علي رشيد وحديث في الفن

الجمعة 2021/01/01

فنان من العراق مقيم في هولندا، مهاجر ومنتم على الفضاء الإنساني، لكنّ العراق يسكن في كل خلية من خلاياه. “خبرة في التلوين وخفة في ضربات الفرشاة بخطوط سريعة تتلوى على أجساد مقبورة مهجورة في فضاءات سديمية، يغلب عليها لون سماوي.”، و”في كثير من الأحيان يظهر العمل في مساحات من أدخنة رمادية، تتخللها خطوط وتقسيمات رفيعة بيضاء، كأنها كشط وخدوش بآلة حادة على أسطح جدران جيرية قديمة تصبح خلفية لقصة ما قد حدثت”، و”مساحات رمادية تنتشر فيها بقعة لون صفراء في تجاور رائع ولغة تشكيلية تنتج أصواتا جديدة ونغمات متعددة تضفي البهجة رغم كل شيء”. بهذه الجمل المتلاحقة وصف النقاد عمل الفنان علي رشيد.

مرة أخرى، إذا كان الفنان هو مواطن العالم يسكن في كل بقعة من الكوكب ويعتبرها وطنه، فإن مسقط الرأس يسكن فيه، ولا يفارقه إلى الأبد. دفاعاً عن ذلك الوطن وإنسانه يبدع الفنان لوحته لتكون صرخة ضد الموت. في غير مرة هتف الفنان “الحرب للمتمترسين خلف بهيميتهم من مصاصي الدماء، الحرب نزهة للقتلة والمسعورين، الحرب صناعة القبائل المحكومة بجاهليتها”. وأيضا مقولته، بل صرخته المتكررة “في العراق ألف غرنيكا لم تظهر بعد”.

وعلي رشيد ليس فقط فنانا تشكيلياً فهو شاعر أيضا. من مواليد 1957 درس الفن في معهد الفنون الجميلة ببغداد وأكاديمية الفنون الملكية (لاهاي)، حاصل على شهادة الماجستير من جامعة ليستر (بريطانيا وإسبانيا)، ويعمل في النص والتشكيل على مشروعه الذي مارسه منذ بداية الثمانينات والذي أسماه “تدوين الذاكرة”. أقام وشارك في الكثير من المعارض العربية والأوروبية، خصوصاً في العراق، الجزائر، ليبيا، مصر، فنلندا، الدنمارك، النرويج، بلجيكا، ألمانيا، أوكرانيا، إسبانيا، اليابان، وهولندا حيث يقيم.

صدرت له الكتب التالية: “أضحية رمزية لمعارك الله” كتاب تخطيطات، “الغياب”، “وحدك الآن”، “منزل كفافي”، و”ذاكرة الصهيل” و”خرائط مدبوغة بالذعر” مجموعتان شعريتان، حصل على جائزة شعرية عام 1998 للأدب المهاجر من منظمة دنيا في روتردام. يحاضر حاليا في مادة الفن الإسلامي في جامعة أوروبا الإسلامية سخيدام في هولندا.

الجديد: تلقيت درسين أكاديميين في مجال الفنون الأول في العراق والثاني في هولندا، ما الذي وجدته مختلفا ومغايرا بين هذين العالمين؟

علي رشيد: الاختلاف كبير. كانت ومازالت مناهجنا في العراق، وفي العالم العربي عموما تعمل على بناء طلاب متعلمين في الفن وليس فنانين. ولذلك ترى أن سبعين في المئة من الطلاب المتخرجين يواصلون دراساتهم ويحصلون على الماجستير، والدكتوراه “هذا الأمر لا يشغل طلاب الفن هنا” وتجد البعض منهم مستعد للحديث ساعات عن الفن، ومدارسه وجذور مفرداته لكنهم لا يمكنهم من تقييم العمل الفني، أو الغوص في دلالاته. مازالت مناهجنا تؤكد على الحرفة ورسم البورتريت، والطبيعة الصامتة، وتدرس تكنولوجيا اللون بينما الغرب تحولت قناعاته في هذا التوجّه، فمفهوم أنك رسام جيد لأنك ترسم الشبه جيدا تجاوزوه منذ بداية القرن الماضي مع تجارب مارسيل دوشامب الأولى والتي أجدها محاكاة لما قاله المتصوف الكبير النفري “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”. هذه الجملة العميقة تلخص النظر إلى الفن اليوم، فهي تختزن قيمة عالية من الدلالات. فالفن كما تعلمته هنا هو منتج فكري مرتبط بالحياة، وتحولاتها وبالزمن المعاش، هو بورتريه شخصي للرغبات والأحداث، ولا يمكن اختزاله بالمحتوى الجمالي كما نصر عليه في مناهجنا. أكرّر الخلل في المناهج وليس في الطاقات في الستينات والسبعينات من القرن الماضي كان لدينا فنانون كبار درسوا في الغرب، وعادوا محملين بتجاربه ورؤاه وقدموا أعمالا مهمة، لكن لمَ بقينا مشدودين لهذه المرحلة ولم نتجاوزها خصوصا وأن المتغيرات حول العالم في الفن سريعة ومتلاحقة.

ملتقيات عربية

ببب

الجديد: نظمت ملتقيات فنية في غير دولة عربية، إلامَ كنت ترمي، ماذا أُعطيت وماذا أخذ من هذه الفعاليات؟

علي رشيد: أنا سعيد بهذه الثقة التي يمنحني إياها الآخرون سواء على مستوى التنظيم والإشراف على ملتقيات أو حتى استشارات من ملتقيات عالمية في ترشيح أسماء فنانين. أعطيت لهذه الملتقيات الكثيرة حيث دعوت لها أسماء مهمة، وكبيرة في الرسم عربيا وعالميا، ودعوت نحاتين كبارا ومعروفين على مستوى العالم من اليابان والمكسيك والصين والبرتغال، ومن قارات ودول مختلفة ولولا علاقتي الطيبة بهم لما كان يمكن التعرف عليهم وعلى تجاربهم الكبيرة. ومنحنا العديد من النحّاتين الشباب في دول الملتقى فرصة العمل جنبا إلى جنب مع النحاتين الضيوف مما زاد في خبراتهم.  بل تم توجيه للعديد من الفنانين والنحاتين دعوات من خلال مشاركتهم في الملتقيات التي أشرفنا عليها. حيث دُعي البعض إلى كوريا والصين وأذربيجان والمغرب وفرنسا وغيرها من الدّول.

في المقابل رشحت لملتقيات عالمية أسماء كثيرة من أصدقاء ومعارف حتى أن نحاتا عراقيا اختير عمله في أهم حديقة للنحت في الصين فيها أعمال لكبار النحاتين عبر العالم من خلال ترشيحي له. لأنني أشتغل بروح الإشارة إلى تجارب الآخرين، وليس بروح الكتمان والتعمية التي تسود “للأسف” عالم الفن. ولهذا فبمجرد وجود فرصة يمكن تقديمها لفنان لا أتردد في طرح اسمه. لم أحصل إلا على محبة واحترام الكثير ممن التقيتهم وعملت معهم، ومجافاة من القلة ممن لديهم مشكلة حتى في قول كلمة “شكرا”.

الفنان والسوق

ببب

الجديد: هل تظن أن مستوى طموح الفنان في العالم العربي ونتاجه الغزير ( قياسا بالعدد الكبير للفنانين والفنانات) له ما يستوعبه على مستوى العرض والتسويق؟

علي رشيد: الأمر لا يتعلق بالعدد الكبير للفنانين، ولكنه متعلق بالسّوق والأيادي الخفية التي تدير لعبة البيع والشراء للأعمال الفنية. عالميا لا يفلت سوق الأعمال الفنية وبيعها من الاحتيال، والصيغ غير القانونية منها تبييض الأموال نتيجة تراكم الثروات بشكل مشبوه مما جعل سوق الفن وشراء الأعمال ملاذا لهم. لذلك تدفع مبالغ خيالية تصل مئات الملايين للوحة واحدة. وقد تكون حيلة ومفتتحا لصنع فنان نجم وصناعته كسعر مستقبلا. بل هناك بيع يتم بشكل سري لا يعلن عنه. عربيا سوق الأعمال الفنية هش وغير واضح الملامح فعدى بعض الأعمال التي تباع لفنانين من خلال قاعات العرض وهذه نسبة لا يمكن الاعتداد بها، ولا تغنّي الفنان، أو تساعده على احتراف الفن وجعله مصدرا للعيش. جاءت الأسواق والمزادات التي لم تخل من الشبهات التي يدار من خلالها بيع الأعمال الفنية وتسويق الفنانين. كالعادة بقي الأمر منوطا بأشخاص وشركات لهم حسابات أخرى لا تتعلق بأهمية العمل الفني وقيمته البصرية، كذلك لعبت الإخوانيات والتجمعات في العالم العربي احتكار العرض والتسويق وبقي الفنان الأعزل يواجه محنته في ظل ذائقة متدنية وسوق منخور بالشبهات. وغياب المؤسسات الثقافية، والدعم الحكومي للفن والفنانين.

نصوص بصرية

ببب

الجديد: بين الفينة والأخرى تنشر في صفحتيك الفيسبوك والإنستغرام صور أعمال جرافيك، حفر على المعدن، قل لي ما خصوصية هذا الفن؟ وما أثره على لوحتك الحالية؟

علي رشيد: ما أنشره في مواقع التواصل الاجتماعي هي نصوص بصرية من مشروع بدأ منتصف ثمانينات القرن الماضي أسميته “تدوين الذاكرة“. هذا المشروع الذي بدأ مع الحرب العراقية الإيرانية التي التهمت سنوات ثمان من عمري بين سواترها، كلّ هذا قادني نحو التدوين. تدوين اللحظة والذاكرة التي لا يمكن العبور على خزينها الذي يشير إلى الألم وأعني هنا الألم الجمعي لا الشخصي. بقيت متمسكا بتوجهي هذا في الفن والكتابة لذلك، لم أشغل بالجماليات وحدها في ما أنتج بقدر انشغالي بالعالم وحروبه وأحداثه وكوارثه المتسارعة. انشغلت بالناس وتفاصيل حياتهم، بمعاناتهم التي تتفاقم وبأحلامهم التي تتلاشى.

هذا جعلني أشتغل على مشروعي الشخصي المرتبط بالبحث الجمالي والفلسفي وعلى التدوين كمنطلق أخلاقي وإنساني إزاء ما يجري حولي. فمع كلّ حدث عالمي أو حتى عراقي تجدني أسعى لتدوينه، ونشره لجعل المتلقّي أمام مواجهة مع ما يحدث واستفزازه اتخاذ موقفا منه. يمكن للمتابع أن يرى في صفحتي أعمال الحفر والتخطيطات والكولاجات التي تتشكّل كسلسلة مع الحدث المدوّن كما في التظاهرات السلمية للعراقيين ومطالبتهم بالوطن والكرامة والخبز وقبلها أحداث عربية وعن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وحتى مرحلة العزلة والخوف في زمن كورونا. بالطبع تتناغم هذه الأعمال التدوينية مع مشروعي وتجاربي الشخصية في الفن التي تنطلق من الزهد في اللون والشكل لصالح البحث عما هو غائب وغير مرئي.

حاوره: عباس يوسف

ببب

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.