفلسفة لم تقدم حلولا ساطعة، يمكن استخدامها كشواهد، كشاهد وجود السيارة أو الطائرة أو الكمبيوتر أو الهاتف النقال في حياتنا، وهذا يعني أن ثمة فراغا بقي وسيبقى، أو مازال ملموسا ليثير التساؤل حول مصير الفلسفة ومنجزها، وخاصة في جانبها الوجودي، الذي ماتزال أسئلته معلقة على حبل: أين الحياة التي ضيعناها في العيش؟ وهذا الوضع القلق والمقلق هو ما دفع كولن ولسن، ويدفع غيره من الوجوديين للبحث عن حلول في كل الزوايا، ومهما كانت صغيرة أو غير مغرية، من مثل التجارب الغريبة.
والنظرة الموضوعية الآن إلى جهد ورؤية أو تشخيص كولن ولسن، تثبت لنا أن الوعي الإنساني مازال يقف عند عتبة “عقبة القصور” ذاتها، منذ أول سؤال للفلسفة إلى يومنا هذا، رغم كل الجهد التنظيمي الذي بذلته فلسفات ما قبل الوجودية. فما زال الانسان يمنى بالهزائم المتوالية، في كل يوم، في حريته و”سعادته الحيوانية” وتضيق المساحات من حوله، وتعلو جدران الضيق والتضييق أمامه حتى لتضع مسافة بينه وبين اسمه، وبينه وبين أصابعه، التي وجدت لتمسك بالقلم لتكتب، على مساحته من السماء: أنا حر! وإذا لم أكن حرا فما الغرض من وجودي ولماذا أبقى موجودا؟ هل من ثمن يستحق أن أضحي من أجله بحريتي؟ على جهة ما أن توضح لي سبب أزمة حريتي… وأيضا أزمة بصيرتي المكممة بطريقة شنيعة.
وبما أن هدف عيش الحياة بصورة كاملة، لا يعني الانغماس في ملاذ الحياة المادية، لأن هذا الانغماس سيتبعه إشباع، على مسافة جولة أو جولتين، وعندها يبدأ البحث عن بدائل من “الصفاء الروحي” أو “نشوة الروح” أو لحظة من لحظات “البصيرة النفاذة، التي ترى كل شيء أو ترى جانبا بعمق أكبر من عمق رؤية السماء كلوح أزرق فقط ودون عمق”، مهما كانت لحظات هذه الرؤية أو الصفاء أو الملامسة قصيرة؛ وهذا ما يفعله المتصوفة، على الأقل كمثال ملموس أمامنا.. وعليه تكون رؤية كولن ولسن في التجارب الغريبة شيئا مقبولا، وإن لم يملك ما يكفي من وسائل الإقناع، على الأقل لحين توفر البديل… وليت مهاجموه وفروا لنا هذا البديل بدل التفرغ لمهاجمته؛ لأننا ببساطة مازلنا نعيش عند عتبة “عقبة القصور” ذاتها، ومازلنا نمضي أيام حياتنا على حافة الحياة الجرداء ذاتها، وفي كل لحظة يموت منا واحد واثنان وثلاثة وهم يتساءلون: أين الحياة التي ضيعنا في العيش.
طبعا هذا لا يعني تسليما منا برؤية كولن ولسن، لأننا لا نريد أن ننتهي نهاية الإسكندر الأكبر، عندما كان يهبّ صارخا، في ساعات فراغه (وهي كانت طويلة ومفزعة وموحشة وقاتمة بلا هدفيتها، وخاصة بعد أن يملأ كرشه بأطايب الطعام والشراب، ويسفح غائلة أوجاع شهوته الجنسية على بطن حسناء أو عشر من غانياته) مطالبا بالمزيد من العوالم أو البلدان ليفتحها؛ فلو توفرت تلك “العوالم” كحالة كشف لبصيرة نفاذة أو كحالة حرية مطلقة أو نفاذ إلى قلب الأشياء، لكانت البشرية قد تجنبت الكثير من حروب سفك الدم التي عبر بها عن عجز وصوله إلى الحقيقة أو كنه الوجود.
ولكن، وهذا هو السؤال المهم: ما الذي يمنع البشر من البحث وتكثير لحظات البصيرة هذه وما تمنحه من حرية وسعة اداراك، والكل يحتاجها ـ على الأقل ـ في ساعات ما بعد الشبع وانطلاق “ثورنا” الداخلي في الرقص والعبث ونثره لأكداس علفه بقرنيه؟ هل هو الكسل، كما قال نوفاليس، وأيده فيه ولسن؟ بل هو ضيق الأفق الذي يحصر النظر في بوابة الجنة دون داخلها! فالإنسان، ومنذ لحظة توديعه لعالم القرود ووقوفه على قائمتيه الخلفيتين، لم يكف عن العمل والبحث وتطوير قدراته وتوسيع مداركه وسلطات وعيه، إلا أن المشكلة تقوم في قوانين إمكانياته التي فطر عليها، في كونها محدودة ولها عمر محدد وتنتهي بموت حتمي مبدد لكيانه وذاته وإرادته.
وهذا الجانب هو الذي أهمله أو أسقطه كولن ولسن من حساباته ولم يوفه حقه من البحث، وبدلا منه راح يبحث أو ينادي للبحث عن “دين” جديد للبشرية، دون أن يقدم لنا مبررات موجبة ومقنعة لبحثه هذا، على صعيد توسيع مساحات الوعي، التي نادى بها طبعا.
وفي الوقت الذي لا نختلف فيه مع ولسن، في كون أن قضية ضيق الوعي الانساني تمثل أحد أهم المشاكل التي تواجهنا في طريق تحرّرنا مما يحكمنا ويتحكم بنا ويمنعنا من حريتنا المطلقة، فإننا نأخذ عليه مساحة الغموض التي عالج بها هذا الأمر، وتراجع وضوح رؤيته فيه، إلى حد التراجع والانكفاء والاجترار لأعشابه القديمة التي جف عودها.
كما أنه “تهرّب” أو عجز عن توضيح ملامح وأهداف “الدين” الجديد الذي نادى به، كحل، ودون أن يتوقف ليقول لنا هو حل لأيّ جانب بالضبط.. فالمشكلة، بإطارها العام، ومشكلة ضيق الوعي فيها، على وجه الخصوص، متشعبة بأميبية محيرة، إن لم نقل فاتكة. وعليه كان من حقنا السؤال عن النقطة التي سيتمحور حولها هذا الدين الجديد، وإذا ما كانت هذه النقطة ستؤهله فعلا لمنحنا قوى الوعي المنشودة فعلا (بلا مقابل استنزافي فعلا، كما يفعل سدنة أو إكليروس أغلب الأديان)، والأهم هو: من أين سيأتي الدين الجديد بالقوى الخارقة التي تحقق كل هذا؟ أهي من عقل الإنسان ووعيه، وهما يشكوان القصور، أم من قوة خارجية، فاقد للثقة فيها ولسن سلفا، أم من ضربة حظ عمياء، ينفي وجودها منطق العقل؟
إذن لم يتبق أمامنا غير الفلسفة الوجودية، كأداة، وبنسقها القديم، والذي اقترح بعض خصائصه ولسن دون صبر… وعلينا العبور من خلالهما… أو أن نتجاوز بعض أكبر مراراتنا على أقل تقدير، دون خسارة ولو قيراط واحد، مضاف، من حريتنا وسعادتنا “الحيوانية” الفطرية!
وتعويلنا على الفلسفة الوجودية ليس متأتيا من حالة الإيمان الأعمى ـ الإيمان الكلي ـ الذي يتبعه أتباع النظريات الايديولوجية ككل صحيح يغطي على عيوب الأجزاء الصغيرة (كفرضيتي صراع الطبقات ودكتاتورية البروليتاريا في الفلسفة الماركسية أو فرضية آدم سميث الرأسمالية: دعه يغتني فإنه بالضرورة سيغني غيره)، إنما هو متأتّ من فهم الوجودية لقضية بمنتهى الحساسية، رغم تأرجحها أمام صلابة منطق العقل والمنطق العلمي، ألا وهي قضية “الفطرة الحيوية أو حيوية الفطرة” التي هي أحد أركان الفلسفة والإيمان الوجودي، والتي عبر عنها الألماني أزولد شبنغلر صاحب كتاب “تدهور الغرب” بقوله “إن ما يصنع المؤرخ الحقيقي ـ لتمييزه عن منظف الأتربة الأكاديمي ـ يكمن في معرفته الفطرية للمعاني الكامنة وراء الحوادث. وهذه المعرفة الفطرية أو الفطرة الحيوية، بالصياغة الفلسفية، هي أحد أهم الركائز التي لم تغفلها أو تنبهت الوجودية لدورها في سد الفراغ، العصي على الامتلاء، في قضية الإنسان”؛ وهذا هو الشيء المهم الذي ميز الوجودية، وأدركه وشخّصه كولن ولسن وأراد الاشتغال من خلاله بقوله “إن ما يميز العظمة دائما هي الفطرة المدركة لا المنطق، ولسوء الحظ فإن حضارتنا أوجدت تمييزا خياليا بينهما يدعى الفلسفة، أما الوجودية فهي ثورة ضد هذا التمييز”. وهذا يعني أن الوجودية نجحت في تشخيص تجريدية العلم والفلسفة معا وإغفال تجريديتهما (المنطقية أو منطق تلك التجريدية) لذلك الجزء الهلامي الذي يمثل “روح، نفس، ميتافيزيقية أو الجزء اللامنطقي” في تكوين الإنسان، العصي على النظام أو المنطق، والذي يمثل جوهره أو جزأه غير القابل لقمع المنطق أو تجريدية حقائقه، وهو الجزء الذي اخترع الأديان وعوالم السحر والماورائيات وفلك حركة النجوم المؤثرة في حياته وهامش مصادفات الحظ الطيب والسيء، التي يؤمن بها أغلب العلماء الأوروبيين، على وجه الخصوص.
وإذا كان جهد جميع الفلسفات، ومنذ نشأتها الأولى، قد تركز على إيجاد مفاهيم وتفسيرات أكثر انسجاما مع منطق العقل، فإن الوجودية سعت إلى أن يكون الانسان أكثر امتلاكا لنفسه وإرادته عن طريق عودته إلى حريته التي بددتها وحرمته منها قوانين اللعبة الاجتماعية وضغوط المتحكمين بها من أصحاب السلطات السياسية والاقتصادية والنفوذ الاعتباري، في ظل قوانين وضغط ثقل الحضارة الحديثة.
ورغم أن طريق الحصول على هذه الحرية يقوم على نبذ اعتبارات ـ وليست قوانين ـ النظام الاجتماعي وتحكماته، إلا أن هذا لم يكن سوى نصف الحل… فما هو نصفه الثاني يا ترى، وهو النصف المهم؟ اعتزال النظام الاجتماعي القائم والتفرغ للبحث عن وتحقيق البصيرة عن طريق التجارب الغريبة التي تحدث عنها كولن ولسن في وجوديته الجديدة؟ مات كولن ولسن عن 82 عاما، في الخامس من ديسمبر 2013 وهو يرزح تحت أعباء شيخوخة ممضة، دون أن تقدم له “وجوديته الجيدة” أو “تجاربها الغريبة” ما كان يحتاج إليه فعلا من بصيرة أو وعي وإدراك نفّاذ.. فأين كانت المشكلة إذن وما الذي نحتاج للمزيد منه؟
تدمير المزيد من الخرافات الساذجة التي صنعها العقل الإنساني في تهويمات قلقه، وهذا يعني الحصول على المزيد من حرية الإرادة… أليس كذلك؟
أليس من دواعي الاستغراب أن يكون عقل الإنسان الذي صنع السيارة والطيارة والكمبيوتر والهاتف النقال والعلاجات المتطورة للأمراض هو المسؤول عن صناعة المزيد من الخرافات الساذجة التي يحيره ـ هو نفسه، في لحظات صفائه الذهني ـ لجوؤه إليها؟
هل نحن على استعداد لتحطيم خرافاتنا الساذجة في لحظتنا هذه، لحظة وصولنا إلى المريخ وإيجاد الكثير من العلاجات لأمراضنا القاتلة، وصناعتنا للطائرات المتطورة التي توصلنا إلى الجانب الثاني من الكرة الأرضية في سويعات واختراعنا للإنترنت الذي يحقق لنا الاتصال بأي جزء من العالم، بالصوت والصورة، بكبسة زر واحدة؟
كلا للأسف.
لماذا؟ هل بسبب حاجتنا لـ”دفء” هذه الخرافات أم بسبب افتقارنا للفلسفة أم بسبب عدم توفيرها لبديل لخرافاتنا؟
ولا لأيّ من هذه الأسباب، وإنما لسبب إشكالي يتعلق بمبدأ تطور الحياة وتجدد وتعقيد هذا التطور والتجدد لحاجات الإنسان، وبطريقة حولت تعقيد تلك الحاجات وأنظمة إشباعها والحصول عليها إلى دين ثان أو دين ظل، لا يقل قداسة عن دينه الروحي أو الأساسي.
هل من طريق للخروج من هذه الإشكالية بغير الفلسفة، بعد أن زاد العلم الحديث حياتنا تعقيدا وأحالها إلى كرة صوف متشابكة من الحاجات المتجددة والمطالبة بالمزيد من الإشباع غير المثمر، والغريب أن كل هذا التشابك الإشكالي يقوم وفق منطق وقوانين صار من المستحيل الاقتراب من سطوتها؟
وجاءت الفلسفة الوجودية كصرخة احتجاج ضد عسف وعنت هذا الزيف المختلق لكونها “ثورة ضد المنطق والعقل، ولكونها دعوة من أجل الفطرة المدركة والرؤيا. إنها دعوة من أجل اعتبار الانسان نفسه مشتركا في مشاكل الوجود، لا متطلعا وحسب” كما يقول كولن ولسن، في كتابه “الدين والمتمرد”، فهل استنفدت الوجودية طاقاتها أم مازالت تتوفر على قدرة طرح الأفكار الجديدة، على أقل تقدير؟