عولمة المعلومة وهتك الأسرار
أدخلت تكنولوجيا الهاتف الجوال تحولات عميقة في مجتمعاتنا العربية، وفي سلوكات المواطن العربي، الذي بات يستأنس به في حياته اليومية وفي اهتماماته المختلفة، فالموبايل لم يعد مجرد وسيلة اتصال وتواصل فحسب، بل صار مصدرا ووسيلة وأحد الأشكال الحديثة لاكتساب وتبادل المعارف والمعلومات والثقافات، فمن أبسط صورة إلى مطالعة رواية أدبية، أو صحيفة، أو مشاهدة فيلم سينمائي، احتضن هذا الجهاز واستجمع شتات الوسائل الأخرى رغم حداثتها، ووفر لإنسان العصر الحديث ما كان يشتت جهده ووقته وذهنه بحثا عنه.
رغم حداثة تجربة انتشار تكنولوجيا الهاتف الجوال في الجزائر، مقارنة بباقي الدول العربية، فإن الجهاز عرف توسعا مطردا منذ مطلع الألفية، كوسيلة اتصال وتواصل، ثم كأداة ذات أبعاد معرفية وثقافية، وبرزت إفرازاتها مع توسع دائرة الهاتف الذكي، الذي استفاد من السوق الرائجة ومن شغف الجزائريين بمواكبة التطور التكنولوجي، لا سيما لأولئك الذين وجدوا ضالتهم في هذه الوسيلة التي تختصر ما يريده الجميع في مصدر واحد في متناول الجميع.
لتسليط الضوء على الجوانب والتفاصيل المتصلة بدور الموبايل كوسيلة وشكل من أشكال تبادل واكتساب المعارف والثقافات، وعلى الأبعاد الاجتماعية والنفسية والثقافية للظاهرة، اتصلت “الجديد” بعدد من المختصين والفاعلين والناشطين في مختلف المجالات ذات الصلة، لاستقراء أثر ثقافة الموبايل في المجتمع الجزائري، ومدلولات وجوده كواحد من الخيارات المستحدثة، لا سيما في ظل المقاومة التي تعتري كل جديد، ومدى جدواها في أن تكون بديلا ناجعا لوسائل تقليدية للمعرفة مازالت تحتفظ بمكانتها وأنصارها، فضلا عن تأثيراتها ومضامينها في تنشئة أجيال ما بعد الكمبيوتر.
المحتويات والمضامين التي تعيق طريق “ثقافة” الموبايل
تضاربت الرؤى والمواقف حول هذا الوافد الذي يؤسس لمرحلة ثقافية ومعرفية جديدة. أجيال الهاتف الذكي في الجزائر، هي بين مرحب به كبديل أو منافس شرس لوسائل التثقيف والتثاقف الكلاسيكية وحتى العصرية، وبين مؤكد على أن الطريق لن يكون مفروشا أمام الثقافة الجديدة بالسجاد الأحمر، قياسا بالمقاومة التي تتخذ من مضامينه وتأثيراته المتعددة ذريعة للتوجس منه.
الناشط الجمعوي والباحث في الشؤون التاريخية رياض بن مهدي، لا يبدي انزعاجا أو خجلا من عدم امتلاكه لهاتف ذكي، لأنه مصرّ على الوفاء لجيل الكمبيوتر، ويبرر موقفه بالقول “شخصيا لا أمتلك موبايل ذكيا، خشية أن أكون فردانيا في سلوكي، خاصة بعدما شاهدت عن كثب بعض الناس وقد أصبحوا بوجوه بشر وحركات آلات، نتيجة كثرة تعاملهم مع الموبايل وتأثرهم بالمحتويات الفارغة والتافهة”.
ويضيف بشأن مخاوفه من تأثيراته الاجتماعية “بعض الناس تجد لقمة الأكل بيمناه وهاتفه الذكي بيسراه. الكثير من الناس ومنهم حتى آباء وأمهات لم يعودوا قادرين على رعاية أبنائهم بصورة جيدة، ولا حتى منحهم قسطا من حنان الأبوة أو الأمومة، والسبب هو انغماسهم في الموبايل والتفرغ لأشخاص آخرين، بل والأكثر من ذلك الانغماس في مضامين لا تغني ولا تسمن من جوع، ولا تفيد الأسر والمجتمع في شيء”.
ويشدد على أن تأثيرات الموبايل بدأت تتجلى في شيوع ظاهرة فردانية الفرد ونزوعه تدريجيا نحو المزيد من الهجران، ليس لأصحابه وشبكة علاقاته ومحيطه فحسب، بل للروابط الأسرية، وداخل أسرة صغيرة تتكون من أب وأم وأولاد.
آلة العصر
على النقيض من هذه التخوفات، يعتبر الإعلامي الإلكتروني محمد لهوازي، المسألة عادية، فالموبايل “ككل الأجهزة الحديثة التي ظهرت مع التطور التكنولوجي، أثارت جدلا كبيرا، خصوصا في السنوات الأخيرة، حول أهميتها وسلبياتها وتأثيرها على الأشخاص وسلوكياتهم، إلا أن الواقع يقضي بأن كل تقنية جديدة لها إيجابيات وسلبيات أو هي سيف ذو حدين إن صح القول”.
ويضيف “الحقيقة التي لا مفر منها هي أن أجهزة الهاتف النقال أضافت الكثير لحياة الأشخاص وسهلت عليهم التواصل وتقريب المسافات، هذا من الناحية الاجتماعية، أما اقتصاديا فساهمت في تطوير شبكات اتصال بين المؤسسات والأفراد ووفرت الجهد والمال، وبرزت مؤسسات متخصصة فقط في تقديم الخدمات عبر الهاتف النقال، وهو ما يسهم في تسهيل مختلف مناحي الحياة في المجتمع، بما فيها التدفق الهائل للمعلومات والمعارف والثقافات”.
ويلفت إلى أن “ما لا يجب إنكاره هو بعض السلبيات التي رافقت انتشار الهواتف المحمولة، مثل المساهمة في بروز ظاهرة الفتور الاجتماعي في العلاقات بين الأفراد، حيث صارت حوارات البعض بلا روح ولا إحساس، كما ظهرت الاستعمالات غير السليمة للموبايل من طرف الأشخاص للإضرار بالآخرين كنشر الصور الشخصية والعائلية دون إذن خصوصا على شبكات التواصل الاجتماعي، أو استعمال الهاتف النقال في جنح وجرائم دون معرفة الجزاء العقابي نتيجة الجهل بالقوانين، وهو ما يعرض الكثير للوقوع تحت طائلة العقوبات المختلفة”.
ظاهرة ريفكا
عدم امتلاك الهاتف الذكي لا يخجل المتحفظين عليه، والجهل به ربما يكون من بين المقدمات التي مهدت لتكوين انطباعات الخوف والحذر من هذا الوافد الجديد، وديمقراطية الهاتف الذكي. ولعل إطلاق الحكومة لخدمات الجيلين الثالث والرابع للهاتف الخلوي بعد سنوات من المماطلة والتردد، قد كوّن شغفا لدى الجزائريين لولوج هذا العالم وطرح فئات عريضة لمكبوتاتها في غرفها المغلقة وخلواتها المستأنسة.
الشاب الجزائري المعروف على شبكات التواصل الاجتماعي بـ”ريفكا” فاجأ الجزائريين وفجر جدلا صاخبا، بعدما قدم إليه زهاء عشرة آلاف شاب أغلبهم من طلبة الثانويات والجامعات، لتهنئته بعيد ميلاده الواحد والعشرين في ساحة مقام الشهيد بالعاصمة، باعتباره أشهر شاب جزائري على شبكات التواصل الاجتماعي محليا وعالميا.
الهاتف الذكي كان المنصة الأولى لتهنئة ريفكا بعيد ميلاده. بعض متابعيه قالوا إن جدار صفحة ريفكا هو الأكثر متابعة بين الشباب، لما ينشره فيه من تسجيلات اجتماعية وفكاهية تحمل معاني ورسائل مؤثرة في مخيال وعقول الشباب.
حفل عيد الميلاد غير المسبوق في الجزائر أثار جدلا قويا في البلاد حول التغيرات العميقة في الخطاب ووسائل التواصل بين أفراد المجتمع، وما يبدو تأسيساً لقواعد ثقافية جديدة، لا سيما في ظل عجز المؤسسات الكلاسيكية (أحزاب، جمعيات ونقابات وحتى فنانين)، وفشل الجيل القديم في استقدام الحشد الهائل الذي استقدمه ريفكا إلى تجمعاتهم الشعبية، رغم تفوقهم عليه وتقديمهم لوسائل النقل والأكل وحتى مصروف اليوم.
شيء جديد
الروائي الناشر عبدالرزاق بوكبة ينظر إلى الأمر من زاوية التحولات المرافقة له فيرى أنه “لا يمكن رؤية الموبايل كشيء محايد بلا تأثيرات في تشكيل وعي جديد، بغض النظر عن كونها إيجابية أو سلبية، فذلك يُناقش في سياق خاص، بل هو يملك القدرة على إزاحة تفكير أو سلوك مكرس في مقابل خلق سلوك أو تفكير جديد”.
ويستدل على ذلك بكون “مفهوم الهوية، قبل هيمنة الموبايل على حياتنا، اختلف عما هو سائد اليوم، ففي زمن الهاتف الثابت، كان السؤال الذي نطرحه عند تلقي مكالمة هاتفية هو ‘من أنت؟’، لمعرفة هوية المتصل. مع الموبايل، بات اسم المتصل يطلع لنا مسبقا مع موسيقى وصورة مميِّزتين له، لذلك فإن السؤال الذي نطرحه هو ‘كيف حالك؟’، وهو ما يعني أن الموبايل نقلنا من سؤال الهوية إلى سؤال الحالة، بكل ما يترتب عن هذا التحول من ثمار على مستوى التفكير والسلوك والقاموس″.
وباتت موبايلات النخب الثقافية والسياسية والاقتصادية في الجزائر، منصة لنشر واستقبال الأفكار والآراء، بفضل خصوصياتها الفنية ومرونة حجمها مع الحركة الجسدية، فذكاء الهاتف من ذكاء صاحبه برأي البعض، والعبرة بالمحتوى والمضمون، وليس بالتباهي أو إفراغ عقد نفسية واجتماعية أمام الآخرين.
والموبايل بالنسبة إلى من يعتبره مرادفا لطيش الشباب وينعته بـ”المراهقة الإلكترونية”، لاختطافه عقول مستعمليه هو بمثابة إدمان من نوع جديد، لا يختلف عن الإدمان على مواد ووسائل أخرى، لكن الأرجح اليوم بين الشباب أن الغالبية سلمت بحتمية ركوب قطار العصر خوفا من التخلف عن الركب، وتضييع فرصة قد تتحول إلى عقدة في المستقبل.
السياسيون وممتهنو الاتصال وصناعة الرأي العام لا بد أنهم وقعوا تحت صدمة قوية بسبب حشد ريفكا، الذي سرّع خطوات الموت التدريجي للخطاب السائد والوسائل الكلاسيكية، لا سيما مع إظهاره قدرة فائقة في التأثير على الشباب، وهو ما عجزت عنه أقوى الأحزاب السياسية وأعتى المؤسسات الإعلامية في البلاد. بعض المعلقين دعا إلى توجيه رسائل التحذير للجميع من مفاجآت أمثال ريفكا، ومن تأثير العالم الافتراضي في صناعة العقل والثقافة الجديدة في المجتمع، ومن مخاطر سرقة الشباب الجزائري من حضنه الاجتماعي والأسري.
نظرة منفتحة
الباحث في علم الاجتماع مصطفى راجعي علق على المسألة بالقول “إنها ظاهرة طبيعية، لأنها تترجم حالة الارتباط الوثيق بين هؤلاء الشباب وبين وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الاتصال الحديثة، وأن الجيل الحالي من الشباب له اهتماماته وتوجهاته في الحياة، ويحاول التعبير عنها وتقاسمها مع الأصدقاء على منصات التواصل الاجتماعي، وسلاحه في ذلك هاتف ذكي لا غير”.
ولفت إلى أن “الظاهرة الجديدة من شأنها أن تحرج الطبقة السياسية باختلاف توجهاتها، لأن هؤلاء الشباب باتوا قادرين على تعبئة الجماهير في وقت عجز فيه بعض السياسيين عن ذلك، بسبب إصرارهم على التواصل مع الشارع بواسطة وسائل تقليدية تجاوزتها التطورات”.
نظرة محافظة
على النقيض من ذلك يذهب المختص في شؤون السوسيولوجيا والبيداغوجيا رابح الأصقع، إلى أن “الحديث عن ثقافة الموبايل يقودنا للحديث عن الثورة المعلوماتية والثروة الاقتصادية وسط هذا الانفجار المعرفي الهائل، وكل هذه الوسائط التكنولوجية الحديثة والشبكات العنكبوتية، فهذا العنكبوت الذي امتدت خيوطه إلى كامل المعمورة لاصطياد فريسة العصر الإنسان، من أجل الاستيلاء على فكره واستلاب ثقافته ومرجعيته الدينية، الاجتماعية والثقافية بكل كيانه لتختزل في مصطلح واحد هو ثقافة الزر”.
ويشاطره في ذلك رئيس جمعية “شامة” التاريخية بمدينة برج بوعريريج رياض بن مهدي، ليؤكد بأن “الموبايل لم يعد وسيلة أو جهازا بسيطا للتواصل اللاسلكي التقليدي، فهو اليوم يمتاز بــ’الذكاء’، وهو يطلعنا على التوقيت والتاريخ وأحوال الطقس وخرائط البلدان والعالم، وسيلا من المعارف والمعلومات، وكل هذا في اعتقادي جعل منه أكثر جاذبية لكل الناس بمختلف مستوياتهم المعرفية والعلمية وحتى الاجتماعية، ففيه تذوب كل الفوارق بين الناس من حيث الاستعمال والاستهلاك وليس من حيث طريقة ومنهجية الاستعمال”.
ومع ذلك يعترف المتحدث بأن الموبايل وفر ديمقراطية المعلومة والمعرفة للبشرية، فقد أذاب الفوارق الشاسعة في الحصول على المعلومة باختلاف أنواعها ومصدرها، فما يمكن للبروفيسور أن يطلع عليه بكبسة واحدة على زر في الموبايل، هو نفسه ما يمكن أن يطلع عليه شخص آخر محدود المعرفة العلمية أو الثقافية بنفس الحركة على جهاز مماثل.
ويضيف “لقد أتاح الموبايل للجميع وفي كل بقعة من بقاع العالم الحصول على تيار جارف من المعلومات في لحظة واحدة، باعتباره حاملا أو وسيطا تكنولوجيا حديثا، لا يقل تأثيره وسرعته في نشر المعلومة عن سرعة الكمبيوتر بل وأسرع منه حتى”.
ويخلص إلى أن “تأثيراته متفاوتة القوة بين شخص وآخر، وفق المستوى التعليمي والتكويني لكل فرد، وحسب تعلق الفرد بهذا الجهاز وطبيعة المحتوى أو الاهتمام الذي يربطه به كخيار لاكتساب معرفته وثقافته والاطلاع على العوالم التي قد تكون مفيدة كما قد تكون ضارة وهدامة”.
ثقافة الموبايل سطحية ومعلبة
رغم ما يوفره الموبايل لأصحابه وتحوله في ظرف وجيز إلى مصدر ثري لكل ما يحتاجه الفرد في حياته، إلا أن هناك من يبدي تحفظا عليه وعلى تأثيراته ومضامينه المشكوك في نزاهتها وخدمتها، خاصة وأن دراسة أعدتها المختصة في علم الاجتماع بجامعة قسنطينة سوقال إيمان، تشير إلى أن استعمال الجهاز في الجزائر، تستحوذ عليه شبكات التواصل الاجتماعي بالدرجة الأولى 60 بالمئة، وتأتي مثلا القراءة والمطالعة في ذيل ترتيب اهتمامات مستعمليه.
ويتساءل في هذا الشأن المختص في الشؤون الاجتماعية والتعليمية رابح الأصقع “إذا كانت ثقافة الموبايل هي الطريقة الأنسب للحصول على المعارف، فأي معرفة نقصد؟ خاصة إذا كانت هذه المعرفة تميل إلى السطحية، بل معلبة وموجهة للاستهلاك لا غير، وهل هي معرفة حقا؟ وإذا كانت العلوم والمعارف لا حدود لها، فكيف تختزل في موقع محتكر ضمن ملكية خاصة، يمتلك صاحبها مفاتيح الصياغة والتصرف والتأويل؟ إذ يجب أن نفرق بين المعلومة والمعرفة”.
ويضيف “هذه الوسائط التكنولوجية، ومنها الموبايل هي مخازن وفضاءات للتسويق المعلوماتي وليس المعرفي بمفهوم المعرفة. كما تدخل ثقافة الموبايل كظاهرة دائمة التفاعل في إطار ما يسمى بالظاهرة الاجتماعية، حيث أصبح الفرد أسير جهازه، وأمسى أيضا ظاهرة تلقائية”.
مخاوف النخبة الحاكمة
يرى خبراء جزائريون في مجال الاتصالات أن “تأخر وتردد الحكومة في إطلاق خدمة الجيلين الثالث والرابع للهاتف الخلوي إلى غاية العام 2016، مردهما إلى مخاوف لدى النخبة الحاكمة من مساهمة التقنية في إحداث ثورة على الحرس القديم في السلطة، التي كانت تعتبر سيولة المعلومات والمعارف بواسطة الخدمة في الهواتف الذكية، ستهدد عرشها السياسي”.
ويذهب آخرون إلى أن “الهاتف الذكي رغم ما يوفره لصاحبه من خدمات وفرص الاطلاع والمطالعة، فإنه يبقى مجرد وسيلة والمستعمل هو المسؤول عن مضامينه ومحتوياته، وهو ما يفضي إلى أنه لن يكون وحده في صناعة الوعي الجماعي للأفراد”.
وفيما يصنف المختصون في علم الاجتماع الهاتف الذكي كوسيلة جماهيرية سابعة، باعتباره يتيح التفاعل مع المعلومة بشكل شخصي وفردي، ودائم الاشتغال، واستعماله المكثف حيث يأخذه البعض حتى أثناء فترة النوم، فضلا عن مرونة طريقة التعبئة، والطبيعة المحفزة على الإبداع من خلال التفنن في صناعة محتوياته وتصميمها وإثرائها والتفاعل معها، فإن المختصة في علم الاجتماع إيمان سوقال، خلصت في دراستها إلى أن الهاتف الذكي يمثل مرحلة ما بعد الكمبيوتر بكل أبعادها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
ولفتت إلى أن استعمال الهاتف الذكي في الجزائر، يسجل أعلى معدلاته في الفترة الممتدة من التعليم الثانوي إلى الجامعي، وتأتي بعدها مرحلة التعليم المتوسط، بالنسبة للفئات المتعلمة، وأن فترة استعماله تصل حتى إلى عشر ساعات في اليوم، وتنزل إلى ساعة واحدة يوميا، في حين يبرز آخرون بأن المسألة تشمل كل الفئات الاجتماعية ولو بشكل متفاوت.
وتصب الدراسة الاجتماعية في وعاء تأكيد الاستعمال المختصر والسطحي، مما يبقي دور ومفعول الوسائل الأخرى قائما وجديا، حيث كشفت عن أن ستين بالمئة من المستعملين يوظفونه في شبكات التواصل الاجتماعي، وأكثر من 20 بالمئة في تحميل التسجيلات، وأقل من عشرة بالمئة في الاتصال، وحوالي خمسة بالمئة في كتابة الرسائل الإلكترونية، وغابت عن الجدول القراءة أو المطالعة.
ولو أن هناك من يشدد على أن الموبايل أتاح للناس إمكانية كبيرة ومرنة للحصول على ثقافة أوسع وبطريقة أسرع، فالعالم اليوم صار أقل من قرية واختصر في هذا الجهاز العجيب، لأن صحافة المواطن مثلا أصبحت ملاذا لرواد متابعة التطورات، بل وحتى مصدرا لوسائل الإعلام الكلاسيكية.
وهو ما يذهب لتأكيد تأسيس الموبايل لمقاربة جديدة في الاستفادة من محتوياته عبر الاكتفاء بالاختصار والقاموس اللغوي غير الموضب، وإلى طغيان التباهي ومواكبة الأحداث والتطورات على مبررات اكتساب الموبايل في الجزائر، بدل استعماله في الأغراض المفيدة.
الإبحار دون بوصلة
القراءة والمطالعة آخر اهتمامات جيل الموبايل. ويرى في هذا الشأن أستاذ البيداغوجيا رابح الأصقع، أن “المصممين والمنفذين لهذه الثروة المعلوماتية درسوا أولا طبيعة الظاهرة الاجتماعية والسلوك البشري الفكري والعملي، قبل أن يصبح الموبايل الوسيط والخلوي المكشوف والمراقب، هو الملاذ الوحيد والمفروض على من يفضل ‘الإبحار’ لكن دون بوصلة”.
ويضيف “هذا الصغير في حجمه والكبير في مهامه المسيطر المرن والناعم، ويعري كياننا ويزيل مرجعية كل أمة، هو أحد أوجه العولمة والفرد العالمي، فلقد أصبح الفرد خاصة الشباب والطلبة يعيشون عالما افتراضيا منتجا لأمراض نفسية كالإحباط واليأس ناهيك عن عولمة الأسرار والخصوصيات، فالعائلة الجزائرية اليوم لم تعد محصنة كما في الماضي، فصفحتها وجدارها على شبكات التواصل الاجتماعي، هما مرآتها أمام العموم، سلع لسوق اقتصادي، ومنها فقدان الكيان وروح الانتماء”.
من التخبط إلى النضج
بخلاف ذلك، يرى أن الدول والمجتمعات المتقدمة تجاوزت حاليا هذه المراهقة المعلوماتية، ووصلت إلى مرحلة النضج، من خلال العودة إلى أقسام التدريس بالسبورة والطباشير، ومن اللوحة التفاعلية إلى الإنسان التفاعلي، وتوظيف كل هذه التكنولوجيا بمختلف وسائطها في تسهيل الحياة وتذليل المصاعب واستثمارها في مختلف القطاعات كالزراعة والطب والاقتصاد، في كل ممتلكات الحياة قيمة مضافة لا وسيلة هدامة”.
ولكن الناشر والروائي يذهب إلى أن مفهوم الخلوة، كان يعني في السابق انفراد الشّخص بنفسه، حيث يصبح معزولا عن العالم القريب والبعيد، أما الخلوة اليوم التي أحدثها الموبايل، فيمكن للفرد أن يكون بمفرده في غرفته، لكنه في الوقت نفسه يكون متصلا مع هذا العالم، بكل ما يترتب عن فعل الاتصال من أفعال كثيرة، منها مثلا فعل الجنس جزائريا.
ويضيف “يكاد عدد الهواتف النّقالة يقترب من نصف عدد السكّان أو يزيد بقليل، لكن المنظومات المعنية برصد التحولّات في المجتمع، لم تتحرك لرصد الثمار الناتجة عن هذا المعطى على مستوى السلوك والتفكير والقاموس والتواصل. بل إن المنظومة الجامعية والأدبية والثقافية نفسها لم تواكب هذا، إن لم نقل إن شطرا منها بقي ينظر إلى الموبايل نظرة اشمئزاز أو توجّس أو رفض، حتّى أنّك تجد مثقفا يتفاخر بأنه لا يملك هاتفا ذكيا في ظل واقع يقول إن ثمة تحولات عميقة في الشّارع الجزائري، حيث نستطيع تجاوز معطى العشريات في تصنيف الأجيال، إلى تصنيف جديد فنقول جيل ما قبل الموبايل وجيل ما بعده”.
المنظومة الوصية لم تواكب ثورة الموبايل في المجتمع. ويمثل الموبايل للكثير من النخب الفنية والأدبية، منصة للتفاعل المرن والترويج المجاني لأعمالهم وأفكارهم، فقد وفر عليهم عناء استنزاف وقت طويل مع الوسائل الأخرى، ومكنهم من ربح معركة سرعة الحياة العصرية، لا سيما المرتبطين والناشطين على شبكات التواصل الاجتماعي، الذين وجدوا ضالتهم في الهاتف الذكي.
وبينما يقوم بعض الأكاديميين في المراكز والمناصب التقنية، باستعمال الموبايل بتحفظ، بسبب خوفهم من سرقة وقتهم والتشويش على تركيزهم في أعمالهم الدقيقة، يلجأ الكثير من وجوه الأدب والفنون إليه كوسيلة فعالة للتعاطي الفوري مع شيطان الإلهام ولحظة المخاض غير الملتزمة بدقة المواعيد.
لا لمقاومة الموبايل
حول حظوظ وجدية معركة المقاومة التي يبديها البعض، يعتبر الإعلامي محمد لهوازي مصطلح مقاومة وجود الهاتف النقال غير مجد، والحديث عن ذلك مجرد عبث، لأن التقنيات الجديدة لا يمكن رفضها والانكفاء عنها، بل يجب استغلالها والاستفادة منها قدر الإمكان، لأن العالم أصبح قرية صغيرة، وبدل الحديث الذي نسمعه هنا وهناك عن مساوئ الهاتف النقال، كان الأحرى هو دعم وتطوير مضامينها ومحتوياتها.
ويذهب إلى أن المساهمة التقنية يمكن أن تكون منصة لمنتوجنا الثقافي والمعرفي، وأن سيرورة هذه التقنية في هذا الاتجاه تعود إلى احتكار إنتاجه من طرف شركات وثقافات معينة، وأن الإشكال الجوهري يوجد في علاقة المستخدم بالموبايل وكيفية استخدامه وليس في الجهاز في حد ذاته.
ولأن المتحدث من المستشرفين بزوال الصحافة الورقية في العالم، رغم الصمود الذي تتصنعه المؤسسات الإعلامية في الجزائر، فضلا عن شغفه بالتكنولوجيات الحديثة للنشر في قطاع الإعلام، لا سيما في ظل الانتقال التدريجي من الوسائل الأخرى إلى ما بات يعرف بصحافة الموبايل أو النشر في الموبايل، سبب في انتقاله من الصحافة التقليدية إلى عالم الصحافة الإلكترونية، الذي يصفه بـ”المتشعب والمغري في نفس الوقت”.
وذكر بأنه “استفاد كثيرا من الدورات التكوينية في هذا المجال، خاصة لدى تلك المنظمة من طرف جهات باتت تملك تقاليد في هذا السياق، وهو ما جعله يحمل رؤية متفائلة بمستقبل ثقافة الموبايل، ويجهر بحتمية التفاعل مع هذا التطور بالشكل الإيجابي كي لا تتحول الأجيال الصاعدة إلى رهائن لدى محتكري القطاع، وذلك عبر ضرورة الحضور والتفاعل والاستفادة من تجارب الآخرين”.
المغامرة المفتوحة
وفيما يرى أن “استعمال الهاتف الذكي يتزايد بشكل كبير للتواصل بين الشباب، لأنهم لا يريدون أن يفوتهم الجديد، أو أن يبقوا معزولين عن العالم الخارجي، وأن إدمان الشباب اليافع على مواقع التواصل وتعلقهم الدائم بالهواتف النقالة باتا مألوفين في كل دول العالم، ومنها الجزائر، فلا تخلو وسائل النقل اليوم من شباب غائبين تماما ذهنيا ولا يهتمون بمحيطهم، غير أنهم يتفاعلون مع هواتفهم الذكية بحركات رؤوسهم وتعابير وجوههم”، فإن الناشط الجمعوي رياض بن مهدي، يتوقع أن تأكل التكنولوجيا نفسها بنفسها، على رأس عباقرة الكمبيوترات ومخترعيها، وأن الجزائريين لم يبلغوا بعد الفهم الحقيقي لدور الموبايل، ولا حتى معرفة فوائد استعماله أو ما الذي يمكن تجنبه وكيف نتجنبه، ومتى نتيح لأنفسنا فرصة الاطلاع على مضامين الموبايل ومن ورائها مضامين الشبكة العنكبوتية.
وحول ما إذا كان يمكن للموبايل أن يكون بديلا أو مكملا للوسائل الأخرى التي تضطلع بنشر المعارف والثقافات وتساهم في تعميمها، يرى محمد لهوازي أن “بنظرة بسيطة للواقع نلاحظ أن أجهزة الهاتف النقال طغت على الحياة اليومية للأشخاص، وأصبح الفعل الثقافي عبر الوسائط الحديثة أكثر استقطابا للمتابعين للشأن الثقافي، مقابل تراجع وسائل التثقيف التقليدية مثل الكتب والجرائد المطبوعة بشكل ملحوظ لصالح الأجهزة الخفيفة المرتبطة بالشبكة العنكبوتية وعلى رأسها الهاتف الذكي”.
المقاومة ستخسر الرهان
يضيف لهوازي “بالحديث عن هذا الموضوع أود التذكير بأن عدد مستخدمي الهواتف النقالة يقدر في سنة 2018 بحوالي 4.93 مليار شخص، حسب مراكز إحصائيات عالمية، وفي الجزائر عدد المشتركين في الهاتف النقال 45.817 مليون مشترك سنة 2016 و45.845 مليون سنة 2017، حتى أصبح هذا الوضع يطلق عليه (اكتظاظ) سوق الهاتف النقال، ما يعكس شغف الفرد الجزائري بهذه التطورات لدرجة اشتراكه في أكثر من متعامل”.
ويتابع “إن هذه الأرقام ستواصل الارتفاع مستقبلا باطراد، وهو ما يفضي إلى أن ثقافة الموبايل في الجزائر فرضها الواقع وغزو التكنولوجيا الحديثة، واعتماد أساليب الإبهار لكسب المزيد من الأشخاص المستعملين للتقنيات الجديدة التي توفرها أجهزة الهواتف المحمولة المرافقة لمختلف مناحي الحياة، ويزداد التعلق بها يوما بعد يوم، وهنا يتوجب التنويه في هذا الخصوص إلى أن ما توفره هذه الهواتف من مادة ثقافية يفوق ما تقدمه الكتب والمجلدات الكثيرة، واختصرت الموبايلات الوقت والكيف، وقدمت خيارات لامتناهية من الأطباق الثقافية المتنوعة وما على المتلقي سوى الاختيار”.
ويخلص إلى أنه “بالنظر إلى هذا يجب الإقرار بأن ثقافة الموبايل ستستمر في التطور والانتشار مستقبلا، وطالما تطورت وسائل الاتصال أكثر فإنها ستساهم أكثر في توسع فئات المجتمع التي تستخدم الهواتف النقالة كوسيلة للتثقيف والتثاقف”.
ولمدمني هواية التوثيق بالصورة والصوت، علاقة حميمية مع هذا الجهاز لما يوفره من إمكانيات تقنية وقدرة على تحقيق السبق، فالنجومية أحيانا تتحقق بلحظة الحدث وبهاتف ذكي، ليصبح صاحبه ألمع من مذيعي ومحرري ومراسلي وسائل الإعلام الكبرى، وهو الأمر الذي حوله في بعض الأحيان إلى المستهدف الأول لمصالح الأمن، التي تتدخل بأي شكل في بعض المواقف، لمنع التصوير أو التسجيل وافتكاكه من أصحابه، لأن أصحاب القرار يريدون التعتيم على المسألة.
قلق المحافظين
مع ذلك يبقى الهاتف الذكي مصدر صداع وقلق حقيقيين، بالنسبة لمسؤولي ومنتسبي قطاع التربية والتعليم في الجزائر، بسبب مساهمته الكبيرة في انتشار طرق الغش الإلكتروني، الذي أوصل مصداقية الامتحانات في بعض المواسم إلى حافة الانهيار، فكشف بذلك عن وجهه السلبي وعن المفاهيم الخاطئة المتكونة لدى فئات عريضة من الطلبة والشباب، في توظيف التكنولوجيا في ما يسير عكس تيار بناء الفرد والمجتمع.
ولم يسلم أحيانا من انتقادات حتى رجال الدين، حيث أدلى الناشط والشيخ شمس الدين الجزائري بفتوى تكره استعمالات الهاتف الذكي في بعض الخصوصيات العائلية والمواقف الحساسة كالموتى والجثث والحوادث الدامية، وهو ما يعكس مدى قدرة الموبايل على كسر الحواجز والتابوهات، في خطوة تؤسس إلى عولمة المعلومة وإخراج الأسرار من جدرانها لجدران المدونات الإلكترونية.
ومع أن الكثير استهجن الصور التي بثت على شبكات التواصل الاجتماعي لضحايا انفجار أنبوب الغاز بضاحية براقي بالعاصمة مؤخرا، وهم عراة في درجة متقدمة من الإصابة بالحروق، إلا أن البعض الآخر أشاد بها واعتبر الموبايل هو الذي كشف درجة الضرر ولولاه لتم التكتم على الأمر، بدعوى احترام المشاعر وأخلاقيات المهنة.