علوية صبح: صورة المرأة
علوية صبح صوت أنثوي جاد في الرواية العربية، حفرت طريقها في عالم الرواية بدأب جلله صمت الكاتبة صاحبة المشروع إن على صعيد لغة الرواية أو على صعيد موضوعاتها.
قد جاء فوزها بجائزة سلطان العويس في العام الماضي، ليؤكد حضور تجربتها الروائية داخل المشهد الروائي اللبناني خاصة والعربي عامة، وأن هناك من يتابعها ويعرف قيمة ما أبدعته وتأثيره وإن قلّ، فصبح لم تصدر حتى الآن سوى أربع روايات هي “نوم الأيام”، “مريم الحكايا”، “دنيا”، و”اسمه الغرام”، وهي روايات حققت احتفاء وجدلا كبيرين لدى جمهور القراء والنقاد والمثقفين على السواء بدءاً من صدور روايتها “مريم الحكايا”.
بعد روايتها “نوم الأيام” الصادرة عام 1986 انتظرت خمسة عشر عاما لتقدم روايتها الثانية “مريم الحكايا” الصادرة 2002 والتي لقيت احتفاء واسعا واستقبلها القراء والنقاد والدارسين بحفاوة بالغة، وعلى نفس المستوى حظيت روايتها الثالثة “دنيا” الصادرة عام 2006، وفي السياق ذاته تم استقبال روايتها “اسمه الغرام”. وبالفعل من يقرأ رواياتها “مريم الحكايا” و”دنيا” و”اسمه الغرام” سيكتشف أنه أمام تجربة روائية فريدة في خصوصيتها الموضوعية والجمالية، فهي تطرح قضايا إنسانية شديدة العمق وتتغلغل فيها برفق وجرأة لتضيء الزوايا الأكثر عتمة في ذوات شخصياتها.
وكما جاء في تقرير الجائزة، فقد “وظفت الروائية في رواياتها تفاصيل الحياة اليومية والأحلام والكوابيس لبناء عالم متخيل متعدد الرؤى والإيحاءات، ينهض على أساليب سردية متنوعة؛ فجاءت أعمالها محكمة البناء فنيا ومنفتحة في الآن نفسه على حكايات تتناسل في ترابط وتماسك”.
هذا الحوار معها يضيء جوانب أساسية من تجربتها وأفكارها بإزاء جملة من القضايا المتعلقة بالأدب.
الجديد: بداية، نتطلع إلى إلقاء الضوء على المرحلة التي سبقت الكتابة، كيف كانت النشأة، وأهم الركائز التي نهض عليها وعيك المعرفي والإبداعي؟
علوية صبح: أعتقد أن المؤشرات الأساسية التي تشكل البنية النفسية للحساسية الإبداعية الإنسانية عند الكاتب تتعلق بمراحل الطفولة، ومراحل تشكل الوعي الإنساني والثقافي، نشأت ببيئة تنتمي إلى الطبقة الوسطى، التي هي طبقة متذبذبة، فيها صعود نحو الترقّي الاجتماعي وفيها هبوط.. في صغري كنت شديدة الانتباه إلى نساء المجتمع وسلوكياتهن وتصرفاتهن ولغتهن وكلامهن، وكنت أميل إلى السخرية من طريقتهن في الكلام والتصرف واللغة والسلوك، منذ البداية كانت لديّ نظرة نقدية، وكنت على شيء من الانعزال في الوقت نفسه. كنت أشعر بأنني أراقب أكثر مما أعيش، وهكذا لم تكن طفولتي شقية بقدر ما كانت طفولة فيها الكثير من الوحدة، على الرغم من أنني أنتمي إلى عائلة أفرادها كثر. كنت أعمل مسرحيات ساخرة في البيت، أقلد فيها أفراد العائلة وأيضا نساء الحي، كانت كل الأشياء النافرة والغريبة والسلوكيات تلفتني.
على المستوى الثقافي المؤثرات كانت علمانية، وعيت على أحلام التغيير والعلمنة وإلغاء الطائفية، كانت عندي أحلام سياسية وأحلام ثقافية، كيف يمكن أن أعبّر عن البيئة أو الحياة التي أعيش فيها. لا أستطيع أن أحدد لك متى بدأت أحلام الكتابة، لأن الخيط الفاصل بين ما قبل الكتابة وما بعدها من الصعب تمييزه أو قطعه. متى بدأت أفكر بالكتابة؟ منذ الطفولة امتلكت حلم الكتابة، كنت وأنا صغيرة أقعد أكتب، الكتابة هي أبرز ما في علاقتي بالحياة والأشياء وبالتعبير عن حالي. عندما كان أحدهم يقول لي شيئا مؤثراً، لا أحكي، بل أذهب إلى الكتابة، الحاجة إلى الكتابة كانت موجودة عندي منذ الصغر. علاقتي بالتعبير نشأت من علاقتي بالحكي. وحين تنصت إلى ذاتك لا بد أن تعثر على مؤثرات حياتية أكثر، فكل ما يعيشه الكاتب وما يقرأه ويشاهده يشكل مؤثرا، لكن هناك فرق بين المؤثر والتأثير وبين التقليد، لقد قرأت الأدب الروسي وأعمال نجيب محفوظ وجيل الرواد والأدب الأجنبي والعربي والتراث وشهرزاد، وتعرفت على المشكلات الثقافية، كل ذلك تم هضمه وتخزينه، لكن أنا لا أفهم الكتابة تقليدا لأحد، الكتابة تتم عبر وجدانك ووعيك. هناك من يكتب تحت ضغط المؤثرات الثقافية، وهناك من يكتب تلبية لحاجة شخصية ومؤثرات إنسانية ذاتية لها علاقة بتجربته الإنسانية. التحدي بالنسبة إليّ هو في كيفية خلق شخصيات حية ومليئة بالحياة، وألا تكون ميتة أو ألا تولد ميتة حتى لو استلهمتها من الكتب، التحدي هو أن تكون قريبا من الحياة لتقرّبها وتقرّبك من الأدب.
من كتابة الذات إلى كتابة الحياة
الجديد: ما وزن ما انعكس من الوضع الاجتماعي الذي عشته إلى جانب الوضع الثقافي المحيط على كتابتك الروائية؟
علوية صبح: أعتقد أن هناك صلة قوية بين البيئة أو الحياة والكتابة عندي، لطالما شعرت أن الكتابة فيها إلى حدّ ما تلاق مع الحياة، غير مؤمنة بجيل الحداثة. لا أقصد هنا جيل نجيب محفوظ أو استثناءات في الرواية العربية. مع جيل الحداثة وجيل الأيديولوجيا كانت المؤثرات الثقافية أبلغ من مؤثرات الحياة، كنت أشعر أن معظم كتابات هذا الجيل أيديولوجية وتأتي من الكتب، الكتابة لديه تأتي من الكتب، والثقافة تأتي من الثقافة، يعني أن مرجعية النصوص هي الثقافة أكثر منها الحياة، ومرجعيتها الأفكار، وأفكار الكاتب تحديدا هيمنت على جيل بكامله في الستينات والسبعينات، كنت أشعر أن هذه الكتابة بعيدة عن قلقي الشخصي الإنساني، وكنت أشعر بشكل خاص أن الشخصيات الشعبية من نساء ورجال مهمشين ـ هم أيضا مهمشون في الكتابة ـ هم همّي الخاص، عندما بدأت أكتب. قبل الكتابة حاولت كثيرا أن أجرّب التعبير عن ذاتي بمعزل عن المؤثرات الثقافية، كتبت ورميت كثيرا. رميت أكثر بكثير مما احتفظت، حتى حينما بدأت بكتابة روايتي الثانية “مريم الحكايا” بعد انقطاع وصمت مديدين من كتاب “نوم الأيام”، روايتي الأولى كانت تجربة داخلية ذاتية، “مريم الحكايا” خرجت معها إلى الحياة، إلى الآخرين، إلى الشخصيات الشعبية، إلى الذاكرة، إلى النساء اللاتي شعرت أنهن مغيّبات من الأدب، بدأت أكتب وأكتشف، وقادتني الكتابة نحو عوالم مجهولة، أعني العالم السفلي، الشعبي، لشخصيات كانت تدهشني وأنا أكتشفها.
أقتل أبطالي
الجديد: يفصل ما بين روايتك الأولى “نوم الأيام” وروايتك الثانية “مريم الحكايا” ما يتجاوز 16 عاما.. أين كنت وماذا كنت تفعلين؟
علوية صبح: تقول مريم في روايتي وهي تفتش عني بأنني ربما كنت بين عذاب الأموات وربما مفقودة من المفقودين في الحرب اللبنانية، وطوال هذه الفترة كان لديّ هذا الإحساس بأنني مفقودة مع الذين فقدوا، وربما ميتة مع الذين ماتوا، لأن الكتابة كانت بالنسبة إليّ هي الحياة، وطوال هذه الفترة التي لم أنشر فيها، كنت أشعر، فعلاً، بأنني بين المفقودين، لأن الكتابة هي العيش، هي الرئة، هي الإحساس بالوجود، الكاتب لا يمكن أن يوجد من دون الكتابة. طوال هذه الفترة كانت نهايات الحرب اللبنانية، وكنت أحاول في عزلتي أن أجرب وأن أكتب وأن أرمي وأن أمزق، كنت أكتب لكني لم أكن أفكر بالنشر، كنت يائسة من الحرب ومن الثقافة، وكان لديّ إحساس بأنني يجب أن أكتب وأكتب وأكتب، ولكن لا داعي للنشر. ثم وصلت إلى مرحلة بتّ أشعر معها بأن الشخصيات التي كتبت عنها والعالم الذي كتبته وبات في أدراجي، في لحظة ما ـ صدقني ـ شعرت بأن رائحة عفونة تخرج من الأدراج، وأن الشخصيات ماتت من الاختناق، لأنها لم تر النور ولم تصدر في كتاب. شعرت أنني أقتل أبطالي. حين لا نكتب عن الأبطال نقتلهم وحين نكتب ولا ننشر نقتلهم مرة ثانية. كانت مراوحة بين اليأس والضياع والكتابة من دون هدف، تلك كانت ميزة السنوات التي سبقت “مريم الحكايا”.
الجديد: من أيّ صلب ولدت “مريم الحكايا”؟
علوية صبح: من صلب الحياة، من صلب التجربة الإنسانية في الحرب اللبنانية، من صمت النساء، من الرغبة بالكلام عن الذاكرة النسائية، والرغبة في وضع صوت الكاتب جانبا، صوت علوية أو زهير ومريم. كنت أشعر أنني كتبت وكتبت ما يقارب الألفي صفحة، ثم اختصرتها لألف صفحة، وبعد ذلك لأربعمئة وخمسين صفحة، تولّدت لديّ حاجة في أن تحكي شخصية شعبية (مريم) بدلا عنّي وعن زهير، أولا لأنني صمتّ وكنت أحتاج إلى بطلة تعيدني أيضا إلى الحياة حين تروي. حين يحكي الأبطال فإنهم يعيدونك إلى الحياة، شعرت برغبة في أن أسلّم الحكي ومفاتيح الحكي لمريم بدلا عنّي وعن زهير أي بدلا عن الكتابة، يعني مريم هي المحكي وعلوية وزهير هما الكتابة التي أشك أنا بالأساس فيها، ومن هنا استلمت مريم الحكاية بدلا عنّي وعن زهير.
نهاية زهير
الجديد: عادة ما تنشأ علاقة من نوع ما بين الكاتب أو الكاتبة وبطل الرواية. كيف تصفين علاقتك بمريم؟
علوية صبح: مريم أزاحتني، هي توأمي، ربما تكون فكرتي الشعبية، ربما تكون المرأة الشعبية التي كانت صامتة ولم تنطق في الأدب، شخصية مريم نقيضي، وهي تحكي عنّي في الرواية وأحاول أن أرى نفسي من خلال عينيها، حتى حين أصف شكلي، وتصرفاتي. تقمّصتُ مريم طوال فترة الكتابة، وأذكر أنني خلال فترة الكتابة أحيانا حين يسألني أحد شيء أو حين أتعاطي مع الناس أيّ عمل كان يخيل إليّ أنني مريم، وأحيانا أجيب أجوبة مريم، وحين انتهت الرواية شعرت بغيرة منها، شعرت بأنها أهم منّي، أنا لا شيء، فأنا الكاتبة التي عجزت عن الكتابة، وتخيلت مريم المرأة التي بعثت اللغة فيّ. شعرت أن حياتها غنية ومليئة، أفعمتني بالغيرة هذه الشخصية. زهير أيضا كان توأمي، ربما الثقافي، ومريم توأمي الشعبي. زهير هو البعد الثقافي فيّ، هو الأيديولوجيا التي فيّ، وفي لحظة من اللحظات حين وصلت كان عليّ أن أقتله، واحد منا يجب أن يموت، أنا أو زهير. حين قتلته بكيت وأنا أضع نهايته، لأنه جزء مني، كنت أشعر بأنه جزء مني كما هو الحال بالنسبة إلى مريم.
الجديد: ألا ترين أن روايتك “دنيا” لم تأخذ حقها من الاستقبال؟
علوية صبح: لا، بالعكس، “دنيا” من وجهة نظر بعض النقاد أهم من “مريم الحكايا”، وهي أيضا تم طبعها عدة طبعات، فهي على مستويي النقد والقراء لقيت ربما الاهتمام نفسه، ربما أهل الأنتلجنسيا أحبوها أكثر. ما حظيت به “دنيا” من كتابة نقدية كان مديحاً لافتا للنظر.
التقنية الشهرزادية
الجديد: هل ولدت “دنيا” من رحم “مريم الحكايا”؟
علوية صبح: مريم ودنيا ولدا من رحمي، أعتقد أنني في “دنيا” حاولت أن أكمل المشروع الروائي الذي هو تراكم التجربة الكتابية المفتوحة التي لا تقع في التجريب بقدر ما تحاول أن تتجاوز ما هو ثقافي وما هو منجز، يعني أنا انفتحت على ذاكرة أخرى في الكتابة، يتحدثون كثيرا عن الكتابة الجديدة، لكنني أعتقد، وبكل تواضع، أنني من علاماتها، يعني أحاول أن أعمق هذه التجربة وأن أستكملها بما هي تواصل مع التراث، وبما هي عدم انقطاع عن الرواية العالمية والتجربة الغربية، ولكن من دون أن أقع في التقليد لا تقليد التراث ولا تقليد الرواية الكلاسيكية، يعني أنا أحاول أن أشكل، أن أؤلف، أن أعبر عن قلقي الشخصي في الكتابة، أسئلتي في الكتابة، التي تشبه الشكل الحلزوني ـ إذا شئت ـ أو تشبه فن الأرابيسك الشرقي، الحياكة، التأليف على جدارية واسعة، الحكاية التي تتوالد من الحكاية، ولكن من دون أن أقلد ألف ليلة وليلة أو شهرزاد، هذه الشهرزادية التي حكى عنها النقاد أنا لم أحاول أن أطرق بابها، أنا ضد الأصوليات الثقافية سواء أكانت أصولية شرقية أم أصولية غربية، أنا مع حرية الإبداع وأريد أن أقول إن التقنية هي بالضرورة يجب أن تكون من لحم النص، النص نفسه، الرواية نفسها تفرض التقنية، أنا لا أجلب تقنية من خارج الموضوع وألبسه، إياها. في “مريم الحكايا” وكذلك في “دنيا” استدعيت التقنية الشهرزادية لأن طبيعة المرويات هي التي استدعتها، وليس بقرار ذهني أو ثقافي. ربما أكتب رواية خارج هذا النمط إذا كانت الحاجة التعبيرية تستدعي تقنية أخرى.
ائتلاف واختلاف
الجديد: زمنيا تنتمي “مريم الحكايا” و”دنيا” أيضاً، إلى مرحلة الحرب كخلفية أولى، ولكن تصلح لأزمنة أخرى؟
علوية صبح: هذا السؤال لا يجيب عنه الزمن وحسب، ولكن القراء أيضاً الذين قرأوا الروايات. أنا لم أكتب عن الحرب كموضوع أو كمعطي ميداني، كتبت عن مصائر شخصيات، وعن التبدلات التي أصابت الشخصية بسبب الحرب، استكشفت ما يبقى مع الزمن، كانت المسألة استكشاف واستحضار ذاكرة مجتمعية وذاكرة شخصيات، حفر في الشخصيات الإنسانية، وكشف لها في البنى النفسية وفي الأجساد والرغبات، في البناء النفسي وفي البيئة والزمان والمكان، يعني هناك شخصيات على مدى ثلاثة أجيال في كلتا الروايتين. قدمت أنماطا متعددة من الشخصيات الشعبية، وحفّرت، كنت أشعر أنني أبني وأهدم لأعمر الشخصيات وأشكلها، الحرب هي الخلفية لكن الكشف الإنساني والنفسي والاجتماعي هو ما يبقي.
الجديد: على الرغم من اختلاف الرؤى والوعي بين روايات “مريم الحكايا”، “دنيا” و”اسمه الغرام”، يمكن الحصول على خيوط مشتركة، وإن رقّت.. فهل يمكن إدراجها تحت مسمى ثلاثية؟
علوية صبح: الكاتب يبني عمارته، ولكل رواية عوالمها وهواجسها وطبقاتها وما تكشفه وتحمله من عوالم. المهم ألا يقلد الكاتب نفسه، ألا يكررها، أن يتجاوزها باستمرار. في رواياتي الثلاث، كنت منحازة إلى البوح الحر، وإلى الحكي، وإلى كل ما يستدرج المنطق البنائي لكل رواية.
هي ثلاثية، كما كتب النقاد والأكاديميون. لكن برأيي، الأولى مرتبطة بالثانية أكثر، وإن كانت كل واحدة مختلفة عن الأخرى. لكن عالم “اسمه الغرام” كانت له خصوصيته. لم يكن من السهل أن تبني، من خلال العلاقة بالجسد، شخصيات ومرويات وحيوات بلا أيّ خطاب.
اسمه الغرام
الجديد: في “اسمه الغرام” سرد جذّاب ولغة تتضافر لتتشكل حيوات واقعية عبر سياقات ومستويات ثقافية واجتماعية مختلفة. كيف كانت فكرتك الأولى عن هذه الرواية؟ وكيف تطورت في سياق الكتابة؟
علوية صبح: كان لديّ حلم أن أكتب عن حياة امرأة حرة غير نمطيه في الأدب السائد. راودتني أفكار وتخيلات كثيرة. ولم أكن أعرف كيف أبدأ، وماذا أسرد، وكيف أبني شخصية أو شخصيات من لحم ودم. ولم أكن أخطط بأن الجسد الأنثوي ستكون له الدلالات التي أبرزتها الرواية، والذي من خلاله استطعت أن أذهب إلى مرويات وسرديات كاشفة وحقيقية وحية.
حين بدأت بالكتابة، وجدت نفسي أقول للبطلة “نهلا”: كيف أكتب عنك وأنا لا أعرف شيئا عن حياتك؟ فأجابتني: اكتبي لتهتدي.
الكتابة عندي هي دائما أشبه برحله استكشاف. لم أشعر يوما أني أكتب لأنني أعرف، بل أكتب لاستكشف. تخيلت “نهلا” تقودني إلى الاكتشاف، وكنت طوع يد بطلتي وروايتي.
“نهلا” البطلة لا تشبه نساء الرواية الأخريات، لا في الحب ولا في ما يسميه البعض خيانة. منذ البداية تبدو شخصية مختلفة وخارج النمط. هي كاملة الأنوثة والأمومة. ولذا استطاعت أن تستنطق جسدها وجسد الرجولة في كل الأعمار، وخصوصا في منتصف العمر، وعيش الحب في كل مراحل العمر.
ربما تكون “اسمه الغرام” تحدثت عن تجربة الأنثى، من اكتشافها وعيشها إلى محوها أو انحرافها، لأن لـ”نهلا” رؤية نسجتها على نحو مختلف مما نسجت في رواياتي الأخرى. حدثت عن علاقة الأنثى بجسدها، بالحبيب، بالشريك، الذي يساعد في اكتشاف الجسد، أو ذاك الذي يمحوه ويقمعه. نعم، كان كلام “نهلا” حقيقيا وحيا في كل هذا، وكان ذلك خارج النمط.
الجنس في الرواية
الجديد: هل برأيك كان ضروريا أن يتجلى الجنس في حياة بطلاتك؟
علوية صبح: الجنس في رواياتي مثله مثل أيّ موضوع آخر، الكتابة فعل حرية وليست ردة فعل، بمعنى أنني لم أكتب الجنس لأقول إنني جريئة، أو لأقول إنني أريد أن أخدش حياء المجتمع وأخدش الأخلاق، لست في حاجة إلى ذلك، لأنني أؤمن بأن الكتابة هي فعل حرية، وأعتقد أن القارئ والقارئة شعرا بأن الجنس في روايتي عفوي وليس مفتعلا، الجنس غالبا ما يأتي لكشف الشخصية، لا بد وأن أمرّ على الجسد، الجنس فعل يشكل عامل إضاءة على الشخصية، وهو جزء منها وليس من خارجها، ليس مفتعلا، يعني حين تريد أن تحفّر الشخصية وأن تكشف بناها النفسية والذهنية والعاطفية والفكرية لا بد في لحظة ما أن تصطدم بالجسد، وأن تعبّر عنه، لأن الجنس عندي هنا كشف إنساني، لعلاقة المرأة بجسدها وبالرجل، وعلاقة الرجل بجسده وبالمرأة. الجسد يحمل كل المؤشرات الثقافية والاجتماعية والذهنية للمجتمع، لذا لا بد لعملية الحفر أن تضيء على الجسد كما تضيء على جوانب أخرى في الشخصية. إنني ضد كتابة الجنس المفتعلة التي تجئ فقط للقول بادعاء الجرأة من دون أن يكون لها مبرّر فني، كل ما له مبرّر وحاجة فنية يحق للكاتب أن يكتبه، والجنس في رواياتي حاجة فنية، لأنه في لحظة ما لا بد وأن تضيء وأن تكشف الشخصية عبر العلاقة الجنسية.
ما أريد أن أقوله إن هناك محجبات لم يرفضن رواياتي، بل تحدثن إليّ أنهن لم يخجلن من قراءة رواياتي لأنهن لم يعتبرنها بذيئة رغم الجرأة، قلن “علمتنا وجعلتنا نعرف ما الحياة وما المجتمع وما الرجل، كيف يرانا الرجل، وكيف نرى حالنا معه، وكيف نرى أجسامنا، وما هي علاقتنا بأجسامنا”.. القارئ لا بد من أن يشعر بصدق الكاتب، الصدق يصل إلى القارئ، والافتعال يصل.
الجديد: لكن الجنس ـ بشكل عام ـ بات تجليه قويا في الرواية العربية، هل ذلك أيضا يعد طبيعيا؟
علوية صبح: لا بد للصراخ الجنسي من أن يهدأ وأن تدخل الكتابة في العملية الفنية بحد ذاتها، أنا ضد كتابة الجنس أو غيره ما لم تكن هناك حاجة فنية، بعض الكاتبات يلجأن للجنس لأسباب كثيرة إما للقول بأنهن جريئات أو للتنفيس، محتاجات لأن يعبّرن عن جسدهن باللغة، أحيانا يشبه ذلك الصراخ، وأحيانا يشبه الاستهلاك الجنسي، ولكن ذلك يتم عند الكتّاب وعند الكاتبات، لماذا عندما نتحدث عن كتابة الجنس نشير إلى الكاتبات فقط، فالكتّاب أيضا يكتبون الجنس، لماذا الرجل مسموح له والمرأة لا؟ الأمر يطال الاثنين، في الكثير من هذه الكتابات ليست هناك حاجة فنية لكن أنا برأيي ربما تكون هناك حاجة شخصية أو اجتماعية أو نفسية، مع الوقت ربما التراكم يؤدي إلى الفنية، إنها مرحلة، ربما هناك حاجة للتنفيس، لكن بعد أن يهدأ هذا الأمر سيكون هناك وعي فني، إن معظم ما يميز هذه الكتابات أنه لا يوجد بها وعي فني، لكن كما قلنا مع الوقت يمكن أن تصل إلى هذا الوعي، وبشكل خاص في السعودية، فالكاتبات هناك محتاجات للتعبير عن أجسادهن لكن ليس هناك مبرر فني في كثير من هذه الأعمال، مع الوقت ربّما يصلن إلى الفنية.
صورة المرأة
الجديد: ما هي في نظرك أهم المشكلات التي تعاني منها المرأة على اختلاف تكوينها الثقافي والمعرفي في الوقت الراهن؟
علوية صبح: المرأة تعاني ما يعانيه الرجل من مشكلات، ولكن تزيد معاناتها عن الرّجل بسبب القمع والأميّة وغياب المجتمع الديمقراطي وضيق المجال أمام الطاقات النسائية. المرأة تعاني من العنف في مختلف أشكاله، العنف الديني، العنف الجنسي، العنف الاجتماعي، العنف اللغوي، المرأة عندها مشكلات أساسية. لكن هناك بالمقابل محاولات من المرأة لإثبات حضورها ومواجهة التحديات بحلول وخيارات شخصية، وأهمّ ما تعانيه المرأة ككاتبة هو قبولها، قبول الصورة التي يضعها فيها المجتمع، لذلك كل ما أفعله بكتابتي هو تعرية هذه الصورة. الرجل هو من رسم للمرأة كل شيء، حدّد لها علاقتها بجسمها وبأولادها ومجتمعها، وسلمها مفاتيح المجتمع الذكوري لحراسته، وبالتالي عندها مشكلة مع صورتها، ومن ثم ما أحاول أن أكتبه هو نزع هذه الصور وتعريتها، نحن نحتاج كنساء أن نفهم. مع الكتابة أكتشف ما هو واقع المرأة، من دون كتابة ربّما لا يمكنني معرفة ذلك أو اكتشافه، الكتابة تجعلني أعرّي الصور وأذهب إلى ما هو حقيقي في الأدب، وليس إلى مجرد صورة، فأنا لا أكتب كما علّمني الرجل أن أكتب، لكنني أكتب وأنا أبحث عن لغتي في الكتابة، يعني أمزق الصورة لأصل إلى ملامحي في الكتابة كأنثى، وبالتالي نحن صور، حتى الرجل رسم لنفسه صورة، ونحن نتعامل مع الرجل كصورة ويتعامل معنا كصورة، نحن نتعامل مع بعضنا كصور وليس بشكل حقيقي عار.
هي المرأة المموّه كل ما يخصّها من لغتها، من تعبيرها، من دورها، وقلقي الشخصي ككاتبة هو في بحثي عن السبل التي تتيح لي نزع هذه الصور وتعريتها.
لغة الشخصية
الجديد: هذا يجعلني أسألك عن الإشكاليات التي تواجهك ككاتبة؟
علوية صبح: سأقول لك شيئا، الرجال الذين غاروا من كتابتي كانوا أكثر من النساء. الرجل الذي يفكر أن المرأة تابع، وأن الأدب النسائي ملحق، يشعر بالتأكيد بفعل الذهنية الذكورية هذه وكأن أحدا (عما يقشطه الكلام)، هو يعتقد بأنه المعبر عن المرأة، هو فعلا بدأ بالتعبير عنا، أن تأخذ الكلام منه ـ الكلام سلطة ـ أنت تأخذ منه عنصراً أساسياً من عناصر سلطته، وأنا “ما بدي أقشطه الكلام وأحرمه منه”، أنا لم آت ولم أكتب لأحرمه الكلام، ولكن لكي أغني، لكي أعمل حوارا وأعمقه، إنني آتية لأغني وأعمل تعدد أصوات، وحتى أكون أنا وهو معبرين عن المجتمع وعن حالنا، لأن الرجل قال لنا: أنت تعبرين عن حالك وعن عالمك الضيق ـ ونحن صدقنا ـ وهو يعبر عن مجتمعنا، لأنه هو السلطة وهو الناطق باسم السلطة منذ أن كان الشاعر شاعر القبيلة، وأيضا وصل ليكون الراوي هو راوي القبيلة، وبالتالي هو يعبر عن المرأة ويعبر عن حاله، فجئت أنت لتعبر عن حالك. ما يخيف المجتمع الذكوري أن تكون الكتابة تعرية، يعني أنا أذكر أن أحد الأصدقاء قال لي: أنا صرت أخاف منك، عندما تنظرين نحوي أشعر أنك تعرّينني.
أن تكتب المرأة بشكل حقيقي هي لا تقول للرجل تنحى جانبا. أنا لا أريد أن أقول للرجل تنحي لأعبّر عنك، كما فعلت نوال السعداوي وأسماء كثيرة. أريد أن أعبّر عن ذاتي حتى تكون هناك مشاركة في بناء الذاكرة وصناعتها وغناها وتعدد أصواتها، لأنه لا توجد حقيقة واحدة، والكتابة بحث عن الحقيقة، هي كشف. والكاتب هو أسلوبه، والأسلوب هو روحه ونبضه. من قراءة اللغة نعرف لمن هو النص. لغتك مثل لون عينيك، مثل لون جلدك، مثل روحك، التقنيات والهواجس تختلف من عمل لعمل، لكن لغتك تظل خاصة بك.
أؤمن أن الرواية تعدّد أصوات، والمشكلة أن معظم الروايات في عالمنا العربي وفي لبنان، تشعر معها بغياب تعدّد الأصوات، هناك صوت الراوي العليم العارف، هو موجود في كل الشخصيات، أكانت مومسا أو مدرّساً أو نجاراً. لغة الكاتب يبثها في كل الشخصيات. بخلاف ذلك، أرى الفعل الروائي مساحة وفضاء لتعدد الأصوات، لذلك لا أحاول أن أسيطر على الشخصيات فألبسها لغتي. لا شك أن كل كاتب تتسرب لغته لبعض الشخصيات، لكن هناك فرق في أن تعطي من ذاتك لأبطالك، أو أن تلبسهم لغتك، وتجعلهم ينطقون باسمك. الروائي في نظري لا بد أن يتقمص لغة أبطاله ويعرف أحاسيسهم، يروح هو لعندهم ويستنطق لغتهم، ولا يلبسهم لغته.
الجديد: الكاتب صاحب الفكرة الأساسية للعمل، وأبطاله يخدمون فكرته، إذن الكاتب ولغته ليسا ببعيدين؟
علوية صبح: الكاتب ليس بريئا والكتابة الروائية ليست بريئة ولا تدّعي البراءة، لماذا أستدعي شخصيات نافرة مثلا؟ لا أعرف، أكيد لها علاقة بأنها تستلفتني، وأقدمها نافرة حتى أقول شيئا عبرها، تكشف مجتمعا، تقول شيئا، لكن هناك فرق بين ما يحمله النص من أطروحات، بين أن تقول، أن تتكئ، أن تخترع، وتخلق أبطال وتلبسهم لغتك وقناعاتك وأفكارك وأيديولوجيتك، هنا تلغى الحياة، هنا لا يخلقون أحياء بل أمواتاً. والعمل الروائي في النهاية هو تخييل مقنع، إن سقط الإقناع يفقد العمل أهميته.
*تم إجراء الحوار في دبي