غائب وحاضر في آن
لماذا أكتب الشعر؟ لقد ارتبطت القصيدة عندي بالأمل، كانت لديّ آمال عراض، وكان الشعر يعبّر عن شيء من مكاني في هذا العالم، ونقدي له، ومحاولتي أن أقول كلمة، وأن أبثّ روحي في كون أراه يحتاج إلى مثل هذا، يحتاج أنفاس الشعراء ليستشعر جمال العطر، وضوء القمر، وقبح الموت، ولعلّنا أمام خيارين الآن في هذا الواقع المؤلم: أن تكتب الشعر أو لا تكتبه، وأما أن تكتبه، فإنّك سترتدّ إلى ذاتك وتأملاتها الخاصّة، أو تحاول عيش وهم ما، يمكن أن يكون، فالواقع لم يعد فيه شيء مخفيّ، والمستقبل لا يخفي المعجزات، فالمنظور أمامنا الآن لا يقود إلى أي أمل.
هل لديّ مشروع شعري؟ أظن الإجابة في سؤال: لماذا تكتب الشعر، فالمشاريع الشعرية، كما أرى، ذهب زمنها، هذا الزمن هو زمن الوجبات السريعة، واللقطات الذاهبة في حينها، وربّما يتشكّل عند بعض الشعراء ما يشبه المشاريع الشعرية من أسلوبهم الخاص في كتابة القصيدة أو الشعر، ولكنّ المشاريع الشعرية انتهت، وفشل أصحابها في إيصالها للمتلقي كما يريدون، وأكثر من ذلك: أين المتلقي الذي يعوّل عليه الشاعر ليلقي إليه بمشروعه الشعري، ويراهن على نجاح هذا المشروع أو فشله؟ ليس لديّ أيّ مشروع شعري، وقد قال أهلنا “ما لم يخرج مع العروس لا يتبعها”، كتبت جزءا كبير من مشروعي الشعري قبل الخمسين، وكان متمثلا بالقصيدة الملحمية الدرامية، ولم تتلق ما أريد لها من تلق، صحيح أنها لقيت تجاوبا من النقاد والأكاديميين، ولكن هذا لا يكفيني، لأنني كنت أريد لها أن تكون بداية لثقافة شعرية خاصة تتجاوز فيها القصيدة الحالة الغنائية الزائلة، وتذهب إلى الدرامية الملحمية التي تستوعب الحالة العامة، وتستوعب استدخال الرموز والرمزيات الخاصّة، مع حفاظها على الإطار الشعري العربي الأصيل، وقد تمثل مشروعي بمطوّلة “الصعود إلى مؤتة” ومطوّلة “أغنية ضدّ الحرب”.
في الزمن الحالي لا يوجد شعراء مهمّون أو غير مهمّين، المعيار غائب وحاضر في آن، فالمقاييس متنوعة، فإلى جانب مقياس النقاد هناك مقياس الجمهور، والجمهور لا يذهب إلى المكتبات لشراء ديوان شعر، أو تتبع شاعر، إن الجمهور الآن ينتظر ما تقدّمه الفضائيات من شعراء، ويقارن بين شعراء كلّهم يشتركون في المدرسة الشعرية الواحدة، المدرسة التصويتية الشعبية، المدرسة الخطابية، ولا يمكن أن يدخل شاعر تأمّلي إلى مسابقات شعرية متلفزة تبحث عن الجمهور، لذك برز شعراء اجتاحوا الجمهور اجتياحا وهم لم يكتبوا شيئا جديدا أكثر من استعطاف الجمهور للتصفيق، ولا أريد أن أذكر أسماء فهي معروفة.
الشعراء المهمّون بنظري غائبون مغيّبون لا يقرأهم إلا أصدقاؤهم من الشعراء والنقاد، ولو قلنا إن الشاعر الفلاني مهمّ: من يسمعنا؟ ومن يهتم برأينا؟ إذا كان أساتذة الجامعات الآن ذاهبين إلى التراجع الرهيب في مستوى تذوقهم للأدب نتيجة غياب الأساتذة الكبار، وغلبة التعيينات المرتجلة في الجامعات وفي أقسام اللغة العربية، فما تقول إن قلت إن من يحمل درجة الأستاذية في الشعر الحديث ولم يقرأ السياب أو محمود درويش؟ هذه حقيقة وليس تجنّيا على أحد، ماذا نقول في هذا؟ وربما يكون مثل هؤلاء محكّمين يميّزون بين الشاعر المهم أو غير المهمّ.