عودة الايديولوجيا وظهور الحركات
كثر الكلام عن «نهاية الأيديولوجية» منذ بداية الستينات في القرن الماضي (المقصود أساساً النظريات التوليتارية الكلية النازية والفاشية والشيوعية)، ومع سقوط الاتحاد السوفييتي أوائل تسعينات القرن العشرين تصور البعض الوصول إلى نهاية التاريخ مع « انتصار الاقتصاد الرأسمالي». بيد أن انتكاسة العولمة الشمولية إثر زلزال وول ستريت في 2008 أعادت إلى الصراع الأيديولوجي أوراق اعتماده مع صعود حركات مناهضة للعولمة وأشكال تنظيم سياسي جديد وأن الاستقطاب التقليدي بين اليمين واليسار يخلي الساحة لقوى متنوعة الاتجاهات يتصاعد نفوذها مع تصدع العولمة والانكفاء نحو الهويات. أما الثورة الرقمية فقد أخذت تتفاعل مع المشهد السياسي وتؤثر فيه وتنتج حركات جديدة أخذت تطبع المشهد الأوروبي.
لقد سقطت النظريات الشمولية والكلية التي مهرت بطابعها القرن العشرين، لأنها كانت نافية لبقية الأيديولوجيات و»الآخر». بينما صمدت الليبرالية ليس لسيطرة اقتصاد السوق التي تصاحبها بل تكمن قوة الليبرالية في قبولها التسامح و»التعايش» بين مختلف الأيديولوجيات والاتجاهات والنظرات. لكن العولمة غير الإنسانية والمنفلتة من كل قيد والهادفة للكسب تكاد تحول الليبرالية إلى أيديولوجيا بنص مغلق، مثلها مثل غيرها من أيديولوجيات، وهذا هو المأزق الذي عبرت عنه تطورات 2016 مع البريكست، انتخاب ترامب وصعود الشعبوية… وهذه «الغيبوبة» في الوعي (وحماية المنظومة القيمية) جرت فرملتها مع قدرة بلدان في أوروبا على صدّ تيار القطيعة كما حصل في انتخابات هولندا وفرنسا لهذا العام.
في الألفية الثالثة وفي أواخر العقد الثاني من قرنها الأول، نستنتج بذهول العودة إلى الوراء مع صعود الأصوليات من كل حدب وصوب في زمن الهويات القاتلة. لقد تفاقم البعد الديني في الصراعات من القدس إلى ميانمار (بورما)، واحتدام النزاع السني-الشيعي وتزامن ذلك مع ما يسمّى الجهاد العالمي بتلويناته المختلفة وانتشار خطر الإرهاب الذي عززته حروب أفغانستان والعراق في بداية القرن.
تواكب كل ذلك حروب تنهش العالم العربي وتحطم دوله وإنسانه، بعد فشل داخلي وإفشال خارجي لحلم الشباب العربي بالتغيير وإحالته نحو اليأس أو الانتظار أو إلى مثالب التطرف الراديكالي ودائرته المغلقة. على الضفة الأخرى من المتوسط والأطلسي وبعيدا في أستراليا تأتي أصوات نشاز عبر تعميم الخلط بين الإسلام والإرهاب ونشر الإسلاموفوبيا.
قبل ذلك لم تطل الفرحة بلحظة اليقظة العربية أواخر 2010-2011. فكما في مجمل المسارات الثورية لا نعلم متى يبدأ الحراك الثوري ولا متى ينتهي، لكن غالباً ما يكرر التاريخ نفسه وما قيل قبل أكثر من قرنين من الزمن عن الثورة الفرنسية التي «تأكل أبناءها» ينطبق على مسارات ثورية عربية متعثرة.
يبدو أن الحلم الكبير الذي كان يراود صناع اللحظة الثورية العربية تبدد نسبياً تحت ضغط الوقائع الصعبة. لقد انبهر العالم بالطابع السلمي المميز وبقدرات الجماهير على صناعة التغيير في ميدان التحرير في القاهرة أو في ساحات درعا وحمص وصنعاء وبنغازي، عبر ضغط الكتل البشرية الذي كان ينظر إليه علماء الاجتماع السياسي -من أبرزهم غوستاف لوبون- بحذر، وأصبح مثالا يحتذى لانتفاضات الكرامة (أو حركات الناقمين Les indignés) من مدريد إلى وول ستريت. كان كل شيء يؤشر إلى أن نشوب لهيب الحرية سينتج عنه بناء مشروع حداثي يتأقلم مع أحوال العالم العربي لأن العيش الكريم والتحول الديمقراطي واحترام الفرد والحرية تندرج ضمن منظومة القيم التي تتجاوز الحضارات والثقافات والحدود. لكن اللعبتين الإقليمية والدولية بالإضافة لعدم وجود أحزاب حاملة للمشروع التغييري أو معبّرة عنه أوصل إلى مأزق تجسّد بصراعات عنيفة وتفكك مجتمعي. مما لا شك فيه أن الثورة الرقمية لعبت دورا كبيراً في اللحظة الثورية العربية من حكاية التونسيين مع الإنترنت واختراق جدار المراقبة إلى المنظمات غير الحكومية في مصر ودورها المفصلي الذي لم يره البعض إلا تحت مجهر التدخل الأميركي والغربي. أما في سوريا فكم وكم من أحزاب وقوى وتنظيمات عملت عبر «السكايب» الذي أصبح وسيلة التواصل المثلى لإسقاط سدود الخوف والطغيان. ومن الواضح أن كل الحركات والقوى الناشئة في مرحلة ما بعد «الربيع العربي» اعتمدت على وسائل التواصل الاجتماعي أكثر مما اعتمدت على أساليب الاستقطاب التقليدية. وبالطبع استفادت التنظيمات المسلّحة المصنّفة إرهابية وغيرها من الطفرة التكنولوجية التي تكرّست كسلاح ذي حدين.
لوحة: موسى النعنع
أمام تمدد « داعش» وفزاعة الإسلاموفوبيا أتى الإنذار النمساوي في ربيع 2016 حينما كاد زعيم اليمين المتطرف في النمسا يفوز في الانتخابات الرئاسية، واتصل ذلك بإطلالة وجه جديد من الفاشية مع انتشار خطاب القطيعة عبر القارات ومقولة رفض الآخر والتطرف على أنواعه وحروب الهويات والحضارات. وليس من المصادفة أن يحصل ذلك في النمسا التي تقع في وسط أوروبا، ويمكن أن تعكس كلّ ما يجري في تلك القارة من انهيار في منظومة القيم ومن تحديات متصلة بمواضيع اللجوء والهجرة وموقع أوروبا في العالم.
في العام 2016 شهدنا انهياراً في العالم «القديم» المرتسم بعد الحرب العالمية الثانية مع تلاحق أحداث مفصلية: البريكست بالتوازي مع تداعيات ظاهرتي اللجوء والإرهاب وصعود الشعبوية في أوروبا ونهجي التطرف والقطيعة حول العالم، انتخاب دونالد ترامب، الاختراق الروسي الاستراتيجي مع بوتين، المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا وتتمّاتها، الفوضى التدميرية في العالم العربي، صعود الصين كقوة شاملة وتصرف كوريا الشمالية المريب. أمام هكذا تحولات متسارعة مع ما تنطوي عليه من تصدّع في الجوانب الايجابية للعولمة واهتزاز في القناعات وكلّ ما هو يقيني، حلّ الاستحقاق الرئاسي الفرنسي حيث هناك الكثير من المواقف اللفظية أو العبارات الحادة من هذا المرشح أو ذاك حيال هذا الحدث أو تلك الدولة. لكن لم نلاحظ في العمق نقاشاً رصيناً حول تحولات 2015-2016 وأثرها المباشر والمستقبلي، وعدم وجود برامج انتخابية وأطروحات مقنعة بخصوص مصير فرنسا وتموضعها الأوروبي واستقلاليتها الاستراتيجية.
لم تكن هذه المعركة ببساطة معركة عادية وتنافسا تقليديا بين اليسار واليمين، بل هي معركة استثنائية ومميزة لجهة مستقبل الديمقراطية الليبرالية وتقرير مصير الاتحاد الأوروبي.
إن مسألة الانتماء الأوروبي لفرنسا لا تنحصر بالجانب الاقتصادي والربط باليورو، لكنها قبل كل شيء خيار حضاري لأنموذج من السلام والاستقرار والاندماج الإقليمي.
ألقت هذه «الحيرة الاستراتيجية» لفرنسا في هذه اللحظة من التحولات العالمية بثقلها على الاستحقاق الرئاسي ولو بشكل غير مباشر. لقد أسفرت نتائج الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية عن نهاية الاستقطاب الثنائي التقليدي بين اليمين تحت قيادة حزب الجمهوريين واليسار الذي يتمحور حول الحزب الاشتراكي. ونظراً لأهمية باريس في ميدان حرب الأفكار والنظريات، يدلل الانهيار الانتخابي لبونوا هامون مرشح الاشتراكيين على أزمة عميقة ليس عند اليسار الفرنسي فحسب، بل عند مجمل اليسار الأوروبي والعالمي الذي فقد قدرته على التأثير والجذب وتقديم البديل عن رأسمالية أقصى ليبرالية وعن أفكار ماركسية أو اشتراكية ديمقراطية لم تتأقلم مع العولمة ولا تتفاعل مع مرحلة تصدع هذه العولمة وتبعاتها.
إذا جمعنا أصوات اليمينية القومية مارين لوبن واليساري الراديكالي جان لوك ميلانشون نصل إلى 40 بالمئة من الجسم الانتخابي الفرنسي وهذا بحد ذاته مقلق ويدق جرس الإنذار بخصوص أزمة بنيوية في المجتمع وإشارة إلى الانكفاء نحو شعارات السيادة والهوية الخاصة، وتراجع عن منظومة القيم المؤسسة للجمهورية والآتية من فكر التنوير، مع تسجيل تراجع عام لليسار الحاكم والمعتدل أمام يسار جديد أقرب إلى أقصى اليسار مع خطاب سيادي مرتبط بالبعد الطبقي تبرز أزمة اليسار الفرنسي الحائر والمفتت وكل المناورات لا تعفيه من التفكير ملياً في أزمته وتموضعه.
يراود الأمل بعض المفكرين الفرنسيين أن يؤدي صعود أقصى اليمين وأقصى اليسار (وقبل ذلك فوز ترامب) إلى يقظة عند اليسار ليفكر من جديد وينبعث.. لكن العودة لنفس النمط من الردود الأيديولوجية لا تبدو قادرة على الإحاطة بإشكاليات حقبة العودة إلى الهويات القومية ودون الوطنية وصعود البعد الديني في الصراعات. ومن هنا يتوجب التنبه إلى أهمية التسامح بين الثقافات للخروج من مأزق الانعزال أو الصراع الحتمي.
من هنا يفترض إطلاق دينامكية خلاقة في انبعاث مختلف لليسار أو للاشتراكية ذات الوجه الإنساني. ويبرز من الاختبار الفرنسي وغيره من التجارب أننا في مرحلة مخاض فكري مفتوح الأفق وإذا كان مرفوضا الانحدار نحو الهويات «الهدامة» أو «القاتلة» للاحتماء من تداعيات الشمولية على الإنسان والاقتصاد والبيئة، يظهر أن الرهان على تكون سريع ليسار جديد فيه قدر كبير من الطوباوية، بينما يتعيّن في عصر الثورة الرقمية التفتيش على أجوبة يستنبطها جيل الإنترنت ولا يمتلكها حنين أوصياء يتبعون وصفات القرنين السالفين.
من خلال نجاح حركة «إلى الأمام» التي أطلقها الوسطي إيمانويل ماكرون في إيصال مؤسسها إلى الإليزيه، تنتصر الحركات الجديدة على الأحزاب التاريخية والتقليدية. ويتراجع دور محترفي السياسة أمام روّاد شبكات التواصل الاجتماعي المسيّسين. وهكذا مع تجربة «إلى الأمام» في فرنسا و»النجوم الخمس في ايطاليا» و»بوديموس» في إسبانيا وحركة اليسار الحديد في اليونان وغيرها نشهد انقلابا جذريا لغير صالح اليمين واليسار والقوى التقليدية. إنها ثورة تبدأ للتوّ في عالم السياسة وميدان الفكر السياسي وهي مرادفة للتجديد والثورة الرقمية.