عن علاقتي العابرة والمؤقّتة مع شخصياتي الروائيّة
الأفكار كالبذور، تموت إذا لم يتوفّر لها الحامل أو الحاضن الناقل لها. ولأن التدوين هو تراب الأفكار وحاضنها، فإن فكرة أيّ رواية تنجب معها شخصيّتها التي تكون البؤرة أو المركز التي تدور في فلكها الشخصيّات الروائيّة الأخرى؛ المتحرّكة في فضاءات وعوالم الرواية، هذا إن لم تكن فكرة الرواية هي نفسها شخصيّتها المركزيّة. وعليه، الشخصيّة الروائيّة غالباً ما تكون وليدة فكرة الروايّة، أو مصاحبة لها، ولصيقة بها حدّ التطابق.
الشخصيّات الروائيّة متفاوتة المقامات والأدوار. ومع ذلك، كل شخصيّة روائيّة، مهما كانت هامشيّة، في لحظة ولادتها وتحرّكها ضمن النصّ، هي شخصيّة مركزيّة واستراتيجيّة ورئيسة في تلك اللحظة. عدم وجودها، يبقي العمل ناقصاً، ويخلق فجوةً نصيّةً فيه. كذلك الشخصيّة الروائيّة في أيّ عمل، تخلق نقيضها أو مناهضيها. فمناهض الشخصيّة الروائيّة، ضمن النصّ، أيضاً شخصيّة روائيّة كاملة الأوصاف والأركان والمهام. الروائي، كربّ الأسرة، لديه مجموعة أبناء، لا يفرّق بينهم؛ الشخصيّة الهامشيّة، في مكانها ومقامها، شخصيّة أصيلة وجوهريّة، من دونها يمكن أن ينهار البنيان الروائي. وفق هذا المنظور أو التصوّر، أرى أن اشتغال الروائي على شخصيّاته الهامشيّة يستوجب منه بذل الجهد والتعب نفسه، أثناء اشتغاله على الشخصيّة المركزيّة البؤرة. ذلك أنه ما قيمة وجود المركز من دون وجود الهوامش والأطراف. كذلك في الرواية؛ الشخصيّة الروائيّة المركزيّة ستبقى ضعيفةً إن لم تكن معزّزةً ومدعومةً بشخصيّات هامشيّة قويّة البنيان.
في محاولاتي الروائيّة الثلاث الأولى: “وطأة اليقين”، “حفلة أوهام مفتوحة” و”الأفغاني: سماوات قلقة” جذبتني الشخصيّة الروائيّة الخفيّة، الغامضة، الملتبسة، المثيرة للجدل. لكن في سياقات مختلفة.
في العمل الأوّل، شخصيّتي الروائيّة، معارض سوري، تُستأصل أعضاؤه تحت التعذيب، وتُرسل عبر مافيات تهريب الأعضاء إلى بلجيكا، وتُزرع ثلاث من أعضائه في أجساد أجانب، فتاة ألمانيّة، رجل كونغولي، وشاب إيطالي يدرس في جامعة بروكسل الحرّة. القليل من روح السوري المتبقيّة في أعضائه، تنتقل إلى أجساد الأجانب الثلاث، وتغيّر في كيمياء ميولهم وأمزجتهم وذاكرتهم. وتبدأ رحلة البحث عن صاحب الأعضاء.
في الرواية الثانية “حفلة أوهام مفتوحة”؛ الشخصيّة الروائيّة الخفيّة كانت كاتبا بلجيكيا مشهورا، يختفي في ظروف غامضة. يصل التحقيق الجنائي إلى طريق مسدود في الكشف عن خلفيّات اختفائه وملابساته. يضطر قاضي التحقيق إلى قراءة نتاجه (ثلاث روايات، ثلاثة دواوين شعر، ومجموعة لوحات تشكيليّة) لربّما يلتقط منها خيطاً يقوده إلى كشف ملابسات الجريمة.
في الرواية الثالثة “الأفغاني: سماوات قلقة”، الشخصيّة الروائيّة كانت مهاجرا غير شرعي، يقدّم نفسه على أنه أفغاني إلى سلطات جزيرة “خيوس” اليونانيّة. تفتح السلطات تحقيقاً حول اختفائه المفاجئ. يتمّ العثور على جثّته، المنكّل والممثّل بها. يتحوّل التحقيق إلى ضرورة معرفة هويّة الشخص؛ أهو حقّاً أفغاني، أم لا؟ كمدخل لمعرفة أسباب وظروف مقتله. أثناء التحقيق، كل مهاجر موجود في السجن يسرد حكايةً مختلفةً عن حقيقة وهويّة القتيل (الأفغاني).
في الرواية الرابعة، التي ستصدر في بيروت قريباً، شخصيّتها المركزيّة فنان تشكيلي كردي، كان والده من مقاتلي الزعيم الكردي مصطفى البارزاني، سافر معه إلى “مهاباد” سنة 1946، ومن هناك اتجها إلى الاتحاد السوفياتي السابق. وعاد مع البارزاني سنة 1959 إلى كردستان، بعد عفو عبدالكريم قاسم. لكنه غادر بلاده مرّة أخرى سنة 1962 بعد ثورة أيلول الكرديّة، واستقر في دمشق. وقضى نحبه في تفجير الأزبكية الإرهابي الذي شهدته دمشق، في الـ29 من نوفمبر 1981. بينما يقضي الفنان التشكيلي نحبه جراء هجمات باريس الإرهابيّة في الـ13 من نوفمبر 2015. ويعني من 1946 ولغاية 2015؛ وسيرة تلاحق وتراكم التمزّقات والاحترابات الداخليّة في كردستان، وجوانب من الآلام الكرديّة المتناسلة والمتوارثة عبر الأجيال، من خلال الشخصيّة المركزيّة في رواية “كأنني لم أكن”.
في الأعمال الأربعة، التي هي وليدة وحصيلة تلاقح الخيال والواقع، غرستُ شخصيّات روائيّةً وهميّةً في أحداث تاريخيّة حقيقيّة، كي تحدث خلخلة في الرواية والسرديّة الرسميّة، وتلقي بظلال الشكّ على بعض تفاصيلها. على سبيل الذكر لا الحصر، رواية “الأفغاني: سماوات قلقة” أتيت على ذكر معركة النهروان، وغرست فيها شخصيّةً روائيّةً وهميّة متخيّلة، تروي الحدث، بلسان مختلف على اللسانين الشيعي والسنّي اللذين اختلافا في أشياء كثيرة، واتفقا على ذمّ ضحايا معركة النهروان. ولأنني أجد نفسي في كل أعمالي الروائيّة إلى جانب الضحايا، كائنا من كانوا، كنت إلى جانب ضحايا النهروان أيضاً؛ أولئك الذين شوّههم التاريخ. لست مؤرّخاً، وليست مهمّتي تنقيح التاريخ وتصحيحه. لكن في الرواية، أجد أنه في سلّم أولوياتي التشكيك والطعن في التاريخ الرسمي، المنحاز دائماً للسلطة الحاكمة. لا أكتب روايةً تاريخيّةً، بل أحاول كتابة أعمال تغمز من ساقية التاريخ، وتشذّ عنه قليلاً، وتثير الشبهات والأسئلة حوله.
الزلازل والاهتزازات الاجتماعيّة، الاقتصاديّة، السياسيّة وانفجار الحروب والثورات والصراعات والأوبئة التي شهدها العالم العربي، أطاحت بالكثير من اليقينيّات والثوابت. وانعكس ذلك على حركة الفنون والآداب، والرواية على وجه الخصوص، بحيث شهدنا وفرةً في الأعمال، وقلّةً على مستوى النوع الذي لا يكون تكراراً واجتراراً، أو افتعالاً. زد على هذا وذاك، صرنا نرى أعمالاً، وكأنّها تساير الأحداث، لزوم التضامن والتعاطف أو الاستعراض الإنساني، عبر استثمار الأحداث المأساويّة، وبناء أعمال روائيّة؛ على أساس أنها ستخلّد الكارثة التي مرّت بها مدينة ما! في حين أن الأمر محض استثمار لمحنة قرية أو مدينة أو بلد، في سياق نصّ يبكي على ركام المدن المدمّرة والمستباحة وطلولها وخرائبها. شيء يشبه التهافت السردي أو الاستسهال والاستهبال النصّي، إن جاز التعبير. ولعمري أن هكذا طرائق في الكتابة الروائيّة هي أيضاً باتت من طبائع الأمور، وتشي بالاستنزاف والتهافت.
شخصيّاً، ليس لديّ ذلك الهوس والهاجس في تحويل قريتي أو مديني إلى “ماكوندو” أو “غورنيكا” الرواية، سواء ضُربت تلك القرية بقنبلة ذريّة أو لم تُضرب. هذا لا يعني أنني لا أحبّ قريتي أو مدينتي، أو منسلخ عنهما، بل لا أريد لحضورهما أن يكون لزوم الترف أو الاستنزاف او الاستثمار والاستعراض الفجائعي. من جهة أخرى، لا أمتلك تلك النزعة الاستعراضيّة والغلوّ في التصنّع والافتعال، أثناء الحديث عن شخصيّات أعمالي، على أنها تتلبّسني، وتتقمّصني وأتقمّصها، وألاحقها وتلاحقني، في الصحو والمنام. علاقتي بشخصيّاتي رسميّة، تشبه إبرام عقد عمل مؤقّت، سواء أكانت شخصيّات حقيقيّة أم نصف حقيقيّة (شخصيّة واقعيّة مضاف إليها الخيال) أو شخصيّة متخيّلة. ينتهي العقد بانتهاء الرواية. يعني، شخصيّات رواياتي لا تبقى ملازمةً لي، لا تستقبلني في البار، ولا تشرب معي البيرة أو النبيذ، ولا تصاحبني في الباص والقطار… إلى آخر هذه المبالغات المتهافتة.
حين أسعى إلى بناء شخصيّة وتوظيفها أتحرّى عنها، وأتقصّى، إلى حدّ لا بأس به، عن بيئتها، والحدث التاريخي (مكانه وزمانه وتفاصيله) الذي يمكنني أن أجد فيه ثغرةً، كي أغرس تلك الشخصيّة، وأبني على ذلك أحداثا جديدةً. يعني، لا توجد ملاحقة، أو ملاصقة، تلبّس وتقمّص، أو أيّ شيء من هذا القبيل. لا ألقي القبض على شخصيّاتي، ولا تلقي القبض عليّ. قصص الملاحقات والمطاردات بين الروائي وشخصيّاته، وكل هذه الخزعبلات، لا تعنيني في شيء. فترة عيشي مع شخصيّاتي الروائيّة تنتهي بانتهاء الوقت الممنوح لها داخل الرواية. علاقتي معها أقرب إلى لعب الطفل بالرمال على الساحل؛ إذ يشكّل قلاعاً وبيوتاً وأشكالاً. إمّا أن يطيح بها، عقب انتهاء اللعب، أو يتركها حيث هي، لرحمة الأمواج، ويغادر. علاقة متعة مؤقّتة، وليدة لحظتها، ودائمة التجدد مع شخصيّات جديدة، وهكذا.
ألجأ إلى الشخصيّات التاريخيّة، البعيدة منها والقريبة، بهدف إلقاء الشكّ والشبهة عليها، وليس بهدف التكرار. كما ذكرت: حتّى لو كررت بعض الأحداث والتفاصيل التاريخيّة في رواياتي، فلخلق ثغرة، أسرِّبُ منها سرديّةً جديدةً، تعكّر صفو السرديّة الرسميّة المتداولة. لا أكتب روايةً تاريخيّةً، بل رواية تغمز من التاريخ، في مسعى صياغة سرديّات جديدة، متخيّلة مشتقّة من السرديات المتداولة. لا أميل إلى فكرة نضوب الخيال الروائي، على أنه السبب وراء اللجوء إلى الشخصيّات التاريخيّة. لكلّ روائي وروائيّة أسبابهما التي تقف خلف توظيفهما الشخصيّات التاريخيّة. مثلاً، في رواية “وطأة اليقين” حاولت إظهار شخصيّة المتنبّي على أنه مختلس نصوص، وذلك ضمن مشهد متخيّل.
لا يمكنني الإجابة عن سؤال “ما هي حدود الحرية في الكتابة؟” لأن مجرّد التفكير في هكذا سؤال يجعلني أضع حدّاً للكتابة. إذا كان هناك حدّ للكتابة فهي صدمة الجمال التي لا حدود لها.
حاولت أن تكون شخصيّاتي جديدةً أو مختلفةً. في “وطأة اليقين”؛ شخص توزّعت أعضاؤه على أجساد الغرباء، وغيّرت فيهم. وفي “الأفغاني: “سماوات قلقة”؛ شخص منحه الله ما لم يمنحه للأنبياء والرسل. لكنه ليس نبيّا. في رواية “كأنني لم أكن” فنان تشكيلي، أثناء تحضيره معرضه في أكتوبر 2011 يصاب فجأةً بالعمى، ويفتتح المعرض بـ11 جداريّة ونصف (لوحة غير مكتملة)… وهكذا. مصادر شخصيّاتي الروائيّة، هي الواقع الذي تجاوز في غرابته الخيال. أكتبُ الشعر كأنني سأعيش أبداً، وأكتبُ الرواية كأنني سأموت غداً. ربّما لأنني دخلت هذا الحقل الساحر متأخّراً، في سنّ الأربعين تقريباً.