على ناصية الشعر

مقتطفات من سيرة غير شخصية
الثلاثاء 2022/11/01
لوحة: بسام الحجلي

1

من مقهى المعقدين إلى البيان الشعري

ما كان ممكنا أن تكون مثقفا من غير أن تطأ قدماك مقهى المعقدين الذي يقع في الشارع الأول المتفرع من شارع السعدون ببغداد. بالضبط بعد ثانوية العقيدة للبنات (الراهبات سابقا) ومكتبتي النهضة والتحرير لصاحبها بناي جارالله مقابل مطعم نزار الذي كان صاحبه يخفض أسعاره لزبائن مقهى إبراهيم المعقدين.

لم أكن أعرف وأنا في سنوات نضارتي الثقافية الأولى أن رواد ذلك المقهى كانوا مزيجا من المثقفين الوجوديين ورجال الأمن. لم يكن المقهى ضاجا لذلك كانت الجمل المتمردة تقع على المناضد كلها كما لو أنها تسقط من السماء. أتذكر أن الشاعر وليد جمعة وهو من زبائن المقهى الدائمين كان قد ألقى قصيدته “تفو” في حدائق اتحاد الأدباء. بعدها عاد متوجا وكان رجال الأمن معجبين بتلك القصيدة. كما أتذكر أن الناقد الفني عادل كامل الذي سُجن بسبب خطف صديقته بالاتفاق معها من أجل طلب فدية من عائلتها كان قد عرفني على أشخاص قال لي في ما بعد إنهم رجال أمن. كان المقهى مستباحا بطريقة مريحة.

قال لي صلاح فائق إنه كان يلتقي سركون بولص وزهدي الداوودي وفاضل العزاوي ومؤيد الراوي وجان دمو وجليل القيسي وأنور الغساني في مقهى رقم خمسة. وهو نفسه مقهى المعقدين. أما لماذا الرقم خمسة فلا أحد يعرف السر. قد تكون تلك تسمية أمنية. ولأن أحدا من المعقدين (وهي التسمية التي أطلقها رجال الأمن على قراء الكتب في المقهى) لم يكن يثق بالهدنة المعقودة ضمنا مع رجال الأمن فإن ذلك جعلهم لا يثقون بصداقة رجال الأمن. لذلك كانوا يغيّرون الحديث كلما اقترب رجل أمن حتى لو كان صديقا لهم. ولأن لرجال الأمن حساسية فائقة إزاء ما لم يحدث فإنهم كانوا يبتسمون وهم ينصتون إلى الأحاديث المبالغ في سذاجتها وسطحيتها.

كان رجال الأمن مكلفين بالاكتفاء بمراقبة الحزبيين، شيوعيين وبعثيين وقوميين ولكن بسبب اللغة الغامضة التي يتكلمها مثقفو المقهى صار من الصعب عليهم التعرف على الحزبيين من بينهم وتمييزهم عن الآخرين. وهو ما دفعهم إلى التشكي إلى رؤسائهم الذين رفعوا الشكوى بدورهم إلى مدير الأمن الذي أمر باعتقال الجميع. وبما أن التعذيب لم يكن وسيلة مسموحا بها في أقبية الأمن في عهد الرئيس عبدالرحمن عارف فقد تم الاكتفاء بأخذ أقوال المعتقلين. وهي أقوال لم يُفهم منها إلا كونها أحاديث مجانين فأطلق سراحهم في اليوم نفسه.

تلك حكاية تم تداولها بمزيج من الضحك والشعور بالبطولة كونها صارت بعد أن تم الترويج لمواجهة لم تقع ما بين زبائن مقهى المعقدين الذين هم رموز التحول الستيني في الأدب العراقي وبين أجهزة الأمن التي خسرت المعركة أمام الحرية. بعدها عاد الجميع إلى مقاعدهم في المقهى من غير خصام أو عداء مبيت. المثقفون المنتصرون ورجال الأمن الذين صاروا على دراية بعناوين من نوع “العبثية والوجودية والعدمية” وكانوا على يقين من أنها لم تكن ضارة بالنظام السياسي.

كان مزعجا بالنسبة إلى مثقفي ذلك الزمن ألاّ تُظهر السلطة الأمنية من خلال رجالها اهتماما بهم. وكان لافتا أن ذلك الوضع استمر حتى بعد الانقلاب البعثي (تموز 1968). والدليل على ذلك أن الشعراء المتمردين نجحوا في إصدار مجلتهم “شعر 69” عن مؤسسة نشر رسمية. لم تُصدر تلك المجلة إلا أربعة أعداد منها. غير أن البيان الشعري الذي تصدّر العدد الأول والذي وقعه فاضل العزاوي وخالد علي مصطفى وفوزي كريم وسامي مهدي كان أشبه بالعصف الذي أحدث خلخلة عظيمة في الحياة الثقافية العراقية. فكتبت مئات المقالات المنددة بذلك البيان غير أن أحدا من كتابها لم يطالب بإغلاق المجلة.

احتوى البيان الشعري على كل الكلام الغامض الذي كان يُقال في مقهى المعقدين ولو كانت الفرصة قد أُتيحت لرجال الأمن الذين كانوا يجلسون في ذلك المقهى للاطلاع على شيء من ذلك البيان لأدركوا أنهم كانوا ينصتون إلى كلام ملغز فيه الكثير مما يمكن أن يتعرف المرء من خلاله على تناقضات المشهد الثقافي. فالفتية المتمردون والمشاغبون والعبثيون نجحوا في أن يزلزلوا الحياة الثقافية الساكنة من غير أن يتعرضوا للمساءلة الأمنية. ذلك لأنهم استلهموا قوتهم من المؤسسة الرسمية التي أصدرت مجلتهم.

لم يكن أحد يتوقع أن زمن الحريات قد انتهى بصدور العدد الرابع من مجلة “شعر 69”. من المؤكد أن شعراء بعثيين فاشلين كانوا قد وقفوا وراء قرار إيقاف تلك المجلة عن الصدور. وبالرغم من أن مجلة “الكلمة” الأدبية التي رأس تحريرها القاص موسى كريدي ووقف وراءها الشاعر حميد المطبعي كانت لا تزال تصدر غير أنها فقدت بريقها مقارنة بـ”شعر 69″.

شيء ما تغير في المزاج الثقافي بحيث صار من غير الممكن بالنسبة إلى العراقيين التراجع عن عودة الوعي للقصيدة العراقية الحديثة بصدور كتب شعرية مثل “الطائر الخشبي” لحسب الشيخ جعفر و”الأخضر بن يوسف ومشاغله” لسعدي يوسف و”الشجرة الشرقية” لفاضل العزاوي. يومها كان سركون بولص قد غادر العراق. غير أن ذلك العصر الذي كان ذهبيا بالنسبة إلى الشعراء انقضى سريعا ولم تعد العودة إلى مقهى المعقدين ممكنة.

2

الوليمة البغدادية وتمارين الشقاء

لوحة: سعد يكن
لوحة: سعد يكن

كنت قد استسلمت لحفلة الأبخرة في كنيسة “مسكنته” وأنا أفكر بفطومة التي ذهب الجميع إلى تعزيتها مرتبكا أمام الفضيحة. ترك “يوسف عمر” للتاريخ واحدة من أشد المرثيات غرابة. فالمرأة التي اعتبرها واحدة من كاهنات بابل لم تعد تطل من نافذتها لترى الحافلة الحمراء رقم 4 لأن داود قد مات. لم يكن هناك موطئ قدم لي بين المعزين فقررت أن ألجأ إلى الكنيسة التي لطالما حلم يوسف الصائغ بزيارتها قبل أن يموت غريبا في دمشق. يا لوحشة إخوتي الذئاب. لقد قررت أن أهرب وألج شارع الرشيد الذي أتذكر أنني فشلت عشرات المرات في عد أعمدته. حملت سيقان النساء الجميلات مسؤولية ذلك الإخفاق ولكن السبب الحقيقي يكمن في أنني في كل مرة أقف فيها لأتساءل عما يفعله الناس في تلك البقعة أنسى الرقم الذي وصلت إليه إلى أن أصل إلى سوق هرج، هناك تفقد السماء زرقتها ويكون لكل صوت لون سمائه. من غير ملائكة يتحرك البشر مدفوعين بقوة بصرية. مغامرة أن يرى المرء بعاطفته لا بعقله. وليست الأصوات سوى أغصان شجرة تتدلى من السماء لتحيط المكان بألوان لا تذكّر بفاكهة الجنة. هناك حيوية شيطانية تدفعني إلى الخارج ولأنني لا أرغب في تمثيل دور السائح فسألجأ إلى مقهى الزهاوي. هناك سأرى صورة الشاعر على كرسيّه في انتظار شاعر الهند الكبير طاغور في مندلي. لم تكن الحرب يومها قد بدأت. كان ممكنا أن ينام الشاعر من غير أن يقلقه الرصاص. لم أنم في مسكنته. سأنام في مقهى الزهاوي. تلك زاوية تسمح بالنزوح إلى الله. لم أكن أفكر في ما ينتظرني فأنا مجرد شبح. سأعود في أحلامي إلى فطومة باعتباري مذنبا. زهرة لنزاهتها وقد غادر خليلها الدنيا بحزن شفاف ولم يكن كئيبا. لقد أوصت ألاّ يرتدي أحد السواد بعد موتها. كان يوسف عمر يغني عن اللمبجي داود وحبيبته فاطمة غير أنه كان يرثي في الوقت نفسه بغداد التي رأت من شبابيك وزارة الدفاع القريبة من مسكنته المتمردين وهم يقتربون من هدفهم. لقد خطفوا الزعيم يومها ليعدموه في مبنى الإذاعة في الصالحية ولكي يتمكن الشعب العراقي بعد يومين من رؤية وجهه جانبيا على سطح القمر. شعب سادر في الخرافة منذ آدم. سأقول للزهاوي “يا حلو يا بوسدارة” والسدارة غطاء الرأس الذي ارتداه الملك فيصل الذي قدم من الجزيرة العربية ولم يكن عراقيا. كان الزهاوي يرتدي السدارة. ولأن الملائكة لا ترتدي السدارة فقد قررت أن أهرب مرة أخرى. لست زبون مقاه. البرلمان وحسن عجمي كانا مجرد فاصلتين للنظر إلى زخارف جامع الحيدر خانه. هنا وقف محمد مهدي البصير باعتباره داعية احتجاج على الاحتلال البريطاني. ولكن حزن فطومة يطاردني. كم داود نملك؟ لقد قررت مس بيل مصيرنا وكان ملكنا عربيا. ولكن فطومة حزينة. ستبقى فطومة حزينة. ذلك الملاك التائه بين أزقة الصابونجية لن يكون له أثر بعد اليوم. لقد اختفت الضحكة وطوى المعزون صحائف أرقهم. سيكون ليلهم مثل ليل الناس العاديين وسيندسون بين صفوف الواقفين عند باب جامع المربعة. لن يبتسم الشرطي في باب الميدان فلا أحد من بين الراحلين يرغب في أن يراه مبتسما. “يا بلبل غني لجيرانك” هل كتبها طاغور فعلا ليغنيها حسين السعدي أم هي مجرد مزحة عابرة؟ السيدات الخارجات من مسكنته بعد أن تركن نذورهن يحملن أطفالهن كما لو أنهم خرجوا طازجين من البئر التي لا تزال صرخة يوسف تتردد في قاعه. لقد أفرغن كل ما في سلالهن من أدعية وسالت أرواحهن زيتا على الدرب التي أخذت داود ومحبوباته إلى الشفق الأخير. هناك تقع بغداد التي تدير ظهرها للنهار.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.