عقول سطحية لا تستطيع التركيز
تحتاج أن تكون مهما أو مثيرا للاهتمام لكي تتمكن من الإبقاء على تركيز من حولك. أيّ شيء أقل من هذا سيدفعهم إلى أن ينظروا إلى شاشات هواتفهم الذكية. هم معك جسديا ولكنهم بعيدون بعقولهم في العالم الافتراضي الذي صار حقيقة بفضل الإنترنت.
لا عيب في هذا. ليست مشكلتهم أنك أقل أهمية مما تعتقد أو أن شيئا ما يحدث في مكان بعيد يسترعي الانتباه أكثر مما تقوله. لكن ثمة مشكلة من نوع ثان تفرض نفسها علينا.
لا يستطيع الكثير منّا التركيز على الأفكار كما كنّا نفعل قبل عشرة أعوام أو عشرين عاما. ثمة تشويش كبير يحيط بالمجال الذهني للفرد اليوم يمنعه من التأمل في الأشياء. وفرة المعلومات وسرعة تواترها تمنعان التركيز في معانيها. ثمة تشبّع حقيقي يجعل من الطبيعي أن يزيح أحدنا ما في ذهنه أو جزءا منه، ربما كل ساعة أو ساعتين، ليفسح مجالا للقادم الوفير والمتجدد.
هذه الغزارة السطحية التي توفّرها الوسائط المتعددة من تلفزيون وموبايل وكمبيوتر، مريعة. ما عاد ضروريا الفهم بقدر ما صار مهما القدرة على استرجاع المعلومات وقت الحاجة إليها. بوجود غوغل، من يريد أن يزحم مخه بكل هذه التفاصيل؟
إلى جانب ذلك، هناك سطحية من نوع آخر. تقنية المعلومات لا تجعلنا نعتمد على ما تقدمه إلينا الإنترنت ومكائن البحث، بل تحثنا، من دون وعي، نحو عدم التوقف عندها أو التمعن فيها. ما إن تطلب معلومة حتى تقلّبها بسرعة كبيرة وتملّ منها وتذهب إلى غيرها. تقنية حركة الأصابع على شاشات الكمبيوترات اللوحية أو الهواتف الذكية، جعلت الأمر أسهل، بل وأكثر استخفافا. أنت تقلب الصفحات بكل احتقار ولا تتوقف عند الكثير منها. ربما تسترعي انتباهك صورة، ولكن حتى الصور لا تجد من يتأملها كثيرا. هناك الملايين غيرها تنتظر دورها.
انظر ما يحدث كذلك بعلاقتنا بالريموت كونترول والفضائيات الكثيرة. مشهد تقليب القنوات هو مشهد مألوف. نداء أن “توقف قليلا لنسمع أو نرى ما يحدث” مألوف أيضا ويوجهه كثير منا لبعضهم البعض. ذهب زمن الاستئذان لتبديل المشاهدة بين قناتين أرضيتين وحيدتين على تلفزيون الأمس القريب.
مشهد القارئ الذي يغوص في صفحات الكتاب صار نادرا أيضا. الغرب يعاني من هذه المشكلة، وبدأ الكتاب يختفي من أيدي المسافرين في القطارات والحافلات، بعد أن كان لازمة ضرورية. سبقته إلى الاختفاء الصحف. قبل سنوات كان من النادر أن ترى وجوه المسافرين في عربة قطار. الكل غارق في صفحة جريدة أو صفحات كتاب. الآن تراهم يتبسّمون إلى هواتفهم.
في العالم العربي كانت مشكلة الكتاب أخطر. لم يمرّ العرب بمرحلة القراءة الشعبية واسعة الانتشار بالأصل لأسباب مادية في الدرجة الأولى. الخبز أهم من الكتب. الآن عبروا إلى صفحات الهاتف الذكي مباشرة. الكتاب كان حالة وجود عارضة في دول عربية غارقة في همومها السياسية والحياتية أو ألهاها عنه الترف.
الشبكات الاجتماعية لم تساعد كثيرا. صفحات الفيسبوك مليئة بالكثير من الغث والقليل من السمين. حجم القال والقيل والنكات والترهات والأدعية والتحريض هو حجم استثنائي على صفحات الكثيرين. تأتي بعد هذا الأخبار والصور. أما المعارف والكتب والمقالات العميقة فتكاد تكون مختفية.
محدودية التوقف عند الأفكار والمعلومات التي يتم تداولها عبر الوسائط المتعددة هو ما يجعل الانتقائية العشوائية والمتطرّفة هي السائدة. مع قلة الفهم، يتمترس الانسان بترديد المألوف واتباع السائد. يعيد ترديد الأقاويل الساذجة أو يقوم بـ”ريتويت” لتغريدة موتورة على تويتر. ينتهي الأمر لديه عند حدود الفهم هذه وهو ما يجعل بيئة التطرف، السياسي والاجتماعي، الديني والعلماني على حد سواء، هي السائدة.
من دون فهم تنكسر معادلة مهمة. إنها معادلة بسيطة لتشكيل الفهم: بيانات ثم معلومات ثم معرفة ثم حكمة.
هناك كمّ كبير جدا من البيانات. عملية تصنيف هذه البيانات تحولها إلى معلومات. نستنتج من تراكم المعلومات إلى ما يسمّى بالمعرفة وهي ما يؤطر حياة البشر ويجعلهم قادرين على العيش واتخاذ القرارات الصحيحة. تجارب المعرفة الطويلة والعميقة تقود إلى الحكمة.
الفوضى الفكرية والنفسية التي تعيشها شعوب الأرض اليوم، وليست شعوبنا فقط، في الأساس هي نتيجة لتكسير هذه المعادلة. القفز بين أطراف المعادلة من دون تريّث هو ما يقود إلى هذه الفوضى. اختلاط أطرافها هو ما يعرقل الوصول إلى الاستنتاجات الصحيحة.
كل أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية والفضائيات في العالم لن تستطيع تغيير قدرة وصول العقل السطحي إلى فهم صحيح طالما بقيت المقاربة قاصرة.