على حافة مملكتنا القائمة
الآن وبكل ثقة، صار بمقدورنا أن نقول إن الخلل قائم في شكل وطريقة الحياة، وشكل النظام الذي فرضه أجدادنا عليها (متسلطين بورجوازيين وفلاسفة، على حد سواء)، وليس في طريقة تفكيرنا كبشر مع الحياة أو ما نريده منها، وعليه آن لنا أن نقرر، في هذه اللحظة بالذات (هذه اللحظة من عمر اهتراء الحياة وترديها من حولنا)، ما هو البديل لهذا التردي، حالة تردي كل شيء من حولنا ونكوصه؟ والبديل الذي نقصده هنا هو البديل الفلسفي، البديل الفلسفي الذي يعيد لنا العالم إلى لحظة ما قبل كل شيء، لحظة ما قبل الغواية… لحظة ما قبل بداية هذه المأساة (الحياة) وانهيارنا بها وفيها.. اللحظة التي كنا نملك فيها خطوة الشروع وبداية الانطلاق… لسقوط أول في الحياة، نرسم له ملامح مغايرة لهذه، ملامح تبدأ بعتبة مغايرة منطلقها: كل شيء ملكي، أنا الإنسان، الذات الفرد الذي يجب أن يبدأ بي ومن أجلي كل شيء.
القضية المركزية التي تتمحور حولها إشكاليتنا الفلسفية الرئيسة المعيقة، هي أن جميع الجهد الفلسفي الذي سبق لحظتنا هذه، لحظة خروجنا من أزمتنا المتراكمة هذه، إنما كان هو الجهد الذي أعاق عملية تحررنا واختيارنا لمسؤولية الفعل المستقل والمتحرر، القابل للتنويع والتطويع، على مستوى الاختبار والتنويع؛ والأهم جانب الرفض والتسفيه للمقولات المحنطة للعقل، تحت يافطة ما يسمى النظام، كما في نظام هيجل؛ وأيضاً تحت مقدسات ما سمّي حرمة وجلال القوانين، كما حصل في تسويقات الوضعية المنطقية والفلسفة الماركسية، على سبيل المثال.
لنبدأ، في هذا الجانب، بمقولة كيدو رودريجو التي قصد منها السخرية “تعالج الفلسفة الوجودية الحياة كما تعالجها قصة”، أليست الحياة، بعد أن نسقط عنها تفخيمات التسميات والتصنيفات الاصطلاحية، هي قصة (وساذجة في أغلب الأحيان) وتنتهي بالموت بالذات؟ وبغض النظر عن مسمى الفلسفة، سواء أكانت وجودية أم مثالية أم ماركسية، فإن الحياة تبقى في حدود القصة، في النهاية، ويبقى الموت أهم الأفكار في دائرتها، وأيضاً أهم وأكبر معضلاتها المتوالدة والمستمرة البقاء والإلحاح.
بوضع المناهج والمدارس الفلسفية الأولى، لأغلب التصنيفات والتسميات الاصطلاحية التي تصدت لها، (واعتبرتها محددات بحثية أصولية، على أقل تقدير)، آن لنا الآن التفرغ لنقرر البديل لتلك الفوضى التصنيفية (المعرفية)، التي لم توصلنا إلى شيء حقيقي وثابت، وأن نخطو الخطوة الثابتة باتجاه تقرير الصيغة أو الرؤية الفلسفية التي تجيب على أسئلتنا المعلقة، والتي لم تفعل المناهج الفلسفية القديمة حيالها، أكثر من تعليقها في حالة من التخدير السريري، الذي يصل إلى حالة السبات المطول، والذي لم يقدم شيئاً أكثر من مراكمتها ومفاقمتها بصورة مرضية مزمنة.. وعلى سرير غير قابل للحركة.
ولكي لا نكون مجحفين، سنقول إننا بلغنا حد التخمة من معرفية ما حول أدوات التفلسف… وآن لنا أن نستخدم تلك الأدوات ومعارفها، (من أجل الدقة)، لكي نتفلسف أو نجد بها حلولاً أو أجوبة لأسئلتنا المعلقة.. أو نضع أدوات جديدة، فاعلة وحثيثة وقابلة للتشخيص والعمل وإعادة الإنشاء والتفاعل، التكثيفي والإزاحي.
تتمثل مشكلة الفلسفات في أن منشئيها، قديماً وحديثاً، قد بلغوا حد عجز مبكر معها، واستعاضوا عن مواصلة عملهم الدؤوب بمطالبة البشر أن يتخذ كل واحد منهم مخلصاً أو مسيحاً منقذاً، متوفرا على جميع أدوات الخلاص الناضجة، رغم أنهم لم يعلنوا عن تلك الأدوات أو يعرضوها علينا.
وهنا علينا أن نسجل القضية الأكثر أهمية وإلحاحاً في هذا الجانب، (رغم أني لا أنكر أنه تأكيد مبكر جداً من قبلي) وهي اعتراضنا جميعاً على رمزية النهاية التي انتهى إليها المسيح، كمخلص سماوي أو مقترح من السماء، بوقوفه، بمنتهى العجز على الصليب، وتلقيه لمسامير صلبه دون اعتراض يليق بالأمل الذي كان معلقاً عليه، تاريخياً (من قبل أتباعه ومريديه).
فلماذا علينا قبول مخلصين جدد، عجزوا عن مواصلة جهدهم…، بل وحتى عجزوا عن الوقوف على الصليب، تجسيداً لرمزية الفداء والتضحية؟
هل يعني هذا أن كل جهد الفلسفة، ومنذ لجلجة أول يوناني بها، وإلى يومنا هذا، لم يقدم شيئاً أو جهداً فلسفياً حقيقياً؟ بالتأكيد ليس هذا المقصود، إنما المقصود هو أن ما تراكم بين أيدينا هو جهد تصنيفي وتوصيفي، يطالب باعتراف أكبر من استحقاقه، كمثال المسيح الذي انتهى مصلوباً، رغم أن ما كنا بحاجته ومازلنا هو: الأخذ بأيدينا والقفز بنا إلى ما وراء ضباب الموت المعتم (بمقصد العبارة المباشر والمجازي معاً)، لا ميلودرامية ومأساوية نهاية، صاحب وأتباع مشروع الخلاص الذي انتهى مجللاً بالدم والموت الأعمى، داخل الحلقة التي مازلنا ندور فيها… بأنفاس مقطعة، بلا طائل ولا أمل.
وهذا يعني، بطريقة غير مباشرة، ما تهرّب الجميع من قوله بصورة مباشرة: لم نجد معنى حقيقياً للحقيقة التي طالبنا بها لنا وللجميع… ولكن يكفي أننا لم نقل ولن نسمح للفكر بأن ينفي الحياة، كما انتهى الفيلسوف والعالم والروائي البريطاني، هربرت جورج ويلز، في آخر نفثة صبر له، قبل رحيله يائساً.
هذا يقودنا للتساؤل، بل والفزع أيضاً، من أن تكون الفلسفة لم تبذل ما كان معلقاً عليها من جهد.. لم تكن مسلحة بما يكفي من أدوات، ولهذا فإنها خذلتنا، وسلمتنا إلى حالة من التيه الأعمى والضياع الذي لا أمل في الخروج منه.
لقد ركزت الفلسفة، منذ خطواتها الأولى، على فرض النظام على وعي الإنسان ووسائل إدراكه وحواسه، وتشوفت عبر هذا الفرض، وما لحق به من مسميات تصنيفية، إلى تأطير كل جزء وتركيب من الحياة بهالة من قداسة التنظيم الذي لا يجب أن يُخرق، حتى أحالت الحياة إلى نسق وصيغة من الميكانيكية والتجريدية البليدة التي بلا حيوية أو روح. والسؤال الذي أوصلنا إليه هذا التراكم الافتراضي من التقديرات المعرفية المفترضة أيضاً هو: هل الأمر متوقف على عملية التنظيم هذه، بشكلها المجرد الذي طرحته الأنساق الفلسفية مجتمعة؟ وهل يعني الإصرار على فرض عمليات التنظيم هذه أن الفوضى ضاربة في مفاصل الحياة، وأولها جوهر تعامل الإنسان مع ما حوله، عبر وسائله التي تولد معه، العقل والوعي والإدراك والحواس؟ وطبعاً لا أحد ينكر أن الفلسفة قد بذلت جهداً، عبر أنساقها ورؤاها، في عملية التنظيم هذه، ولكن إلى ما آلت عملية التنظيم هذه في النهاية؟ إلى مجموعة أنساق (فلسفات أيديولوجية)، حاولت كل مجموعة بشرية (جميعها تشابهت طرق تفكيرها ونزعاتها المادية حولها) استغلالها من أجل فرض هيمنتها الفكرية وسيطرتها الإدارية – السياسية (السلطوية) على غيرها، من أجل استخدامهم لتحقيق مصالحهم الخاصة وإدامة وتوسيع سلطاتهم عبرهم.
طبعاً كل هذا تم تحت شعار تحويل الإنسان من عاطفة غير مجدية، (بحسب توصيف جان بول سارتر للإنسان)، إلى كائن عقلاني متزن يحكمه المنطق ومنطق النظام، من أجل تحويل الحياة إلى شيء مهم… بل إلى مجدية. وهنا، وبعد كل قرون الفلسفة التي نعرفها يواجهنا السؤال: مجدية وفق أيّ معايير ولمن بالضبط؟ وخاصة بعد أن أطلق البروفيسور الدنماركي سورين كيرغارد الذي نحت كلمة الوجودية، صرخته “إذا أردت أن تنفيني، ضعني ضمن نظام؛ إنني لست رمزاً حسابياً، إنني أنا؟”.
ورغم كل ما سينطوي عليه كلامي من إجحاف بحق جهد الفلسفة، إلا أني سأقول إن جهد الفلسفة السابق، أحاطه الكثير من التخبط، بل وعدم التبصر، في تجاهله لأمر أن تكون الفوضى سابقة للنظام في هذه الحياة، وهذا يعني أنها هي – الفوضى – القاعدة والقانون الأصيل للحياة وموجودات الأرض الطبيعية أو الفطرية، وليس النظام الذي فرضه عليها بورجوازيو الفلسفة المسترخين في دفء صالونات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ممن حازوا على فرادة العيش في مملكة الرب لوحدهم، كما يظنون.
وبصياغة أكثر ملامسة للواقع، فإن صيِّغ وتصورات الفلسفة لم تفتح لنا الطريق لأي باب، وليس الباب إلى مملكة الرب وحسب، ببساطة لأنها لم تشغل نفسها بخلاصنا، بل شغلت نفسها بصناعة فسيفساء وبريق رخام تمظهرها: مسميات، مفاهيم، مصطلحات، تقسيمات، خانات تصنيف… في حين تركتنا للعراء خارج حدود مملكة الرب، بتعبير أرنست همنغواي، وبمقصد العبارة المجازي طبعا.
وأخيراً ما الذي كنا ننتظره من الفلسفة ويتوجب عليها تقديمه إلينا، بدل عنايتها ببناء جسدها وترتيب هندامها الخارجي؟ كان عليها أن تساعدنا في (إيجاد شيء لا يمكن أن نفقده)، بتعبير أرنست همنغواي في إحدى قصصه القصيرة؛ وأظن أن عبارة “لا يمكن أن نفقده” تعني أو تنطوي وتحتوي على كل شيء نهائي وأبدي وثابت، يساعد الإنسان على أن يكون ثابتاً وغير متبدل، بذاته ولذاته، وغير متأثر، لا يحتاج للخروج إلى مكان، أو التواجد في زمن يومي محدد أو مدور ومكرور بلا طائل منظور أو آني على الأقل.
لقد أهدرنا أجيالاً بشرية كثيرة جداً في التكرار، كررت إنتاج نفسها وأنساق وصيغ حياتها اليومية بلا طائل منظور؛ والمشكلة الأكبر تتمثل أن هذا التكرار المعيشي يولد ويفرخ مشاكل معيشية تافهة، تمعن في تتفيه الإنسان في ذاته، كقيمة ذاتية وكيان فردي، بإغراقه، من قبل نفسه، ومن قبل النظام أو الاتفاق البورجوازي، في حاجات استهلاكية معيشية متوالدة، وأزمات اقتصادية وسياسية وحروب، تجبره على العودة إلى حياة جحور الفئران التي ترضى بالسلامة وأقل القليل من الغذاء الذي يقيم أوده ويبقيه حياً… في انتظار يوم النهوض أو التحرر من جحر الخوف الذي لا يأتي.
لم لا يأتي هذا اليوم، يوم التحرر أعني؟ أهو لا يأتي أم لا يراد له أن يأتي، أم ثمة ما يمنعه من القدوم؟ وما يمنعه من القدوم أو التحقق، أهو شخص أم قدر أم حادث؟ أعلينا فعل أو إيجاد شيء كبير أو استثنائي لإحداثه أو الإتيان به؟ أ هذه هي مهمة الفلسفة الكبرى في النهاية؟
أنحن نبحث عن باب غير مرئي، أو الباب غير المرئي الذي علينا المرور عبره؟ خروجاً أم دخولا؟ أإلى داخل الإنسان (كذات) أم خروجاً منه؟ خروجاً منه إلى أين وبأي اتجاه؟ في الخارج، خارج معضلة الذات، ليس ثمة غير الطبيعة، وهي مازالت تحافظ على صورتها الأولى، فيما لو كففنا عنها عبث يد الاتفاق البورجوازي: عراء بريء من الهواء والتراب والحجارة والشجر والأعشاب والحيوانات، التي يجب أن نتحرر من استاتيكيتها وسذاجة تكرار أيامها، لنكون نحن المختلفين، المتميزين، والذين نشبه أنفسنا، في الصورة التي نراها لأنفسنا.