علامة فارقة
مما لا شك فيه أن مكانة القصّة القصيرة قد تراجعت اليوم مقارنة بالرواية ولكن هذا لا يعني أبدا التقليل من شأنها كفنّ له خصوصيّات ومميّزات وتجارب على غاية من الأهمية، هناك حالات وظواهر لا يمكن سوى لفنّ القصّة القصيرة أن تحيط بها وقد يكون تشعّب الواقع الذي نعيشه اليوم ووجود جيل من المثقفين الملمّين بفنّ الرواية كجنس أدبي قادر على احتواء هذه التشعبات والمفارقات وراء حضور الرواية بكثافة وسرقتها الأضواء من القصّة، لكلّ كاتب الحريّة في اختيار الشكل الذي يراه مناسبا للولوج إلى الحقيقة وكم من عمل سرديّ كتب لا يملك من صفة الرواية سوى الكمّ الكبير من عدد الصفحات وكم قصّة قصيرة على كثافتها ومتانتها سجّلت علامة فارقة في تاريخ الأدب، للأسف هناك اهتمام بالغ على المستوى الأكاديمي والإعلامي بالرواية على حساب القصّة كما أن تخصيص جوائز مالية عالية في مسابقات للرواية جعل حضور القصّة يخفت ويتراجع.
***
يعتبر القصّ أو الحكي من أقدم الفنون التي عرفتها الإنسانية وقد نشأ مشافهة قبل أن يدوّن، ما يعرف بالميثولوجيا الإغريقية وقصص ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة والقصص القرآني والبخلاء للجاحظ ومقامات بديع الزمان الهمذاني وكتاب الفرج بعد الشدّة للقاضي التنوخي وحتّى الأناشيد الجنائزية كلّها مراجع مهّدت لبروز القصّة القصيرة بالمفهوم الحديث باعتبارها تقوم على الإخبار وفنّ الحكاية، ولكن هناك مؤشرات كثيرة توحي بأن القصّة انبثقت أيضا من الشعر، فكثيرا ما نقرأ قصصا مترعة بروح الشعر وأخرى بها مواقف شعرية على غاية من العمق، وهذا لا يعني الحطّ من قيمة النثر ولكن ارتقاء المبدع بلغة القصّ وتكثيف الحدث واختزال الموقف إلى الجوهر وإصرار المبدع على التجريب، وكلّها مسائل جعلت من القصّة فنّا متجدّدا وديناميكيّا ومواكبا للراهن والمتغيّر والمستجدّ في حياتنا اليومية.
***
للتجريب في السرد وجهان مختلفان، الأوّل يفتح لفنّ القصّ عوالم وآفاقا رحبة والثاني ولفرط التركيز على مهمّة التجريب يفقدها جوهرها، ففي تونس على سبيل المثال القصّة القصيرة متطوّرة جدّا ولا ينفكّ كتابها يجرّبون ويجدّدون، ولكن في اعتقادي هناك مسائل جوهرية ينبغي المحافظة عليها ولا يمكن للقصّة أن تستقيم دونها وهي وحدة الموضوع وكثافة السرد والمفارقة أو النهاية غير المتوقّعة، وبالنسبة إليّ تظلّ الحكاية هي جوهر القصّة القصيرة وروحها فيها يتجسّد المعنى وتظهر الصنعة، تكاد الآن كثير من المحاولات تعصف بالقصّة القصيرة لعدم أخذها بعين الاعتبار أيّ مقوّم من مقوّمات التقنية القصصية.
***
أكثر كتّاب القصّة يدركون ببساطة أنّها تقوم على السّرد ولكن سعي المبدع نحو تشذيب اللّغة وتكثيفها جعلها تبدو أقرب إلى الشعر باعتباره أرقى درجات الخطاب ولكن الإشكال يتمثّل في سقوط النّص في التلغيز المفرط وهو ما من شأنه أن يبتعد به عن الحبكة القصصية ومتعة القصّ، ويمكن أن نذهب أيضا إلى العكس وهو أنّ هناك من يكتب الشعر بروح القصّ وعلى أيّ حال فإنّ السرد العربي كان دوما خلاّقا متلاحما مع الشعر ومع الفلسفة وغنيا ومتجدّدا على الدوام.
***
لا أعتقد أن القصة القصيرة فقدت أو هي مقبلة على أن تفقد مكانتها. إنّ تلاحق الأحداث في العالم العربي وزخم الواقع وخطورة المرحلة التي نمرّ بها تستدعي حضور جميع الفنون للوقوف ضدّ انهيارنا كحضارة عريقة، الفنون بجميع أنواعها هي الثورة الحقيقة التي علينا أن نخوضها، ينبغي أن يعود الاهتمام بفنّ القصّة القصيرة على مستوى النّقد وتنظيم الندوات وتخصيص جوائز تشجيعية لكتّابها، الواقع العربي صار على درجة من الزخم والخطورة وعلينا كمثقفين ومبدعين أن نخوض بدورنا هذه المعركة الشرسة ضدّ محق كياننا كحضارة ووجود بشتى الأساليب الفنية.
***
الاهتمام بالرواية على حساب القصّة القصيرة بات جليّا في السنين الأخيرة ومن الطبيعي أن تتخفّى القصة القصيرة على أهميتها خلف الدعاية للرواية ولكن علينا أن نخلق آليات حضورها كتنظيم ندوات خاصّة بالقصّة وإنشاء ورشات سيناريو لتحويل القصص إلى أشرطة تلفزيونية وتخصيص جوائز ذات قيمة عالية للقصّة القصيرة.
***
وفي الحياة اليومية نواجه يوميا سيلا من الأحداث والذكريات والأحاسيس المعقّدة غالبا ما تنطلق الأفكار من الهامش والصادم لتعلو إلى المجرّد والرمز، فالقصّة القصيرة هي فنّ التقاط الظواهر الغريبة والمواقف الاستثنائية وتحويلها إلى سياق فنّي بديع، والرواية أيضا تقوم بأعباء الإحاطة بهذا الواقع وتسعى باستمرار إلى تمثّله وتخييله والارتقاء به إلى مستوى الشهادة التاريخية، كلّ نصّ إبداعي يطرح سؤالا وأسئلة القصة والرواية لا تختلف كثيرا عن بعضها البعض.
ربّما يهجر بعض القصّاصين كتابة القصّة القصيرة إلى الرواية لأن الرواية تحرّرهم من شروط القصّ وتقنياته وتخلق لهم عالما أرحب للسّرد، فبالرغم من أهمية القصة القصيرة تظلّ الرواية الجنس الأدبي الذي يتسع لجميع الفنون والجامع لها، إنّها أشبه بمعمار يشيّد المبدع تفاصيله الجمالية عبر تفجّر التفاصيل وتنوّعها، كلّ مبدع ينشئ عوالمه الخاصة عبر هذا المعمار ويبتكر لغته وممرّاته، في الحياة، فهناك كمّ هائل من التجارب يستحقّ أن يكتب ولكن أساليب الكتابة وعمقها ومدلولاتها هي التي تميّز كاتبا عن آخر.
***
تشكّل القصّة القصيرة علامة فارقة في الأدب وهناك من الكتّاب العالميين من أخلصوا لها ولم يكتبوا غيرها وكما ذكرت فإن القصّة القصيرة متميّزة جدّا في تونس وهناك مجاميع قصصية صدرت في السنوات الأخيرة فيها الكثير من الحرفية والتجديد، أنا متفائلة بمستقبل القصّة وأرى أنّ الاهتمام بها يتوقّف على مبادرة المسؤولين في الهياكل الثقافية على رعايتها وتشجيع كتّابها.